نحو استخدام منهج بديل لتنمية المجتمعات الريفية
بقلم: أ.د/أسامة متولي محمد
على الرغم من شيوع استخدام عدة مناهج تقليدية لـتنمية المجتمعات الريفية المحلية وبصفة خاصة خلال العقدين أو الثلاثة الماضية، إلا أنه ما زالت هناك حاجة ملحة لاستخدام مناهج جديدة أو على أقل تقدير حزمة متكاملة من المناهج التقليدية والمستحدثة على حدٍ سواء.. وفي هذه السطور القليلة القادمة إشارة موجزة لبعض المناهج سواء التقليدية أو الحديثة التي ربما يصلح بعضها للاستخدام في تنمية المجتمعات الريفية المعاصرة.
وعلى الرغم من أن منهج تنمية المجتمع المحلي Community Approach، قد استخدم منذ زمن بعيد وأنه لم يعد بعد المنهج الوحيد الذي يمكن الأخذ به في عملية تنمية المجتمعات المحلية، فلا زال من المناهج شائعة الاستخدام في وقتنا الحاضر في كلٍ من الدول المتقدمة والمتخلفة على السواء، ويتأسس منهج تنمية المجتمع المحلي على عدة أسس منها: أنه يتخذ من المجتمع المحلي إطاراً يعمل في حدوده، وأنه يرتكز على المشاركة العريضة لغالبية المواطنين أعضاء المجتمع المحلي، وأنه يؤكد على ضرورة الاتفاق الجماعي بين أعضاء المجتمع المحلي على أي عمل أو إجراء اجتماعي يتعلق بأمور حياتهم أو شئون مجتمعهم.
أما المنهج التعليمي Educational Approach، فهو منهج وثيق الصلة بمنهج تنمية المجتمع المحلي، ويعد من المناهج التي قد استخدمت لفترة زمنية طويلة نسبياً. ويقوم هذا المنهج على الأسس التالية: إعداد برامج تعليمية لقادة المجتمع المحلي وللمواطنين أعضاء المجتمع المحلي المستهدف، تلك البرامج تدور حول المشاكل والقضايا القائمة بالمجتمع المحلي، وعقد حلقات دراسية وجلسات حوارية وتدريبية يشترك فيها صانعي القرارات بـالمجتمع المحلي، وتأسيس أنظمة إعلامية ومرجعية تقوم بتزويد قادة المجتمع المحلي ومواطنيه بالمعلومات والبيانات المرتبطة بالمشكلات والقضايا والأوضاع القائمة بـالمجتمع المحلي.
ويُعد منهج تنمية الموارد البشرية Human Resources Development Approach، من المناهج التنموية التي قد استخدمت حديثاً في مجال العمل التنموي، وهو منهج وثيق الصلة بكلٍ من المنهجين السابقين (منهج تنمية المجتمع المحلي، والمنهج التعليمي)، ويقوم على الأسس التالية: أنه يهتم أساساً بالتنمية الفردية، علاوة على تركيزه على الموارد البشرية وعلى قدراتها وتوظيفها في خدمة المواقف الجماعية، وهو يعطي أهمية خاصة لمبدأ المساعدة الذاتية، كما أنه لا يهتم كثيراً بالبيئة البيولوجية والطبيعية.
أما منهج التخطيط العمراني Planning, Design and Architectural Approach، فهو يختلف عن غيره من المناهج السابق عرضها، ولقد استخدم لفترة زمنية ليست بقصيرة ولا يزال هناك من يؤيده وينادي باستخدامه، وإن كانت أهميته قد قلت بكثير عما كان يحظى به في الأوقات الماضية. هذا وتجدر الإشارة إلى أن هذا المنهج إنما ينطوي في حقيقة الأمر على مجموعة من المناهج المختلفة التي قد وضعت في فئة واحدة نظراً لما يوجد بينها من تشابه سواء فيما يتعلق بالنظرة التي تأخذها أو الغايات التي تنشدها وتسعى إلى تحقيقها.ويقوم هذا المنهج على العناصر التالية:وجود نموذج عام لما ينبغي أن يكون عليه وضع المجتمع المحلي، حيث لابد من اتباع هذاالنموذج والعمل في ظله، والاهتمام الكبير بالناحية الجمالية والفنية للمجتمع المحلي، علاوة على أنه يركز على الأهمية الكبيرة للعلاقات القائمة بين كلٍ من الحيز الفراغي والكتلة السكنية والتصميم الجمالي والإنشائي بالمجتمع المحلي، وفي مقابل ذلك فلا يعطي هذا المنهج أهمية كبيرة لدور المواطنين ولمشاركتهم في توجيه أمور مجتمعهم المحلي.
وثمة منهج جديد يُدعى منهج تطوير الخدمات المجتمعية وتحسين البيئة الطبيعية Community Facilities Improvement and Physical Development Approach، حيث يُعد هذا المنهج من المناهج التنموية الحديثة النشأة، وعلى الرغم من أنه يرتبط ارتباطاً كبيراً بـالمنهج التخطيطي الفني، فإنه يأخذ إتجاهاً مخالفاً فيما يتعلق بوجهة نظره الخاصة بماهية التنمية المجتمعية، وهو يقوم على عناصر رئيسية من أهمها: أنه يتجه إلى حدٍ كبير نحو البناء والتشييد، كما أنه يقوم أساساً على تنفيذ إجراءات ملموسة أو محسوسة، علاوة على اهتمامه أساساً بالجانب الفني أو التكنيكي، وفي مقابل ذلك لا يعطي هذا المنهج أهمية كبيرة لمشاركة المواطنين ولدورهم في توجيه أمور مجتمعاتهم.
ثم يأتي منهج التنمية الاقتصادية Economic Development Approach، والذي يُعد من المناهج الحديثة نسبياً بالمقارنة بغيره من المناهج الأخرى للتنمية، ولقد شاع استخدامه في الكثير من دول العالم خلال الأعوام الماضية، ولا شك في أن هذا المنهج يرتبط ارتباطاً وثيقاً بغيره من المناهج الأخرى، وهو يقوم على الأسس التالية: أنه يقوم على أساس خطط اقتصادية، كما أنه يعطي أهمية كبيرة للتنمية الصناعية، بالإضافة إلى تركيزه على برامج التدريب الوظيفي والمهني لدفع عجلة التنمية الصناعية والتجارية، أيضاً فإنه يركز على استخدام الأساليب التكنولوجية الحديثة في الانتاج وعلى تنمية وتطوير التكنولوجيا القائمة، وأخيراً فهو يؤكد على زيادة معدل النمو الاقتصادي.
ومن المناهج الحديثة نسبياً منهج التنمية الإقليمية Regional Development Approach، وهو كغيره من المناهج الأخرى يرتبط ارتباطاً وثيقاً بباقي المناهج، وعلى أية حال فهذا المنهج لم يحظى بعد بالكثير من التأييد والقوة التي تحظى بها المناهج الأخرى، إلا أنه في طريقه للإنتشار، وهويقوم على العناصر الرئيسية التالية: اتساع برامجه لتشمل عدداً من المراكز أو عدداً من المحافظات، علاوة على اتساع برامجه أيضاً لتشمل عدداً من المجالات المتخصصة، ومن عناصره الهامة أيضاً تأكيده على السعة أو الحجم الاقتصادي الأمثل للعمل، وإعطائه أهمية كبيرة للجدارة أو الكفاءة الإنتاجية.
وهناك منهج بنيان القوى الاجتماعية Power Structure Approach، والذي يختلف عن غيره من المناهج السابقة اختلافاً كلياً، ولقد استخدم هذا المنهج في صور وأشكال متعددة لفترة طويلة من الزمن، وهو لا يعتبر إلى حد كبير منهجاً للعمل بقدر ما هو يمثل نمطاً فكرياً أو أساساً فلسفياً يحكم ويوجه سلوك القائمين على إحداث التغير بـالمجتمعات المحلية. وعلى أية حال فلقد تم إدراجه ضمن المناهج التنموية نظراً لاستخدامه في حالات ومواقف كثيرة كمدخل لإحداث التنمية والتقدم بالمجتمعات المحلية. ويقوم منهج بنيان القوى الاجتماعية على الأسس التالية: اهتمامه بمشاركة الأفراد ذوي القوة والتأثير والنفوذ وأصحاب السلطة، وأولئك الذين يحظون بأهمية ومكانة خاصة في المجتمع المحلي، وكذلك الأفراد الذين يقومون بوضع أو اتخاذ معظم القرارات المعنية بـالمجتمع المحلي وشئون سكانه، وفي مقابل ذلك فهو يعطي لمشاركة القاعدة العريضة من المواطنين أهمية قليلة.
وعلى العكس من المنهج السابق يأتي منهج مساعدة الفئات المحرومة Helping the Disadvantaged Approach، والذي يُعد من المناهج التنموية الحديثة النشأة، ويقوم هذا المنهج على عدة أسس لعل من أهمها: التنظيم والعمل مع الفقراء والفئات المحرومة (أي الفئات التي تعوزها الموارد والحاجات الأساسية كالمأوى والخدمات الصحية والتعليم وغيرها والتي تكفل لها مركزاً متكافئاً مع الفئات الأخرى بالمجتمع)، والاستناد إلى مبدأ المساعدة الذاتية في كافة جهوده من خلال الإيمان بأنه إذا ما توافرت الوسائل وتهيئت الأسباب فسوف ينطلق الناس إلى مساعدة أنفسهم بأنفسهم، كما أن هذا المنهج يؤكد على استقلالية ومحلية البرامج المعدة أو المصممة لمساعدة تلك الفئات المحرومة وعلى قيامها وتوجيهها وإدارتها بواسطة أفراد تلك الفئة المحرومة.
كما تُطالعنا تجارب الدول المختلفة كذلك ببعض المناهج الغريبة، والتي لا ننصح باستخدامها بقدر ما نعرضها فقط لأغراض الشرح والمقارنة، ولعل من أمثلة هذه المناهج المنهج التعارضي Conflict Approach، والذي يُعدمن المناهج التنموية الحديثة نسبياً، وهو يقوم على العناصر التالية: القيام بإجراءات أو أفعال مباشرة تستنكر وتعارض الأوضاع القائمة، وتنظيم وضم الفئات الفقيرة والمُهمشة للعمل معاً كصف واحد، بالإضافة إلى بذل المزيد من الجهد من أجل الحصول على القوة Power اللازمة لتغيير الأوضاع القائمة.
ومن المناهج الغريبة كذلك على الفكر التنموي ذلك المنهج الذي يُدعى منهج التغيير الشامل Total Change Approach، وعلى الرغم من تشكك البعض فيما إذا كان هذا المنهج ينبغي تناوله بالمناقشة ضمن المناهج التنموية، فإنه يعد أحد المداخل التي ينبغي الإشارة إليها لأغراض المقارنة فقط. ولقد أخذ هذا المنهج مكانه في مناطق كثيرة من العالم لفترة من الوقت، إلا أنه في الوقت الحاضر لا يعد مقبولاً بين الكثير من المجتمعيين. ويقوم هذا المنهج على العناصر الرئيسية التالية: التغيير الكامل في الأنظمة القيمية الرئيسية الموجهة للمجحتمع، والتغيير التام في طريقة بناء المجتمع وتنظيمه، وعدم رغبة مؤيديه أو الداعين له لمناقشة أو حتى لمجرد النظر بعين الاعتبار للمناهج الأخرى للتغيير.
وأخيراً يأتي آخر هذه المناهج الغريبة نسبياً على الفكر التنموي المعاصر، وهو منهج الإصلاح الجذري Radical Reform Approach، والذي يتناول الأمور بقليل من المواجهة وذلك بمقارنته بالمنهج التعارضي، وعلى الرغم من أن منهج التغيير الجذري يعد منهجاً قائماً بذاته، فإنه يمكن القول بأن هذا المنهج قد نشأ وتطور من المنهج التعارضي. ويقوم هذا المنهج على العناصر التالية: التنظيم للفئات الفقيرة والمُهمشة، واكتساب القوة Power اللازمة للتغيير، ومحاولة التأثير على سلطة اتخاذ القرارات.
هنا انتهى عرض ما نود الإشارة إليه من المناهج المستخدمة في تنمية المجتمعات الريفية المحلية، غير أننا نود الإشارة إلى ثلاثة جوانب رئيسية، نرى أنها قد تساهم في تحقيق الهدف من وراء عرض هذه المناهج. يُشير الجانب الأول الذي نود الإشارة إليه، إلى استبعاد ثلاثة مناهج من المناهج الإثنتي عشر السالف توضيحها، على اعتبار أن هذه المناهج المستبعدة لا تصلح للتطبيق في ظل واقع المجتمعات الريفية المصرية المعاصرة، وهذه المناهج المُقترح استبعادها هي: المنهج التعارضي، ومنهج التغيير الشامل، ومنهج الإصلاح الجذري. أما الجانب الثاني فيُشير إلى أنه على الرغم من أهمية المناهج التي تهتم بـالتنمية الفيزيقية وتحسين الخدمات والتخطيط العمراني، إلا أننا نرى بأن مثل هذه المناهج لا ينبغي أن تحتل مكان الصدارة ضمن مناهج التنمية الريفية المطروحة، ذلك أنه لابد وأن يسبقها تطبيق مناهج أخرى، تحديداً تلك المناهج القائمة على تعليم السكان وضمان مشاركتهم في شئون مجتمعاتهم والارتقاء بالعنصر البشري.
وأخيراً وكاستنتاج طبيعي لما تم طرحه خلال مناقشة الجانبين السابقين، فإننا نعتقد بأنه لا مناص في ظل واقع وظروف المجتمعات الريفية المصرية في الوقت الحاضر، من استخدام توليفة من المناهج التنموية التالية كمرحلة أولى: منهج تنمية المجتمع المحلي، والمنهج التعليمي، ومنهج تنمية الموارد البشرية، يلي ذلك تطبيق المناهج التالية كمرحلة ثانية: منهج التخطيط العمراني، ومنهج تطوير الخدمات المجتمعية، ومنهج التنمية الاقتصادية.
هذا كل ما نريد توضيحه، وسنترك للقارئ الكريم الفرصة لتكوين وجهة نظره حول أنسب منهج أو توليفة من المناهج الأصلح من غيرها للتطبيق في ظل معطيات وظروف المجتمعات المحلية الريفية المعاصرة.
ولمزيد من التفاصيل حول الموضوع يمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى المراجع التالية:
1ـ الحسيني، السيد: التنمية والتخلف- دراسة تاريخية بنائية، سلسلة علم الاجتماع المعاصر، الكتاب الثامن والثلاثون، القاهرة، 1980.
2ـ جامع، محمد نبيل: علم الاجتماع الريفي والتنمية الريفية، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2010.
3ـ حمودة، مسعد الفاروق محمد: تنمية المجتمعات المحلية (الريفية- الحضرية- المستحدثة- الصحراوية)، المعهد العالي للخدمة الاجتماعية، الإسكندرية، 1999.
4ـ عبد القادر، محمد علاء الدين: علم الاجتماع الريفي المعاصر والاتجاهات الحديثة في دراسات التنمية الريفية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2003.
5ـ محمد، أسامة متولي: علم المجتمع الريفي وقضايا التنمية الريفية المعاصرة، كلية الزراعة، جامعة الفيوم، 2018.
*كاتب المقال: أستاذ الاجتماع الريفي – كلية الزراعة- جامعة الفيوم.