التحوير الوراثي في النباتات: بين الأمل والمخاوف

بقلم: أ.د.خالد فتحي سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات
يشهد العالم في العقود الأخيرة ثورة علمية غير مسبوقة في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية، ومن أبرز مظاهرها ما يُعرف بالتحوير الوراثي أو الهندسة الوراثية للنباتات. هذه التقنية، التي تقوم على تعديل الجينات المسؤولة عن الصفات الوراثية في النبات، فتُضيف إليها جينات جديدة أو تُعدّل من عملها، تمثل نقلة نوعية في تاريخ الزراعة والغذاء، إذ تَعِدُ بإنتاج محاصيل أكثر مقاومة للأمراض والحشرات وأكثر قدرة على تحمّل الظروف المناخية القاسية من إجهادات بيئية متنوعة، فضلًا عن تحسين القيمة الغذائية وجودة المحاصيل. ومع ذلك، فإن هذا التطور العلمي المثير لا يخلو من الجدل والقلق، سواء من الناحية الصحية أو البيئية أو الأخلاقية.
بدأت فكرة التحوير الوراثي للنباتات في منتصف القرن العشرين مع تطور علم الوراثة الجزيئية، لكن التطبيق الفعلي لم يتحقق إلا في بداية التسعينيات، حين ظهرت أولى المحاصيل المعدلة وراثيًا في الأسواق، مثل فول الصويا والذرة والقطن. وقد اعتمد العلماء في البداية على بكتيريا التربة المعروفة باسم Agrobacterium tumefaciens، التي تمتلك قدرة طبيعية على نقل جزء من مادتها الوراثية إلى الخلايا النباتية، وهي الآلية التي تم تطويرها لتصبح وسيلة لنقل الجينات المرغوبة إلى النباتات. ثم ظهرت لاحقًا طرق أخرى، مثل قذف الجينات باستخدام مدافع دقيقة، وتقنيات التحرير الجيني الحديثة مثل CRISPR/Cas9، التي تُعد من أدق وأحدث الوسائل في هذا المجال.
لقد ساهم التحوير الوراثي في إحداث طفرة في إنتاج المحاصيل الزراعية على مستوى العالم. ففي الولايات المتحدة، مثلًا، أصبحت معظم مساحات الذرة وفول الصويا والقطن مزروعة بأصناف معدلة وراثيًا. وقد أدى ذلك إلى تقليل استخدام المبيدات الحشرية، بفضل إدخال جينات تمنح النبات مقاومة طبيعية للآفات. كما طوّر العلماء نباتات قادرة على تحمّل الجفاف والملوحة، ما يُعد إنجازًا مهمًا في ظلّ التغير المناخي وشحّ الموارد المائية.
وفي المقابل، فإن بعض أنواع التحوير ركّزت على تحسين القيمة الغذائية، كما في “الأرز الذهبي” الذي يحتوي على نسبة مرتفعة من فيتامين A، لمواجهة مشكلة نقص هذا الفيتامين في بعض مناطق آسيا وإفريقيا.
لكن، وكما هي الحال مع كل ابتكار علمي، لم يَخْلُ التحوير الوراثي من الجدل. فهناك من يرى فيه تهديدًا للتوازن البيئي والصحي، إذ يخشى البعض من انتقال الجينات المحوّرة إلى الأنواع البرية أو النباتات غير المعدلة، مما قد يؤدي إلى ظهور “أعشاب فائقة المقاومة” يصعب السيطرة عليها. كما يعبّر بعض العلماء عن قلقهم من احتمال تأثير هذه التعديلات على صحة الإنسان على المدى البعيد، رغم أن معظم الدراسات الحالية لم تثبت وجود أخطار مباشرة من تناول الأطعمة المعدلة وراثيًا.
وفي هذا السياق، تبرز أيضًا المخاوف الأخلاقية والاقتصادية، حيث تُحتكر تقنيات التحوير الوراثي من قِبل شركات كبرى تتحكم في البذور المعدلة وراثيًا، مما يُهدد المزارعين الصغار ويقوّض مبدأ التنوع الزراعي.
أما على المستوى العربي، فما زال التحوير الوراثي في النباتات في مراحله الأولى. فبعض الدول، مثل مصر والمغرب والإمارات والسودان، بدأت بإجراء أبحاث وتجارب محدودة على محاصيل معدلة وراثيًا، بينما ما تزال دول أخرى متحفظة بسبب غياب التشريعات المنظمة والرقابة العلمية الكافية. دخول العالم العربي إلى هذا المجال يحتاج إلى استراتيجية واضحة تُوازن بين الفوائد الاقتصادية والاعتبارات البيئية والأخلاقية، مع ضرورة بناء قدرات وطنية في مجال التكنولوجيا الحيوية لضمان استقلال القرار العلمي.
من الناحية العلمية، يرى المختصون أن التحوير الوراثي ليس خطرًا في حد ذاته، بل إن خطورته تكمن في طريقة استخدامه وعدم وجود رقابة صارمة عليه. فكما أن التهجين التقليدي في الماضي كان يهدف إلى تحسين المحاصيل دون إثارة مخاوف، فإن الهندسة الوراثية اليوم يمكن أن تُستخدم بالمنهج نفسه إذا تمت وفق ضوابط علمية دقيقة. وقد دعت منظمات دولية مثل منظمة الأغذية والزراعة (FAO) ومنظمة الصحة العالمية إلى تبنّي معايير شفافة في تقييم سلامة الكائنات المعدلة وراثيًا، من خلال اختبارات طويلة المدى ومراجعات علمية مستقلة قبل السماح بتداولها تجاريًا.
وفي ضوء الأزمة الغذائية العالمية وتزايد عدد السكان الذي تجاوز ثمانية مليارات نسمة، يبدو التحوير الوراثي خيارًا صعبًا لكنه ضروري في بعض الأحيان. فالعالم بحاجة إلى إنتاج غذاء أكثر بموارد أقل، خاصة مع التغير المناخي الذي يُهدد خصوبة التربة ومصادر المياه. ومع ذلك، فإن هذا الحل لا ينبغي أن يكون بديلًا عن التنمية الزراعية المستدامة أو عن حماية التنوع البيولوجي، بل يجب أن يكون جزءًا من منظومة متكاملة تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي دون الإضرار بالبيئة أو صحة الإنسان.
الموجز المختصر
في النهاية، يمكن القول إن التحوير الوراثي في النباتات يقف اليوم على مفترق طرق بين العلم والأخلاق، بين الحاجة والقلق. إنه أداة قوية في يد الإنسان، يمكن أن تكون وسيلة للخير إذا وُجّهت بحكمة، أو سببًا للاضطراب إذا أُسيء استخدامها. ويبقى الأمل أن يكون المستقبل عنوانه “العلم المسؤول”، الذي يضع مصلحة الإنسان والطبيعة فوق كل اعتبار.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



