صحة

كنوز المطبخ النوبي.. حكايات النيل على مائدة الأجداد

إعداد: د.رباب خيري حسن

باحث بوحدة بحوث المطبخ التجريبي بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية – مركز البحوث الزراعية

بلاد النوبة هي المنطقة التاريخية الممتدة على طول نهر النيل من الشلال الأول جنوب أسوان شمالًا إلى جنوبي التقاء النيلين الأزرق والأبيض جنوبًا. كانت بلاد النوبة مقرًا لواحدة من أقدم الحضارات في أفريقيا القديمة، وهي حضارة كرمة التي استمرت من حوالي 2500 ق.م حتى غزوها من قبل المملكة المصرية الحديثة تحت حكم تحتمس الأول حوالي 1500 ق.م، حتى تفكك المملكة نحو 1070 ق.م. كانت النوبة موطنًا للعديد من الإمبراطوريات القديمة، منها مملكة كوش، التي غزت مصر سنة 727 ق.م في عهد بعنخي، وحكمت البلاد باعتبارها الأسرة الخامسة والعشرين حتى نحو 656 ق.م.

قد غزا الأحباش مروي على يد الملك عيزانا، حاكم مملكة أكسوم، مما عجّل بسقوط مملكة كوش بعد أن عاشت لأكثر من ألف عام، وشهدت النوبة بعد ذلك صعود ثلاث ممالك مسيحية: نوباتيا، المقرة، وعلوة. بعد سقوط الممالك النوبية الثلاث، انقسمت النوبة إلى النصف الشمالي الذي غزاه العثمانيون، والنصف الجنوبي لسلطنة سنار في القرن السادس عشر. توحدت النوبة مرة أخرى على يد محمد علي باشا مع مصر في القرن التاسع عشر. واليوم تنقسم منطقة النوبة الحديثة بين مصر والسودان. يُسمى العلم الأثري الذي يدرس النوبة القديمة “علم النوبيات”.

يُعتقد أن اسم النوبة مشتق من الكلمة المصرية القديمة “نوب”، والتي تعني “الذهب”، حيث إن الذهب المستخدم في مصر القديمة كان يأتي بشكل كبير من تلك المنطقة (أرض الذهب). وتشير كتب التاريخ إلى أن النوبي هو أول من زرع في تاريخ البشرية، وقد جاء في كتاب “وصف مصر” (جمال حمدان) أن النوبي أول إنسان زرع ورعى الماشية منذ أقدم الحضارات.

تم تهجير النوبيين إلى بلاد النوبة الجديدة من أجل الاستفادة من مياه فيضان النيل وتخزين كميات منها؛ فتم افتتاح خزان أسوان، ومن ثم تعليته مرة أولى عام 1912 وأخرى عام 1933. وفي مراحل التعلية المختلفة، غرقت العديد من القرى النوبية في مصر وهُجِّر أهلها، غير أن التهجير لحق بكل القرى النوبية في مصر عند إنشاء السد العالي، وتم تهجير النوبيين إلى كوم أمبو في أسوان، تاركين وراءهم كل أراضيهم وذكرياتهم غارقة في بحيرة السد العالي.

ورغم كل الظروف والصعاب، استمرت كل العادات والتقاليد والأكلات التراثية حتى وقتنا هذا.

الغذاء جزء من ثقافة الشعوب

في مصر، وخاصة بلاد النوبة، لا يُنظر إلى الطعام على أنه شكل من أشكال القوت فحسب، بل طقس يجمع الناس معًا في البيئات الاجتماعية، ووسيلة لتحسين المزاج في الأوقات الصعبة، وأداة للتعبير عن الإبداع.

المطبخ النوبي

يختلف المطبخ النوبي عن غيره داخل المجتمعات الأخرى في جمهورية مصر العربية، ولا شك أن ذلك يرجع لما يحويه هذا المكان من أدوات ووسائل تساعده على إخراج أفضل الموائد وأشهى الأكلات، التي توارثها هذا الجيل من أجدادهم النوبيين قبل مئات السنين.

هذا المطبخ جزء من ثقافة النوبيين التي تبدو وكأنها تحتضر. يتم طهي الأطباق الشهية اليوم فقط في منازل النوبيين القلائل الذين يعيشون في أقصى جنوب مصر أو في النوبة الجديدة، وهي مزيج اصطناعي من المنازل والقرى أيضًا في جنوب مصر، حيث أعيد توطين النوبيين بعد إجلائهم من موقع السد العالي في أوائل الستينيات.

أكلات من التراث النوبي

إن الطعام النوبي أعمق بكثير من مجرد وجبة توفر قوت اليوم، بل يعكس قصصًا وتقاليد.

الخبز النوبي

يُعد الخبز على الأرجح أكثر أنواع الطعام إنتاجًا، كما يتضح من مخابز وأفران كرمة، أحد أكبر المواقع الأثرية في النوبة القديمة.

1- الخبز الشمسي: تُخبز العجينة حتى تصبح الحواف مقرمشة، ويتحول سطحها إلى اللون الذهبي، وينهار مركزها إلى كتلة منصهرة، ليُصنع منها ما يُعرف بين النوبيين باسم “الكبد”، وهو خبز راقٍ ولذيذ للغاية.
2- الكابد: هو خبز خاص يُؤكل مع البامية الويكة أو الأتر، وهو عبارة عن دقيق قمح وخميرة وماء وملح وفلفل، ويُترك للتخمير ثم يُسوَّى على الدوكة.
3- الجراية: هو أيضًا خبز يشبه الرقاق الطري، يُعد على الدوكة ولكن بسُمك أقل.

ما زال معظم “النوبيين في الشتات”، كما يُوصف الأشخاص الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم والاستقرار في أجزاء أخرى من مصر، يطبخون الأطباق التقليدية.

ومن أشهر الأكلات النوبية

1- المديد: واحدة من الوصفات المفضلة التي نادرًا ما تُرى اليوم هي طبق يُسمى “مديد”، يتم تحضيره تقليديًا قبل الأعراس، وهو طبق بسيط يشبه العصيدة، مصنوع من دقيق القمح والسمن والماء، مع خيارات لإضافة الحليب أو العسل الأسود أو الأبيض.

2- الجاكود أو الأتر: أشهر الوجبات النوبية على الإطلاق، وهو خليط بين السبانخ أو الملوخية الخضراء والبامية الناشفة. يُستخدم في صنعه أشهر أدوات المطبخ النوبي، وهو “المفراك”.

3- الويكة: تُقدَّم البامية في هذا الطبق بمذاق خاص؛ حيث تُطهى البامية في إناء به شوربة دجاج أو غيرها، وعندما يتم تسويتها بشكل كامل تُفرم حتى تصبح سائلة مثل الملوخية، وبعد ذلك يُضاف إليها القليل من الثوم المقلي بالسمن، ويتم تناولها مع عيش الدوكة.

ومما سبق، يظهر لنا مدى ارتباط النوبي بتراثه وعاداته وأرضه الطيبة القديمة، وحنينه للنيل وبيته القديم، وأيضًا لأكلاته التراثية التي ما زالت متوارثة من جيل إلى جيل حتى وقتنا هذا.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى