رأى

ثقافة التنمية وتنمية الثقافة.. قراءة في فكر مالك بن نبي

حسان محمد النبوي حجازي

بقلم: د.حسان محمد النبوي حجازي

يعتبر الحديث عن التنمية من الموضوعات الشائكة في مجال العلوم الاجتماعية، إلا أن الأمر يزداد تعقدا عندما يقترن الحديث عن التنمية بالحديث عن الثقافة حيث أنه لا غنى عن معالجة موضوع الثقافة عند الخوض في مسألة التنمية، فـالتنمية من حيث التعريف هي عملية تغيير مقصود ومخطط لكل نواحي حياة المجتمع سواء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بهدف الوصول حياة أفضل لسكان المجتمع جميعهم، وغالبا تدور معظم التعريفات التي وضعت لبيان مفهوم التنمية حول هذا المعنى.

ورغم أن الثقافة أحد الروافد الهامة في حياة المجتمع التي يراد تغييرها؛ لأجل تحقيق مستوى تنموي مناسب لما هو مأمول الوصول إليه، إلا أنها في الوقت ذاته تمثل محدد من محددات التنمية بل إن شئت القول إنها من تحدد التنمية وتحكم عليها من حيث النجاح أو الفشل.

ويوجد عدد هائل من التعريفات لمفهوم الثقافة، أشهر تلك التعريفات والتي انبثقت منه معظم تعريفات الثقافة هو تعريف تايلور والذي ينظر إلى الثقافة بأنها “ذلك الكل المركب المعقد، والذي يشمل المعلومات والمعتقدات والفن والأخلاق والعرف والتقاليد والعادات وجميع القدرات الأخرى التي يستطيع الإنسان أن يكتسبها بوصفه عضوا في مجتمع” وبذلك تكون ثقافة المجتمع من خلال هذا التعريف أحد أهم محددات تنميته؛ فـالتنمية لا تتم في الفراغ ولكنها تولد في بيئة اجتماعية تتأثر بها وتؤثر فيها.

الثقافة بذلك تمثل عقل المجتمع المسيطر على سلوكياته سواء كانت تلك السلوكيات رشيدة أو حتى غير منطقية، وإن التسليم بتعريف تايلور السابق يقودنا إلى مسألة غاية في الخطورة فمع كونه تعريف وصفي فهو يؤدي إلى الجبرية والتي تعني أن مجتمع ما من المجتمعات محكوم بمجموعة من القيود العامة والتي تتوارثها الاجيال وهذه القيود إما أنها دافعة إلى التقدم والازدهار أو معوقة للانطلاق نحو أفاق التنمية والتقدم.

لقد شغلت هذه الإشكالية عقل المفكر الجزائري العلامة مالك بن نبي الذي كرس جل حياته لبحث قضية النهوض وخروج عالمنا العربي من محنة تخلفه وتأخره التي تسببت في أن يرزح تحت الاحتلال الغربي عقودا طويلة وفي بعض البلدان جاوز الاحتلال القرن من الزمان. يذهب مالك بن نبي أنه علينا تصور تعريفا للثقافة، لا من زاوية نظرية فحسب ولكن لابد أن يضاف إليها وجهة النظر العملية.

إن التعريفات المتوفرة عن الثقافة وفق رأي مالك بن نبي إنما هي تعريفات نبتت ونمت في بيئة مغايرة لبيئة مجتمعاتنا وفق الظروف العامة في تلك المجتمعات الناتجة عن الحضارة الغربية، فتعريف الثقافة بصورة أو بأخرى مكتمل ضمنا في فكر عالم الاجتماع الامريكي أو في فكر الكاتب الماركسي، والسؤال الذي يرد أمام كليهما في صورة (ما هي الثقافة) يأخذ لديه الاتجاه نفسه والمعنى نفسه، فهي تتصل لديهما بفهم واقع اجتماعي معين موجود بالفعل في نطاق تاريخي معين أو موجود في حيز القوة في نطاق فكري معين أيضا. أما إذا وضع هذا السؤال في عالمنا العربي والنامي، فإنه يأخذ معنى مختلف تماما؛ إذ هو يتصل بخلق واقع اجتماعي معين لم يوجد بعد.

إن مشكلة مجتمعاتنا ليست مشكلة فهم وتفسير لواقع اجتماعي معين بقدر ما هي مشكلة خلق هذا الواقع؛ أي أن الواقع الدافع للتقدم والازدهار وتبوء المكانة المرجوة لأوطاننا بين دول العالم علميا وتكنولوجيا لم يخلق بعد، فالأمر عندنا ليس كما ذهب وليم أوجبرن عند معالجته لقضية الفجوة الثقافية التي جعلت لعالم الأشياء أو الجانب المادي للثقافة محددا لجانبها الاجتماعي وسابقا عليه، لا يتناسب مع مجتمعات لم يتكون عالم أشيائها بعد (الجانب المادي التقني)، فلكي يتكون عالم الأشياء أو التقدم التقني في دولة نامية أو قل إن شئت متخلفة لابد من تًكون الأفكار الدافعة للتنمية وإحراز التقدم المطلوب على كل الأصعدة أي أنه لابد من معالجة الجانب الاجتماعي المعوق أمام تقدم الأمة المادي والتقني.

إن المثال الذي ضربه مالك بن نبي عن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها محطمة ومدمرة في جانبها المادي فلقد دمرت مصانعها ومعاملها وأحرقت مزارعها، ومع هذا إن هي إلا سنوات قليلة قياسا لحجم الدمار الذي منيت به حتى استردت ألمانيا عافيتها واستعادت عالم أشيائها (الجانب المادي التقني) حتى غدت أعظم قوة صناعية استراتيجية في أوروبا، مما يعني أن دمار الجانب المادي لا يعني استمرار التخلف طالما ظل عالم الافكار الدافعة نحو الانجاز والتقدم باق يمارس وظيفته بفعالية في احداث التغيير والتنمية المرجوة.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى