رأى

«الزراعة» و«الحصاد» مرتبطان بالكون منذ آلاف السنين

مقال الدكتورة «شكرية المراكشي» رئيس شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

لقد كان تسخير الكون للإنسان لأجل وجوده، وقد بُني الكون بالقدرة الإلهية على قوانين كمية وكيفية تناسب تماما الكيان الإنساني في وجوده ابتداء، فكأنما هو صُنع لاستقبال الإنسان، فتسخير الشمس والقمر إشارة إلى إعداد الكون كميا؛ ليناسب وجود الإنسان، وتسخير الليل والنهار إشارة إلى إعداده كيفيا لذلك. كذلك سخره لاستمرار الحياة الإنسانية؛ فقوانين الكون مذللة لاستقبال الوجود الإنساني ولحياته وسيرورتها، ولتحقيق غايتها.

تابعونا على قناة الفلاح اليوم

تابعونا على صفحة الفلاح اليوم على فيس بوك

لقد سخّر الله تعالى للإنسان كثيرا من المظاهر الكونية، فقد سخّر له الشمس والقمر، والليل والنّهار، والفلك والأنهار والبحار، كما في قوله تعالى: ﴿اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الاَنْهَارَ. وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اليْلَ وَالنَّهَارَ﴾ (إبراهيم: 34-35).

وقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْاَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ ءلايَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية: 12). وسخّر الإبل على بدانتها مقارنة بحجم الإنسان كما في قوله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ، كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الحج: 35).

من هذه الآيات يلحظ المتدبر أن كل ما في عالم الشهادة مسخر للإنسان، ليس هناك شيء محظور يحرم على الإنسان اكتشافه أو التفكير فيه، أو تذليله لمصلحته، أو البحث فيه ودراسته. لقد وضع القرآن الإنسان أمام حوافز أو تحديات كثيرة ليكتشف ما أودع الله تعالى فيه من طاقات كامنة، ولتظهر محوريته في عالم الكون.

إن تسخير كل تلك المظاهر الكونية والمخلوقات لا يتوقف عند حدود الانتفاع المادي فحسب بل ان كل ذلك، التسخير، ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة إلى المسخر القاهر فوق عباده؛ فالتسخير هدفه هو هذا الإعمار الواعي للكون.

إن استثمار ما سخره الله تعالى يعد من فروض الإعمار، وهو تكليف يُسأل عنه الإنسان يوم القيامة، ففي الحديث: “يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وترتع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني” يعني: ألم أجعلك رئيسا مطاعا، ففي الحديث إشارة إلى أن التقصير في الانتفاع مما سخر الله تعالى صفة من يكذّب بلقاء الله يوم القيامة ولا يهتدي إلى وحدانيته.

إن كل هذه المسخرات ينبغي أن تكون عونا للإنسان في أداء مهامه في الأرض، لا أن تكون عبئا له تبعات ثقيلة عليه. وبعبارة أخرى ينبغي أن يكون التسخير بابا عظيما من أبواب الشكر والثناء والحمد لله رب العالمين، والتصديق بما جاء به الوحي من هداية وإرشاد.

بناء على هذا، فقد يقول قائل: إن أبناء الثقافات الأخرى قد أحسنوا استثمار ما في الكون، واستطاعوا أن يقطعوا أشواطا بعيده في اكتشاف أسراره، وتذليل سبل العيش الرغيد للإنسان، والتفنن في توفير وسائل الراحة وسبل السعادة.

هذا صحيح، لقد استطاعوا أن يحققوا ما لم يخطر على بال القرون الأولى، وسوف يتوقع منهم أن يقطعوا أشواطا أخرى في استثمار ما في الكون، بره وبحره وجوه. كل هذا حق لا مرية فيه، وقد تفوقوا على المسلمين بفارق هائل، وما ذلك إلا للأزمات العديدة التي يعيشها العقل المسلم المعاصر.

لكن، مع ذلك كله لا يمكن أن تكون قراءة هذه الأمم لكتاب الكون قراءة صحيحة؛ لأنها، بكل وضوح، قراءة منقطعة عن أهم مصادر المعرفة وهو كتاب الوحي، بعيدة عن هدايته، فهي قراءة عوراء للكون، وهي قراءة سطحية لظاهر الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم معرضون.

هذا يؤدي إلى مفاسد كثيرة على صعيد الأخلاق والقيم والسلوك، فلن يورث هذا الاستثمار حياة عادلة للناس، بل تسود حياة هؤلاء شريعة الغاب، فيزداد الفقير فقراً، والغني ثراء، ويأكل القوي الضعيف، وتلتهم الأقلية المتنفذة حقوق الأكثرية الكادحة الغافلة.

الامثلة لذلك عديدة امامنا منذ القدم توصل الإنسان المصرى القديم لفكرة استنبات البذور، وزراعة المحاصيل التى تكفيه وأسرته وحيواناته طوال السنة، تراكمت خبراته الفلاحية عبر قرون متتالية، اكتشف كل ما يتصل بالزراعة من هذا الكون، من الطقس والفصول، لتحديد أفضل أيام الغرس والرى والحصاد، حتى استقر على نظام وتوقيتات فى غاية الانضباط، وكان ازدهار الزراعة سببا مباشرا لظهور الحضارة العظيمة، وأن مصر باتت وجهة الشعوب المحيطة طلبا للقمح ومختلف المحاصيل، كما أصبحت مطمعا لكل الغزاة كونها مصدرا إستراتيجيا للطعام والكساء.

ارتبط التقويم القبطي عند الفلاح المصري بالسنة الزراعية، وقسم المصريون القدماء السنة الزراعية إلى ثلاثة فصول كبرى هي: فصل الفيضان (آخت) وفصل البذر والزرع (برت) وفصل الحصاد (شمو)، وقسموا السنة إلى اثني عشر شهر؛ كل شهر منها ثلاثون يوما، وأضافوا المدة الباقية وهي خمسة أيام وربع، وجعلوها شهر بذاته سموه الشهر الصغير (أو النسيء) وبذلك أصبحت السنة المصرية 365 يوما في السنوات البسيطة و366 يوما في السنوات الكبيسة.

لقد احترم الفلاح المصري منذ أقدم العصور هذا التقويم نظرا لمطابقته المواسم الزراعية، ولا يزال يتبعه حتى  اليوم، وقنن كل عمليات الزرع والحصاد فأصبحت المحاصيل سببا للزواج والأفراح والتجارة وإعمار البيوت والحظائر.

ارتبط التقويم القبطي بالأمثال الشعبية المصرية وأبدعت القريحة الشعبية فى وصف الزراعة وأحوالها بالأمثال الشعبية لتيسير الخبرة على مختلف الأفهام، وبدقة مذهلة أصبح لكل شهر قبطى مثل أو أكثر يحدد ما يحدث خلاله.

1- توت: ويقع في الفترة من 11 سبتمبر – 10 أكتوبر، و“توت” يقول للحر موت، وذلك بسبب انكسار نسبة الحرارة في ذلك الشهر، وهناك أيضا “توت ري ولا تفوت” أي الفلاح الذي لا يستطيع أن يروي أرضه في ذلك الشهر لا يستفيد من زراعتها، وأيضا “التوت الكتكوت ياكل فيه ويموت”، حيث قيل أن الكتاكيت تصاب بالأمراض في هذا الشهر.

2- بابه: ويقع في الفترة من 11 أكتوبر – 10 نوفمبر، و“بابه خش واقفل البوابة”، وذلك اتقاءً للبرد في هذا الشهر، وقيل أيضا “إن صح زرع بابه يغلب النهابة”، و”إن خاب زرع بابه ما يجبش ولا لبابة” أي أن كثرة المحصول في بابه مربحة مهما نهب منها.

 3- هاتور: ويقع في الفترة من 11 نوفمبر – 9 ديسمبر. أما «هاتور» فهى «حتحور» البقرة المقدسة رمز الخصب والجمال والنماء، والإلهة إيزيس، وهى مرسومة على جدران المعابد بقرنين أفقيين. “هاتور أبو الذهب المنتور”، وقيل أيضا “إن فاتك زرع هاتور أصبر لما السنة تدور” فهو الشهر الأمثل لزراعة  القمح.

4- كيهك: ويقع في الفترة من 10 ديسمبر – 8 يناير، و«كيهك» مستمد من «كاهاكا» لاطمئنان الروح «كا» خلاله، ويشتهر بقصر نهاره.

“كياك صباحك مساك، شيل إيدك من غداك حطها في عشاك” وذلك كناية عن قصر النهار في  ذلك الشهر وطول فترة  الليل. والثانى: «البهايم اللى متشبعش فى كياك، ادعى عليها بالهلاك».

5- طوبة: ويقع في الفترة من 9 يناير – 7 فبراير و«طوبة» يعنى «الأعلى»، أو «عيد الفِصح» الذى يوافق 11 طوبة، ويتم فيه تطويب الأرض أى إعدادها للزراعة، وكان حظه الأوفر فى الأمثال، فمنها: «طوبة تزيد الشمس رطوبة»، ولأن الغطاس هو عيد القلقاس، فقالوا فيه: «اللى ما ياكلش قلقاس يوم الغطاس يصبح جتة من غير راس»، وفيه يبلغ البرد ذروته: «طوبة تخلى الصبيّة كركوبة»، بسبب شدة البرد ترتعش الشابة مثلها مثل العجوزة و«طوبة تخلى الصبية جلدة والعجوزة قردة»، ويسخرون من تقلباته بقولهم: «الاسم لطوبة والفعل لأمشير». وقسّمه المصرى إلى ثلاثة أسماء، واحد لكل عشرة أيام، فثلثه الأول «طوبة»، وثلثه الثانى «طبطب» لشدة البرد يطبطب الإنسان، أى يرتعش من البرد، والعشرة الأخيرة «طباطب» لانقلاب الجو الصحو إلى مطر شديد،

6- أمشير: ويقع في الفترة من 8 فبراير- 10 مارس و«أمشير» مستلهم من إله الريح والزوابع «مشير» وقالوا عنه «أمشير أبو الزعابير الكثير يأخذ العجوز ويطير» (ينطقها البعض زعابيب)، وقسّمه المصرى إلى ثلاثة أيضا، الأول «مشير» أو «العشرة الغنامى» لانخداع الراعى بالدفء، والثانى «مشرشر» أو «عشرة الماعز» وذلك بسبب كثرة الزوابع والأمطار في ذلك الشهر ، وتنفق الماعز من شدة البرد إن لم تُدفأ، والعشرة الأواخر منه «شراشر» أو «عشرة العجوز» حيث تتحرك العجائز مع بشائر الدفء.

7- برمهات: يقع في الفترة من 10 مارس – 8 أبريل واشتقُوا «برمهات» من الملك «أمنحات»، وتهب فيه رياح الحسوم المذكورة بالقرآن، وخصُّوه بمثل شعبى مبهج: «برمهات روح الغيط وهات».. حيث يقع موسم الحصاد، وفي هذه الفترة أيضا موسم تفريخ البيض، وهو غالبا ما يقع الصوم الكبير عند الأقباط، وهم لا يأكلون البيض فيه، لذلك قال المثل “عاش القبطي ومات، ولا كلش البيض في برمهات”.

8- برمودة: يقع في الفترة من 9 أبريل – 8 مايو وجاء اسم «برمودة» من إلهة الحصاد «رنودة»، وقالوا عنه: «برمودة دق العامودة»، أى دق سنابل القمح بعد ضمها لفصل الحبوب عن قشورها.

9- بشنس: يقع في الفترة من 9  مايو – 7 يونيو أما «بشنس» فمستمد من «خونسو» إله القمر، وابن الإله آمون، وفيه تُدرس المحاصيل، ويعم الفرح القرى، ودور الفلاحين، فهو شهر القمح والشعور بالأمان، وقالوا عنه: الشمس في بشنس تكنس الغيط كنس” كناية عن شدة الحرارة”.

10- بؤونة: يقع في الفترة من 8 يونيو – 7 يوليو، وجاء اسم «بؤونة» من «باوانى» أى وادى الحجارة أو «وادى الملوك» بالأقصر، وقالوا عنه: «بؤونة نقل وتخزين المونة»، أى مؤونة العام كاملا قبل قدوم الفيضان، ويقال: بؤونة فلاق الحجر” أي من شدة الحرارة ينفلق الحجر”.

11- أبيب: يقع في الفترة من 8 يوليو – 9 أغسطس، و«أبيب» أو «هوبا» مشتق من «حابى» إله النيل، وقالوا: «أبيب فيه العنب يطيب»، و«أبيب ميّة النيل فيه تريب» بقصد تشبع مياه الفيضان بالغرى أو الطمى، فيبدو مثل اللبن الرائب.و”من يأكل الملوخية في أبيب يجيب لبطنه طبيب”، فالملوخية غير مستحبة في الموسم الحار، لذلك فالذي يأكلها يمرض ويحضر له الطبيب.

12- مسري: يقع في الفترة من 7 أغسطس – 5 سبتمبر، و«مسرى» ختام السنة، مستلهم من «سى رى» أى إله الشمس «رع»، وقالوا فيه: «عنب مسره إن فاتك متلقاش كِسرة»، وفيه يسارع الفلاحون بزراعة الذرة. مسري تجري فيه كل ترعة عسرة” حيث يزداد فيه الفيضان فتغمر كل أرض مصر”، ويقول “القلشقندي” في كتابه “صبح الأعشي في صناعة الانشا” على لسان أحد الرحالة “عرفت أكثر المعمور من الأرض، فلم أر مثل ما بمصر من ماء طوبة ولبن أمشير وخروب برمهات وورد برمودة ونبق بشنس وتين بؤونة وعسل أبيب وعنب مسري ورطب توت ورمان بابه وموز هاتور وسمك كيهك”.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى