رأى

تاريخ من المر .. اليوم 9 سبتمبر “عيد الفلاح”

بقلم: د.محمد علي فهيم

باحث بمركز البحوث الزراعية

الفلاح هو تاج راس هذا البلد .. بتاريخها الممتد في أعماق الزمن!!

الفلاح “المزارع” هو رأس هذه الأرض وشوشة زرع البلد الأخضر … هو ابن الطمى وأخو الفجر وصديق الشمس … فهو اول من تُشرق عليه وتَغرُب عنه في نهار طويل مليء بالجد والعرق والتعب …
الفلاح جاعل مصر منذ فجر التاريخ جنة الله فى أرضه، هذا الفلاح أصل الحياة ومنبع الذوق فعلاً وقولاً.. أصبح .. مستنزف القوى قليل الحيلة .. ينهش الكل فى جسده …

انا أحمل وسام شرف “فلاح” أينما حللت، أختال فخرا كلما تحدثت عن قريتي أذوب عشقاً كلما سمعت عن بطولات الفلاحين على مر التاريخ، وهم اصحاب النضال والكرامة والحضارة على مر التاريخ..حبات عرقهم الطاهرة وهم يحصدون الأرض …

الحكاية من زمان ….
الفلاحون آلات مأجورة لا يترك لهم للمعاش إلا ما يقيهم الموت … وما يحصدونه من أرز وقمح يذهب إلى موائد أسيادهم ويحتفظون بالذرة لكى يصنعون منها خبزاً”، هكذا وصف حالهم الكاتب ”فولنى” فى كتابه ”الرحالة” واصفاً حياتهم أثناء عصر الدولة العثمانية والمماليك أنهم ليسوا إلا عاملين بأرضهم يزرعون وغيرهم يحصد ثمار جهدهم، وكان نظام الالتزام فى عصر الدولة العثمانية يحتم على الفلاحين حق الانتفاع فقط من أرضه وليس له الحق فى بيعها أو الشراء، يحصد من المحاصيل ما يكفى لقوت يومه فقط والباقى تحصده الدولة “…

وفى 23 يوليو لعام 1952م تحولت حياة الفلاح، بإصدار قانون الاصلاح الزراعى، والذى قسم الأراضى على جميع الفلاحين المصريين، ليكون الفلاح المصرى مالكا لأرضه بدون شريك، وكان يوم 9 سبتمبر 1952 يوم توزيع الأراضى على الفلاحين، هو عيداً للفلاحين تكريما لإنسانيتهم وكرامتهم…

والآن …

ورغم مرور 67 عاماً على هذا التحول التاريخى فى حياة الفلاح المصرى ماتزال معاناته تتواصل عبر آلاف السنين، وتتمثل تلك المعاناة تارة في أهماله وتضيع مصالحه، والشكوى من رخص أسعار المنتج الزراعى، وتجاهل لمطالبهم، وحتى فى الأعمال الدرامية لا يظهر الفلاح الحقيقى غالبا وإنما يظهر فلاح تخيلى ذى صورة نمطية يعيش فى رأس المؤلف وتفصله مسافات شاسعة عن الفلاح الحقيقى – أصبح الفلاح يظهر فى كل مكان وبكثافة يحمل معه كل موروثه القروى بعدما أضيف إليه من تعديلات أو تشوهات، وهذه الصورة لا تغرى أحدا بتأمله وإنما يكتفى بتسخيره “أو استخدامه” لأداء بعض المهام المطلوبة لساكنى المدن.

وهناك مثل شعبى شديد القسوة يصور هذا الموقف بقوله: “الفلاح ريحته زفرة”، وقديما كان الباشا التركى المتعالى والمتغطرس يصف المصرى عموما بأنه “فلاح خرسيس”، حتى ولو كان ذلك المصرى زعيما شعبيا بحجم “أحمد عرابى”، وليس فقط الباشا التركى هو الذى يستخدم لفظ الفلاح بهذا الشكل السلبى وإنما اعتاد المصريون أنفسهم أن يستخدموه كأداة سب وتحقير فى حوارهم اليومى.

أصبح الفلاح المصرى بعد أن خذلته حكوماته المتعاقبة وجعلته ريشة فى مهب الريح لا يرضى لأحد أبنائه بالبقاء معه فى الأرض إلا مضطرا، وكأن الفلاحة أصبحت مهنة اضطرارية يلجأ إليها من فشل فى التعليم وفشل فى التجارة وفشل فى أن يتعلم صنعة معينة، وهكذا يتم تجريف هذه المهنة العظيمة من النابغين والنابهين، وذلك فى تواز تام مع تجريف التربة الزراعية التى كثيرا ما تفنن الفلاح المصرى فى ابتكار أساليب الرى التى أذهلت الأشجار نفسها على نفس هذا التراب المقدس عبر آلاف السنين.

تطور هذه المهنة قد توقف فى مصر، فما زالت هى هى نفس الأساليب المتبعة من أيام الفراعنة، وما زالت هى هى نفس الوسائل البدائية وقطع الأرض الصغيرة التى لا تتجاوز عدة أفدنة، بل قد تقاس بالقراريط فى كثير من الأحيان، وما زالت سلعة الفلاح تشترى بأسعار زهيدة، كل هذا يكمن وراء ضعف انتماء الفلاح المصرى لأرضه وضعف تمسكه بها ورغبته فى هجرها.

واصبحت مهنة الزراعة مهنة الخسائر وأن لم يتم تطويرها وتطوير وسائلها وادوات زراعتها… سيحدث ما لا يحمد عقباه… الفلاح مش هيهجر الارض بس مش هيتعب نفسه تاني وهيتجه للزراعة «المريحة» طالما كده كده خسرانة .. هيزرع اي حاجة غير مكلفة زي الاعلاف او أي محصول تكلفته قليلة وسيحدث دربكة عظيمة في سوق المنتجات الزراعية وخاصة الخضر الاساسية .. وفي ظل الزيادة التي لا تهدأ لمستلزمات الانتاج الزراعي، والضعف «المميت» للرقابة علي جودتها وفي غياب «تام» لقرار زراعي حكيم يراعي تشابكات النظام الزراعي «المرتبك» والعشوائي.

المطلوب الآن وليس غدا …

أهمية تطوير الزراعة ودعم الفلاحين العمود الأساسى للمجتمع المصرى، من خلال تحديث الزراعة عبر تطبيق سياسات تحافظ على الموارد المائية وتطوير عملية الإنتاج والتسويق الزراعى ومستوى التعليم الزراعى، ومن حيث الإعلان عن سعر المحاصيل قبل الزراعة، وأن تكون هذه الأسعار عادلة تغطى تكلفة الإنتاج، وتحقق هامش ربح مناسبا لتصبح الزراعة مهنة مربحة، ومساعدة المزارعين فى إدخال الميكنة فى الحصاد والجنى، خاصة لمحصول القطن، لأن سعر تكلفة جنى الفدان تسببت فى عزوفهم عن زراعته، خاصة أن مصر كانت تزرع أكثر من 2 مليون فدان في نهاية الستينات ثم اقل من 800 ألف فدان حتى عام 2000.

ويبقى أن نردد قول الإمام محمد عبده – رحمه الله – عندما قال: “اللهم ارزقنى إيمان الفلاح البسيط، الذى يأكل من أرضه، وينام على الأرض، ويصلى على الأرض، ويموت في أرضه”، علها تكون سببا جديدا فى ارتباط الفلاح المصرى بأرضه وزرعه وضرعه، ليعيد الأحفاد سير الأجداد فى بناء حضارة جديدة على ضفاف النيل.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى