حين تتكلم الأرض: حوار بين المخلفات الزراعية والتصنيع الغذائي

بقلم: د.أميمة محمد دويدار
باحث أول بقسم بحوث تكنولوجيا المحاصيل بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية – مركز البحوث الزراعية
في عالم يسعى إلى التطور والإنتاج، كثيرًا ما نسمع صوت الآلات في الحقول والمصانع، لكن نادرًا ما نصغي إلى صوت المخلفات الزراعية — ذلك الصوت الصامت الذي يحمل في طياته حكاية عن الإهمال والفرص الضائعة.
وحين يبدأ التصنيع الغذائي بالحوار مع هذه المخلفات، تتغير المعادلة؛ فبدلاً من أن تكون عبئًا على البيئة، تتحول إلى كنز خفي يدعم الاقتصاد ويحافظ على استدامة الحياة.
يقول المخلف الزراعي: “أنا لست بقايا بلا قيمة، أنا جزء من دورة الحياة. فيّ غذاء للنبات، وطاقة للإنسان، وفرص للمبتكرين، وقيمة مضافة للغذاء.”
المخلفات الزراعية ليست نفايات كما يُظن، بل هي مواد خام ثانوية يمكن أن تعود إلى دائرة الإنتاج.
فمن قش الأرز يمكن إنتاج الورق والأسمدة العضوية، ومن بقايا القمح والذرة تُصنع الأعلاف، ومن قشور الفواكه والخضروات تُستخلص مركبات غذائية ودوائية تقوم بدور وظيفي، مثل مضادات الأكسدة، واستخلاص بعض الفيتامينات، واستخلاص الدوبامين من قشور الفول الأخضر، والبرولامين من قشر الأناناس.
إنها تتحدث لغة الاستدامة، وتطلب فقط من الإنسان أن يسمعها بعين الباحث لا بعين المتخلص منها.
يقول التصنيع الغذائي: “أنا اليد التي تحول الفكرة إلى منتج، والموارد إلى غذاء. لكنني بحاجة إلى شريك لا يهدر بل يعيد التدوير.”
لقد تطور التصنيع الغذائي ليصبح أكثر ذكاءً ووعيًا بيئيًا. فبدل التخلص من بقايا الإنتاج، أصبح يسعى إلى إعادة استخدامها.
ففي مصانع العصائر، تُستخدم قشور الفواكه لإنتاج ألياف غذائية، ومواد نكهة، وزيوت عطرية، ومساحيق طبيعية لإزالة الأحبار من مخلفات الأوراق لإعادة تدويرها.
وفي مصانع الألبان، تُحوَّل مخلفات المصل إلى بروتينات وأحماض أمينية مكبوسة تدخل في الصناعات الغذائية والطبية.
وفي مصانع الحبوب، تُستغل النخالة لصناعة خبز صحي وغني بالألياف.
إن التصنيع الغذائي حين يتحدث، يدعو إلى اقتصاد دائري لا يعرف الهدر، بل يرى في كل بقايا فرصة جديدة للإنتاج.
لغة الاستدامة المشتركة
في هذا الحوار بين المخلفات الزراعية والتصنيع الغذائي، يولد مفهوم جديد: الاقتصاد الأخضر، حيث يتحول الهدر إلى مصدر للربح، والمخلفات إلى موارد جديدة.
فالاستدامة ليست شعارًا بيئيًا فقط، بل هي استراتيجية اقتصادية تضمن بقاء الموارد للأجيال القادمة.
وحين تتبنى الدول هذا المفهوم، فإنها تخطو بثبات نحو أمن غذائي وبيئي متوازن.
أمثلة من الواقع
ـ في مصر، يتم تحويل قش الأرز إلى سماد عضوي ومواد بناء، بعد أن كان يُحرق ويسبب تلوثًا.
ـ في إيطاليا، تُستخدم بقايا عصر الزيتون في إنتاج مضادات أكسدة تُستعمل في الأغذية الصحية.
ـ في الهند، يتم تحويل قشور الموز والمانجو إلى مكونات غذائية طبيعية ومكملات صحية.
هذه التجارب تُثبت أن الحوار بين المخلفات الزراعية والتصنيع الغذائي ليس خيالًا، بل حقيقة تكنولوجية واقتصادية ناجحة.
حين يتحدث المخلف الزراعي والتصنيع الغذائي، نكتشف أن بينهما لغة مشتركة من العطاء والاستدامة.
فالمخلف لا يريد أن يُلقى في العراء، والتصنيع لا يريد أن يهدر ما يمكن أن يُثمر من جديد.
إنهما معًا يشكلان منظومة تُعيد للحياة توازنها، وللبيئة نقاءها، وللاقتصاد قوته.
وحين نصغي جيدًا، سنسمع هذا النداء: “لا تتركونا نهدر… ففينا حياة جديدة تنتظر أن تصنع.”
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



