رأى

أكرمنى الله من أجلها

أحمد إبراهيم

بقلم: أحمد إبراهيم

إذاعي وكاتب صحفي

كنت فى الصف الرابع الابتدائى وأصغر أشقائى الستة حينما توفى والدى «عليه رحمة الله» قبل 43 عاماً، وتحملت والدتى المسئولية بالكامل، كانت شعلة نشاط، قبل شروق الشمس حتى غسق الليل تنام مبكراً لتبدأ رحلة كل يوم، سنوات طويلة حرمت نفسها من الراحة ومتع الدنيا من أجل أبنائها وأحفادها، لم تذهب إطلاقاً لطبيب وبسبب ارتفاع الضغط، حيث علمنا بعد ذلك أنها كانت مريضة به ولكنها لا تشتكى، أصيبت بجلطة دماغية.

منذ 15 عاماً بالتمام عقب عودتنا مباشرة (أنا وهى وزوجتى) من الأراضى المقدسة بعد أداء عمرة أواخر رمضان 2005، ومنذ ذلك التاريخ حتى وفاتها الخميس الماضى 4 يونيو 2020 وهى ملازمة للفراش، لأن نصفها الأيمن بالكامل لا يتحرك مع صعوبة الكلام والذاكرة، ذاقت كل أنواع الألم وكانت صابرة ولسانها ينطق بدعاء واحد فقط من كلمتين «ربنا يكرمك»، ورغم أنها غير مدركة للمكان ولا الزمان إلا فقط يوم وصولى إليها المنصورة، والذى حاولت الحفاظ عليه طوال خمسة عشر عاماً ثم لا تنام ليلة عودتى للقاهرة إلا بعد الاطمئنان أننى دخلت منزلى.

«ربنا يكرمك» دعوة أمى لى وهى فى صراعها الطويل مع المرض كانت مستجابة، حيث أكرمنى الله بحب الناس ونزع من قلبى الحقد والكراهية والحسد والكبرياء والنفاق وزرع بدلاً منها عفة اللسان وحب الخير والتواضع والتسامح وصفاء النفس والسعى لخدمة الجميع، بسبب دعوة أمى أكرمنى الله بالحرص قدر استطاعتى أن يكون قولى مثل فعلى وظاهرى هو باطنى، وإن لم أكن مصدراً للخير فلا أكون سبباًً للشر.

الله أكرمنى بنعمة القناعة والاستغناء، فجميع المجالات التى عملت فيها والوظائف التى توليتها فى وزارات عديدة جاءت إلىّ ولم أذهب إليها أو أطلبها إطلاقاً، بفضل دعوة أمى وهى فى صراعها الطويل مع المرض رزقنى الله وأكرمنى فى صحتى وإخلاصى ونجاحى فى عملى وعدم السعى للحصول على ما لا أستحق أو أطالب بمخالفة الشرع والقانون بل تنازلت كثيراً عن حقوقى المادية اعترافاً بفضل بلدى الذى أعشقه.

أمى لم تكن متعلمة ولكنها كانت مدرسة فى العمل الجاد والسلوك الطيب المنضبط، لم أسمع منها لفظاً خارجاً ولا عملاً مشيناً أو إيذاء أحد، قلبها لا يعرف الكراهية، وظنى أن مرضها الطويل لم يكن لتكفير عن ذنب ارتكبته ولكن للتكفير عن ذنوبنا نحن وتعظيم أجور القائمين على خدمتها بكل حب وإخلاص، نعم الله علىّ لا تحصى ولا تعد بفضل دعوة من أكرمنى الله لأجلها، التى رحلت عن دنيانا بعد 83 عاماً قضتها ما بين العمل والمرض، والتى أتمنى أن يكون يوم لقاء ربها هو أفضل أيامها ويجعل مثواها الجنة.

لدى رصيد من الكتابة ربما تجاوز 3000 مقال على مدار 12 عاماً فى هموم الوطن وأحلام المواطن، ولكن هذه أول مرة أتناول فيها عن أموراً شخصية ولم أجد أفضل من أمى لكى أكتب عنها، وهى مثل ملايين الأمهات المصريات اللائى يفنين حياتهن ويحرمن أنفسهن من أجل أولادهن ويدركهن المرض أو الموت قبل الاستمتاع بحياتهن.

الأم المصرية عظيمة فى كل زمان ومكان وفى الأرياف تحديداً، حيث صعوبة الحياة ربما لا تتعلم ولكنها تُعلم أبناءها القيم والأخلاق والانضباط قبل العلم فى المدارس والجامعات، كل أم مصرية وراءها قصة كفاح طويلة وأيام الشقاء فى حياتها أكثر من السعادة.

إن العين لتدمع والقلب ليحزن على فراق من أكرمنى الله من أجلها، ولكن لا نقول إلا ما يرضى ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله تبارك وتعالى أن يلهمنا الصبر والسلوان ويرحم جميع أمهاتنا.. اللهم آمين.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى