الذهب الأخضر المُهدور: مقارنة بين من يصنع القيمة ومن يُفرط فيها
إعداد: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
حين يُذكر عبق النبات، لا يُذكر كعنصر هامشي في الاقتصاد أو مجرد نكهة في فنجان شاي، بل كمرآة تعكس علاقة الإنسان بالأرض، وتاريخ الشعوب في التداوي، الجمال، والزراعة. في عالم الأعشاب العطرية والطبية، هناك دول صنعت من هذه النباتات هوية وطنية، وأخرى لا تزال تكتفي بتصديرها كما وُجدت، خامًا بلا هوية. بين بلغاريا وتركيا من جهة، ومصر والمغرب من جهة أخرى، تبرز فجوة ليست فقط في الإنتاج، بل في الرؤية والتخطيط.
الجانب الاقتصادي والتجاري للأعشاب الطبية والعطرية، وهو من أهم المحاور لأنه يُظهر مدى تحوّل الأعشاب من مجرد تقاليد شعبية إلى صناعة عالمية بمليارات الدولارات
الجانب الاقتصادي والتجاري للأعشاب الطبية والعطرية يمثل تحولًا استراتيجيًا في كيفية فهمنا لهذه الأعشاب. فما كان يُعتبر في الماضي مجرد جزء من التقاليد الشعبية، أصبح اليوم أحد أبرز القطاعات الصناعية التي تسهم بشكل ملحوظ في الاقتصاد العالمي. تحولت الأعشاب الطبية والعطرية من مجرد عناصر طبيعية تُستخدم في الطب التقليدي أو الطهي إلى منتج صناعي رائج في أسواق متعددة، حيث تتجاوز قيمتها السوقية مليارات الدولارات سنويًا، مما يجعلها من أكثر الصناعات نموًا في العالم.
قد شهدت الأعشاب انتقالًا مذهلًا من وصفات متوارثة إلى عناصر أساسية في صناعة دوائية وتجميلية تقدر بمليارات الدولارات. لم تعد تُحصر في تقاليد الجدات، بل غدت موردًا اقتصاديًا تنافس به كبرى الشركات في الأسواق العالمية. هذا التحول يعكس تغييرًا عميقًا في نظرة المجتمعات للعلاج النباتي، الذي لم يعد مجرد بديل شعبي، بل صناعة متطورة لها استثماراتها وأبحاثها.
تعود هذه التحولات إلى الاهتمام المتزايد بالصحة والعناية الذاتية، وزيادة الوعي بفوائد الأعشاب الطبيعية والعضوية. فقد أصبح الناس في جميع أنحاء العالم يبحثون عن بدائل طبيعية للمستحضرات الكيميائية التي قد تكون لها آثار جانبية ضارة. وهذا التوجه دفع بصناعة الأعشاب إلى المضي قدمًا في العديد من الاتجاهات، منها الزيوت العطرية، الشاي العشبي، المكملات الغذائية، الكريمات ومستحضرات العناية بالبشرة، التي أصبحت تحظى بشعبية كبيرة في الأسواق العالمية.
كما أن التحول في استخدام الأعشاب من الطب التقليدي إلى صناعة قائمة على الابتكار العلمي والتكنولوجي قد أدى إلى زيادة الطلب عليها. العلماء والخبراء الزراعيون الآن يعملون على تطوير سلالات من الأعشاب تكون أكثر فعالية من حيث قدرتها على إنتاج الزيوت الفعالة أو خصائصها العلاجية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تقنيات الزراعة الحديثة مثل الزراعة المحمية، وعمليات التحليل المتقدم للمكونات الكيميائية للأعشاب، قد ساعدت في تحسين الجودة وزيادة الإنتاجية، مما أسهم في جعل هذه الأعشاب مكونًا رئيسيًا في سلاسل التوريد العالمية.
عند الحديث عن الجانب التجاري، نجد أن التجارة العالمية للأعشاب الطبية والعطرية تعتمد بشكل رئيسي على أسواق أوروبا وآسيا، لكن في السنوات الأخيرة، شهدت أسواق أمريكا الشمالية والجنوبية أيضًا نموًا ملحوظًا في الطلب على هذه المنتجات. وهذا النمو في الطلب جعل هذه الأعشاب تدخل في العديد من الصناعات العالمية مثل صناعة العطور، مستحضرات التجميل، الأدوية البديلة، والأغذية والمشروبات الصحية. فقد أصبحت الأعشاب بمختلف أنواعها تلعب دورًا حيويًا في هذه الصناعات، وباتت مصانع التحويل والتصنيع تنتشر في كل مكان، من أجل تحويل الأعشاب إلى منتجات جاهزة للاستهلاك في الأسواق العالمية.
إذا نظرنا إلى حجم السوق، نجد أن الصناعات المرتبطة بالأعشاب الطبية والعطرية قد شهدت نموًا غير مسبوق في السنوات الأخيرة. هذا النمو المدفوع بتزايد الطلب على المنتجات الطبيعية قد جعل العديد من الدول تسعى للاستفادة من هذا السوق الضخم، سواء من خلال تحسين الإنتاج المحلي أو عن طريق تصدير المنتجات إلى الأسواق العالمية.
تُعد صناعة الأعشاب أحد المجالات التي تعكس قدرة الدول على استثمار مواردها الطبيعية بطرق مبتكرة، مما يعزز من الاقتصاد المحلي ويخلق فرص عمل جديدة. على سبيل المثال، الدول التي تتمتع بمناخات مثالية لزراعة الأعشاب الطبية مثل دول حوض البحر الأبيض المتوسط أو بعض المناطق الاستوائية والجبيلية، يمكنها أن تفتح أبوابًا واسعة لتصدير الأعشاب إلى أسواق خارجية وتحقيق عوائد اقتصادية كبيرة.
وفي هذا السياق، فإن القطاع التجاري للأعشاب يتطلب أيضًا بنية تحتية قوية قادرة على دعم هذه الصناعة من خلال تطوير سلاسل التوريد العالمية. ويشمل ذلك تحسين وسائل النقل، تبسيط إجراءات التصدير، وزيادة الاستثمارات في مجال التصنيع والتعبئة. ومع تزايد التركيز على الاستدامة والمنتجات العضوية، فإن الاتجاه نحو تعزيز الشهادات البيئية مثل الشهادات العضوية أو خلو المنتجات من المبيدات الكيماوية، يمكن أن يساهم في خلق ميزة تنافسية للدول المصدرة.
لكن لا تقتصر الأبعاد الاقتصادية للأعشاب على التجارة فقط. فهناك أيضًا البُعد الاستثماري في هذه الصناعة. مع تزايد فرص الاستثمار في هذا القطاع، أصبحت الشركات الكبرى تعي تمامًا القيمة الاقتصادية للأعشاب الطبية والعطرية، مما دفعها إلى الدخول في مشاريع مشتركة مع الحكومات المحلية أو حتى المزارعين لزيادة الإنتاج وتوسيع الأسواق. كما أن الأسواق المالية بدأت تعترف بالأعشاب كمنتجات قابلة للاستثمار، حيث ظهرت فرص جديدة للمستثمرين الذين يرغبون في الاستفادة من هذه الثورة الصحية التي تجتاح العالم.
ومع هذا التحول الكبير، أصبح من الضروري أن نعيد التفكير في دور الأعشاب الطبية والعطرية في اقتصادنا، وتقييم الإمكانيات التي توفرها هذه الصناعة على المدى الطويل. فالأعشاب ليست مجرد نبتات عطرية أو علاجية، بل هي ثروة اقتصادية هائلة يمكن أن تحقق ليس فقط اكتفاءً ذاتيًا في العديد من الدول، بل أيضًا تعزز التجارة الدولية وتفتح الأفق أمام فرص عمل جديدة، مما يساهم في تعزيز الاقتصادات الوطنية والدولية.
إذا تم توجيه الاستثمارات بشكل حكيم نحو هذا القطاع، سيمكننا أن نشهد نقلة نوعية في الصناعات الزراعية، وخلق شبكة اقتصادية مستدامة من الأعشاب الطبية والعطرية التي تلبي احتياجات الأسواق الصحية والتجميلية العالمية.
المحور الثالث: الجانب الاقتصادي والتجاري للأعشاب الطبية والعطرية
أولاً: الأعشاب كصناعة عالمية مربحة
الأعشاب لم تعد فقط تُستخدم في الطب الشعبي، بل أصبحت مدخلاً في صناعات كبرى: مثل الأدوية، مستحضرات التجميل، العطور، المكملات الغذائية، الشاي العشبي، الزيوت العلاجية. . لقد خرجت الأعشاب الطبية والعطرية من عباءة التقاليد الشعبية الضيقة إلى فضاء الصناعات الكبرى الرحب، وأصبحت اليوم مكونًا أساسيًا في معادلة الاقتصاد الصحي والجمالي على حد سواء. لم تعد مجرد أوراق تُغلى، أو جذور تُطحن، أو زهور تُجفف، بل تحولت إلى مواد أولية ذات قيمة عالية تدخل في قلب صناعات عالمية متقدمة، تديرها شركات كبرى، وتُراقبها مختبرات دقيقة، وتُسوَّق لها حملات عالمية مبهرة.
تخيل أن زهرة صغيرة مثل اللافندر أو ورقة نعناع بسيطة قد تكون في يومٍ ما المكون الرئيسي لعطر فاخر يُباع في أرقى المتاجر، أو أن زيتًا يُستخلص من نبتة شائعة كالزعتر يمكن أن يكون جزءًا من تركيبة دواء يُستخدم لعلاج مشكلات في الجهاز التنفسي، أو تحسين وظائف المناعة. إن هذا التحول لم يكن وليد صدفة، بل نتاج وعي عالمي متزايد بضرورة العودة إلى الطبيعة والاعتماد على موارد أكثر أمانًا وصحة، مما فتح الأبواب أمام الأعشاب لتدخل بقوة إلى ساحات التصنيع الحديثة.
صناعة الأدوية على سبيل المثال، أصبحت تعتمد على الأعشاب كخزان غني للمواد الفعالة. فالعقاقير المستخلصة من النباتات الطبية لم تعد حكرًا على الطب البديل، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الطب الحديث نفسه. ويتم تطوير الأدوية النباتية اليوم في بيئات مختبرية عالية التقنية، تُمزج فيها المعرفة التقليدية بالعلم الحديث، مما يعطي ناتجًا دوائيًا يجمع بين الفعالية والأمان، وتُصدَّر هذه الأدوية إلى أنحاء العالم، لتؤكد أن الأعشاب باتت جزءًا أصيلًا من اقتصاد الدواء العالمي.
وفي عالم مستحضرات التجميل، أصبحت الأعشاب هي الروح النابضة للمنتجات الطبيعية التي تشهد إقبالًا متزايدًا من قبل المستهلكين. فبينما كانت المنتجات التجميلية فيما مضى تعتمد على مكونات صناعية، باتت الشركات اليوم تتسابق على إدخال مستخلصات الأعشاب في كريمات العناية بالبشرة، ومنتجات مكافحة الشيخوخة، والشامبوهات، والمقشرات، وحتى الماكياج العضوي. الزيوت النباتية مثل زيت الجوجوبا، وزيت الورد، وزيت الشاي الأخضر أصبحت علامات فاخرة داخل زجاجات صغيرة تُباع بأسعار باهظة، وتُروَّج بوصفها الحل الطبيعي لمشكلات البشرة والشعر، وهو ما رفع من قيمة هذه الأعشاب بشكل لافت.
أما في عالم العطور، فإن الأعشاب العطرية مثل اللافندر، والمسك، والياسمين، والنعناع، والريحان، هي التي تمنح كل عطر بصمته الخاصة. يدخل خبراء صناعة العطور في منافسة مستمرة لاكتشاف التوليفات النباتية الأكثر ندرة وتميزًا، مما جعل من الأعشاب مادة خام ذات بُعد فني وذوقي، تتجاوز قيمتها المادية إلى قيمة ثقافية وجمالية ترتبط بالهوية الشخصية والمزاج الفردي. إن صناعة العطور لم تعد فقط تجارة، بل أصبحت حكاية تُروى في زجاجة، تلعب فيها الأعشاب دور البطولة.
ولا يمكن أن نغفل عن الشاي العشبي والمكملات الغذائية، اللذين شهدا انفجارًا في الطلب في السنوات الأخيرة. ملايين البشر حول العالم بدأوا يستبدلون مشروباتهم التقليدية بكوب من شاي البابونج أو الزنجبيل أو النعناع، ليس فقط لخصائصه المهدئة أو المنشطة، بل لما يُروّج له من فوائد صحية ممتدة تتراوح من دعم الهضم إلى تحسين النوم والمزاج. كما أن سوق المكملات الغذائية المدعّمة بالأعشاب يشهد نموًا هائلًا، حيث تُنتج الشركات مئات الأنواع التي تستهدف كل جوانب الحياة الصحية، من تقوية الذاكرة إلى تحسين مستويات الطاقة إلى ضبط الهرمونات.
الزيوت العلاجية بدورها أصبحت عمودًا فقريًا في صناعة العلاجات الطبيعية والتدليك والعناية الذاتية. زيت الأرغان، زيت اللبان، زيت الكافور، وزيت اللافندر، كلها تدخل في نطاق العلاج العطري أو ما يُعرف بـ”الأروماثيرابي”، حيث يُعاد للإنسان توازنه الجسدي والنفسي عبر روائح الأعشاب المستخلصة بعناية. هذا السوق تحديدًا، الذي يجمع بين التداوي والاسترخاء، يشهد رواجًا متصاعدًا، لا سيما مع ازدهار ثقافة “الرفاهية الطبيعية” في البيوت والمراكز الصحية والمنتجعات.
إن كل هذه التحولات تشير إلى أن الأعشاب لم تعد مجرد نبتة تُقطف من الأرض، بل أصبحت عنصرًا صناعيًا يتم زراعته وتطويره واستخلاصه وتغليفه وتسويقه بحرفية عالية. كل مرحلة من هذه المراحل تخلق فرصًا اقتصادية، وتفتح أبوابًا جديدة للاستثمار، وتزيد من التنافس العالمي في هذا المجال. لقد أصبحت الأعشاب اليوم جسورًا بين الطبيعة والصناعة، بين التراث والابتكار، بين الحقل والمختبر، وبين الصحة والجمال.
وما بين عطر يوقظ الحواس، وكبسولة تعزز المناعة، وكوب شاي يهدئ الروح، وزيت ينعم البشرة، تواصل الأعشاب الطبية والعطرية رحلتها من قلب الطبيعة إلى قلب الاقتصاد العالمي، مثبتة أنها ليست فقط إرثًا من الماضي، بل رهانًا واعدًا للمستقبل.
سوقها يشهد نموًا متسارعًا، خاصة مع ازدياد الإقبال على المنتجات الطبيعية والعضوية
في عالمٍ يزداد وعيه يوماً بعد يوم بما يدخل إلى الجسد وما يُلامس البشرة، أصبح الخيار الطبيعي هو الملك المتوّج على عرش الأسواق العالمية. لم يعد الناس يهرعون إلى المنتجات الكيميائية كما في السابق، بل باتوا يبحثون عمّا يُشبههم في البساطة والنقاء، عمّا وُلد من رحم الطبيعة، وتربى تحت شمسها، وارتوى من مطرها النقي. هنا بزغ نجم الأعشاب الطبية والعطرية، لا كعنصر هامشي، بل كركيزة أساسية في منظومة اقتصادية وتجارية تنمو وتتسع بسرعة مذهلة.
هذا التوجه نحو الطبيعة لم يكن مجرد موضة عابرة، بل تحوّل إلى نمط حياة، ترجمته أرقام المبيعات، واتساع رقعة الزراعة، وتزايد خطوط الإنتاج في كبريات الشركات العالمية. المستهلك العصري لم يعد يقتنع بما يُقال له فقط، بل أصبح يقرأ المكونات، ويبحث عن الأصل، ويتساءل: هل هذا المنتج طبيعي؟ هل هو عضوي؟ هل يحتوي على مستخلصات عشبية؟ هذه الأسئلة التي يطرحها الملايين يومياً في كل مكان من العالم، هي ما دفع بالسوق إلى التحول الجذري نحو الأعشاب.
ووسط هذا التحول، قفزت الأعشاب من الحقول إلى المختبرات، ومن الجرار الطينية القديمة إلى زجاجات أنيقة مرصوفة على رفوف المتاجر العالمية. شركات التجميل باتت تتباهى بمستخلص اللافندر والبابونج، وشركات الأغذية تتفاخر بإدراج الزعتر والزنجبيل والقرفة في وصفاتها، ومصانع الشاي تسوّق لمشروبات دافئة تحمل أسماء أعشاب كانت يوماً تُستخدم في الطب الشعبي فقط. حتى كبسولات المكملات الغذائية، أصبحت لا تخلو من لمسة عشبية، تَعِد المستهلك بالطاقة، والاسترخاء، والمناعة، والجمال، كل ذلك بفضل الأعشاب.
وبينما يرتفع الطلب العالمي، تتسابق الدول المنتجة لتأمين حصتها في هذا السوق المتسارع، وتبرز أهمية الأعشاب ليس فقط في البُعد الصحي، بل كعنصر اقتصادي استراتيجي يمكن أن يُحدث فارقاً في ميزان التبادل التجاري، ويخلق فرص عمل، ويعيد الحياة إلى الأراضي الزراعية المهملة. كل هذا يجعل من الأعشاب الطبية والعطرية، لا مجرد مكون طبيعي، بل كنزاً استراتيجياً تنمو حوله اقتصادات وتُبنى عليه رؤى مستقبلية طموحة.
تشير التقديرات إلى أن سوق الأعشاب العالمي قد تجاوز 150 مليار دولار سنويًا، ومن المتوقع أن يصل إلى 300 مليار دولار بحلول 2030
حين يُذكر الرقم “150 مليار دولار” قد يبدو للوهلة الأولى كرقم مجرد، جامد، بعيد عن حياتنا اليومية، لكنه في الحقيقة يحمل بين طياته قصة ثراء تتنفس من قلب الطبيعة. إنه رقم لا يتحدث فقط عن سوق، بل عن حلمٍ أخضر تشكّل على مدى قرون، وها هو اليوم ينضج ويتحول إلى صناعة عالمية تتقدّم بثبات نحو حاجز 300 مليار دولار في غضون سنوات قليلة. إنه ليس مجرد نمو اقتصادي، بل قفزة نوعية تُعبّر عن تغيّر جذري في سلوك المستهلك العالمي.
العالم اليوم لا يُقبل على الأعشاب بدافع الفضول أو التقاليد فقط، بل بسبب قناعة متزايدة بأن العلاج والوقاية والجمال قد تُستخلص من أوراق خضراء وجذورٍ عطرية، لا من مركبات صناعية معقدة. هذا التحوّل في الوعي، وهذه العودة إلى أحضان الطبيعة، شكّلت الدفعة الكبرى لانتعاش سوق الأعشاب، حيث باتت الأعشاب تلعب أدواراً متعددة في الحياة اليومية: في الشاي الصباحي، وفي زيوت التدليك، في كريمات البشرة، وحتى في أقراص الوقاية الصحية التي تُباع في كبريات الصيدليات العالمية.
وراء هذا السوق الضخم تقف صناعات عملاقة، وشركات دواء وتجميل وغذاء تُوظف آلاف الباحثين لتطوير مستحضرات عشبية أكثر دقة وفعالية. لم تعد الأعشاب تُستخدم بعشوائية، بل تُزرع وفق معايير علمية، وتُقطف في توقيتات محسوبة، وتُخضع لتحاليل دقيقة لاستخلاص أعلى جودة من الزيوت والمواد الفعالة. هذه العمليات تُترجم إلى منتجات تُباع بأسعار باهظة، لكنها تُستهلك بشغف، لأنها ببساطة تُوحي بالأمان والطبيعة والصفاء.
ومن اللافت أن هذا السوق لا يعرف الركود، بل يتوسع عاماً بعد عام، مع دخول لاعبين جدد، سواء من شركات ناشئة تُراهن على الابتكار، أو من دول نامية بدأت تكتشف كنوزها النباتية وتعمل على استثمارها. واللافت أيضاً أن بعض الدول التي كانت تستورد الأعشاب أصبحت اليوم تصدّر مستحضرات عشبية متقدمة، مما يدل على أن هذا القطاع لا يُقاس فقط بالحجم، بل أيضاً بمستوى التطوير والقيمة المضافة.
إن وصول سوق الأعشاب إلى 300 مليار دولار في عام 2030 لم يعد مجرد توقّع نظري، بل هو مسار منطقي لما نشهده من انفجار في الطلب وتوسّع في الإنتاج والبحث العلمي. إنها ثورة ناعمة تخوضها أوراق النباتات العطرية والطبية، ثورة تغزو الأسواق بلا ضجيج، وتُغيّر قواعد التجارة والصحة والجمال من جذورها.
ثانيًا: أهم الدول المصدّرة والمستوردة
الدول المصدّرة:
الهند : تعتبر رائدة عالميًا في إنتاج وتصدير الأعشاب، بفضل الطب الأيروفيدي والبنية الصناعية المتطورة
. الهند، تلك الأرض التي يتشابك فيها عبق التاريخ مع نسائم الطبيعة، لم تصل إلى ريادتها في مجال تصدير الأعشاب الطبية والعطرية مصادفة أو بالحظ، بل جاءت هذه المكانة كثمرة لتقاليد عريقة وعلوم متجذرة وحضارة آمنت منذ آلاف السنين بأن الشفاء يكمن في الطبيعة. فالهند ليست مجرد دولة منتجة للأعشاب، بل هي معمل مفتوح في الهواء الطلق، حيث تنمو النباتات العلاجية في كل شبر تقريبًا، من سفوح جبال الهيمالايا إلى السهول الخصبة جنوبًا.
الطب الأيروفيدي، هذا الموروث العلاجي القديم الذي وُلد في أحضان الحضارة الهندية قبل أكثر من خمسة آلاف عام، يُعد الركيزة الأساسية التي انطلقت منها الهند نحو العالم في مجال الأعشاب. لكن ما يجعل الهند تتفوّق ليس فقط تمسّكها بهذا التراث، بل قدرتها المذهلة على تحويله إلى صناعة منظمة ومنضبطة ومُعتمدة على أحدث المعايير العلمية. لقد جمعت بين الحكمة القديمة والتقنية الحديثة، فأنشأت المزارع المتخصصة، ومراكز الأبحاث، والمختبرات التي تعمل ليل نهار لتحسين الجودة واستخلاص أفضل ما في هذه النباتات.
الهند لا تُصدّر فقط أعشابًا خامًا، بل تُصدر زيوتًا مركزة، ومستخلصات عشبية، وكبسولات طبية، ومستحضرات تجميل طبيعية تُغزو الأسواق العالمية. من الكركم الهندي الذي أصبح رمزًا للشفاء الطبيعي، إلى نبات الأشواغاندا الذي يُسوّق اليوم كمُعزّز للمناعة والطاقة النفسية، تقود الهند طوفانًا من المنتجات التي يزداد الطلب عليها من شرق آسيا إلى أوروبا، ومن أمريكا إلى الشرق الأوسط.
وما يعزز هذه الريادة أن الهند لا تعتمد فقط على التنوع البيولوجي الغني في أراضيها، بل تمتلك شبكة ضخمة من الفلاحين والشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، التي تدير سلسلة إنتاج محكمة تبدأ من الزراعة وتنتهي على رفوف المتاجر في أقصى بقاع الأرض. كما أن الحكومة الهندية لعبت دورًا حيويًا في دعم هذا القطاع، من خلال تشريعات تحفز التصدير، ومبادرات لتدريب العاملين، وترويج دولي ذكي للطب الأيروفيدي والمنتجات العشبية.
باختصار، الهند لا تبيع مجرد أعشاب، بل تصدّر ثقافة متكاملة، وفلسفة علاجية متوازنة، ومنظومة صناعية ذكية تُقدّم للإنسان المعاصر خيارًا طبيعيًا في عالم مُنهك من الأدوية الكيميائية. ومن هنا جاءت ريادتها واستحقّت عن جدارة أن تكون في صدارة الدول المصدّرة للأعشاب الطبية والعطرية.
الصين : تستخدم الأعشاب في الطب الصيني التقليدي، وتصدّر الزيوت ومستخلصات النباتات
الصين، تلك الحضارة التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ لأكثر من خمسة آلاف عام، لم تكن يومًا بعيدة عن أسرار الطبيعة، بل كانت دائمًا في حالة انسجام وتناغم معها، تستلهم منها فلسفتها في الحياة، وفي الشفاء، وفي بناء الجسد والروح معًا. ومن بين أعظم ما ورثته هذه الأرض العريقة للبشرية، هو الطب الصيني التقليدي، الذي جعل من الأعشاب الطبية والعطرية أكثر من مجرد وسيلة علاج، بل فلسفة قائمة على التوازن بين العناصر، واستعادة الانسجام الداخلي.
ففي الصين، الأعشاب لا تُعامل كمواد خام فقط، بل تُمنح احترامًا شبه مقدس، تُنتقى بدقة، وتُعالج وفقًا لقواعد صارمة توارثها الحكماء جيلًا بعد جيل. وداخل كل قرية ومدينة، بل في كل بيت تقريبًا، ثمة قصة مع نبات عشبي له مكانته في الثقافة الصحية، سواء في علاج الأمراض أو تعزيز الطاقة الحيوية أو حتى في طقوس الحياة اليومية.
هذا التراث الثري لم يبقَ حبيس الجغرافيا، بل انطلق كقوة اقتصادية ناعمة إلى خارج الحدود. فالصين اليوم واحدة من أعظم الدول المصدّرة للأعشاب، لكنها لا تصدّرها بشكلها الخام فقط، بل تصدّر خلاصة هذه الفلسفة القديمة بعد أن صاغتها بأدوات العصر الحديث. تُنتج الزيوت الأساسية النادرة، والمستخلصات النباتية المركزة، والمركّبات الطبية العشبية التي تستخدم في الصناعات الدوائية، ومستحضرات التجميل الطبيعية التي تغزو الأسواق العالمية تحت شعارات مثل “الشفاء من الطبيعة” و”قوة الأعشاب الصينية”.
واللافت أن الصين لا تكتفي بالإنتاج الضخم، بل تملك بنية تحتية علمية ضخمة تدعم هذه الصناعة. فهناك مراكز أبحاث متخصصة، وجامعات تدرّس الطب الصيني التقليدي بشكل أكاديمي، وشركات ضخمة تطوّر خطوط إنتاج كاملة للعلاج الطبيعي. هذا إلى جانب الدعم الحكومي الواسع، الذي يرى في الأعشاب أحد أدوات القوة الاقتصادية والثقافية الناعمة التي يمكن أن تسهم في تعزيز مكانة الصين في العالم.
وفي ظل تصاعد الوعي العالمي بأهمية العودة إلى الطبيعة، ومع تزايد المخاوف من الآثار الجانبية للأدوية الكيميائية، وجدت الأعشاب الصينية موطئ قدم ثابت في الأسواق العالمية. من الجنسنغ الذي يُروّج له كمحفّز طبيعي للطاقة والمناعة، إلى نبتة الجنكو بيلوبا التي تُستخدم لتحسين الذاكرة، أصبحت المنتجات الصينية حاضرة على رفوف الصيدليات والمتاجر العضوية حول العالم.
إنها ليست مجرد تجارة، بل قصة حضارة تصدّر للعالم خلاصة ما فهمته من أسرار التوازن بين الإنسان والطبيعة، في عبوة صغيرة من الزيت، أو في كبسولة عشبية، أو حتى في شاي تقليدي يُعيد للجسد حيويته وللنفس هدوءها. هذه هي الصين، حيث الأعشاب ليست فقط صناعة… بل رسالة.
بلغاريا وتركيا: خصوصًا في الأعشاب العطرية مثل اللافندر والميرمية
حين نتحدث عن الأعشاب العطرية، لا يمكننا تجاهل بلدان مثل بلغاريا وتركيا، حيث تتنفس الأرض بعطر اللافندر وتنبض التلال بنكهة الميرمية. هاتان الدولتان لم تدخلا سوق الأعشاب من باب المصادفة أو التقليد، بل شكّلتا هوية زراعية وتجارية متجذرة في عمق التاريخ، وارتبطت طبيعة أراضيهما ومناخهما الفريد بسحر النباتات العطرية التي تنمو هناك.
في بلغاريا، يمتد عبير اللافندر كما لو أنه لون من ألوان السماء الهادئة، تغمره الشمس ويحتضنه النسيم. حقول اللافندر في وديان بلغاريا ليست مجرد لوحة فنية تبهر العيون، بل هي مصدر اقتصادي مزدهر، جعل من هذه الدولة الصغيرة واحدة من أكبر منتجي زيت اللافندر في العالم. ويتمتع اللافندر البلغاري بسمعة عالمية من حيث الجودة والرائحة الغنية، ما يجعله مفضلًا لدى كبرى شركات صناعة العطور ومستحضرات التجميل في أوروبا والعالم. لا تُستغل الحقول فقط للزراعة، بل أصبحت مقصدًا للسياحة الريفية، حيث يجتذب المشهد الخلاب والسيطرة الحرفية على تقطير الزيوت العطرية الزوار والباحثين والمستثمرين معًا.
أما تركيا، فهي أرض التنوع البيولوجي، إذ تجمع بين دفء البحر المتوسط وبرودة الهضاب، مما يمنحها ميزة فريدة في إنتاج طيف واسع من الأعشاب العطرية والطبية. ومن بين هذه الكنوز، تتربع الميرمية على العرش، فهي لا تنمو في تركيا فقط، بل تزدهر هناك وتكتسب نكهة ورائحة مميزة بسبب خصوبة التربة ونقاء البيئة في المناطق الجبلية والريفية. وتُعرف الميرمية التركية بجودتها العالية، ما يجعلها مرغوبة في الأسواق العالمية، سواء في شكلها المجفف أو كمستخلص يُستخدم في صناعة الأدوية والمكملات الغذائية أو في التركيبات التجميلية.
تركيا، مثل بلغاريا، لم تكتفِ بالزراعة التقليدية، بل طوّرت صناعات متكاملة تشمل التقطير، التعبئة، التصدير، والتسويق الذكي لهذه المنتجات. وهي اليوم تُشارك بقوة في المعارض الدولية، وتصدر أعشابها إلى أوروبا، أمريكا، والدول العربية، بل وتتنافس في سوق عالمي شديد التخصص لا يعترف إلا بالجودة والتميز.
ولعل الأجمل في هذه التجربة أن بلغاريا وتركيا لم تجعلا من الأعشاب مجرد مصدر للدخل، بل حولتاها إلى رمز من رموز الهوية الزراعية والثقافية، حيث تلتقي الأرض مع التراث، ويتحول عطر النبات إلى سفير يحمل عبق الوطن إلى كل أنحاء العالم.
مصر والمغرب : من الدول العربية الرائدة، لكن تصديرها غالبًا يكون خامًا وليس بعد التصنيع
في قلب العالم العربي، تقف مصر والمغرب كمنارتين تراثيتين في عالم الأعشاب الطبية والعطرية، تحملان تاريخًا ضاربًا في الجذور، وأرثًا نباتيًا غنيًا تنطق به الصحارى والسهول والوديان، وتعبق به الروائح المنبعثة من أسواق العطارين القديمة. فهاتان الدولتان ليستا وافدتين جديدتين إلى هذا المجال، بل كانتا منذ قرون جزءًا من الطرق التجارية الكبرى التي مرّت منها قوافل التوابل والأعشاب، وكانتا مصدرًا مهمًا في العالم القديم لتوفير النباتات العلاجية والعطرية.
في المغرب، لا يُشرب الشاي إلا بنعناع يتنفس نسيم الأطلس، كما لو أن كل ورقة فيه تحمل صدى الجبال والبحر.
أو في صعيد مصر، لا تُزرع الأعشاب فحسب، بل تُروى بحكايات الأجداد، وتُجفف على مهل كأنها كنوز من الزمن الجميل.
في مصر، تُعد الأعشاب جزءًا من الذاكرة الثقافية للشعب. من زمن الفراعنة إلى يومنا هذا، لم تنقطع العلاقة بين المصري والنبات، سواء للاستخدامات الطبية أو الطقوس الدينية أو الجماليات اليومية. الزنجبيل، الكركديه، البابونج، النعناع، والحلبة، كلها منتجات تنتشر زراعتها في الأراضي المصرية بفضل تنوع المناخ وخصوبة التربة، لا سيما في صعيد مصر ووادي النيل والدلتا. أما المغرب، فهو موطن أطلسي بامتياز، يجمع بين البحر والجبال، ويمنح أعشابه نكهة لا تُشبه أي مكان آخر. النعناع المغربي صار أيقونة، والميرمية، والزعتر الجبلي، والإكليل، والشيح، تنتشر في السوق المحلي كما تُصدر للخارج بكميات كبيرة.
لكن، على الرغم من هذا الغنى الطبيعي والطلب العالمي المتزايد، لا تزال كل من مصر والمغرب تصدّران الجزء الأكبر من إنتاجهما في صورته الخام، دون المرور بمراحل التصنيع أو التكرير أو التعبئة المتطورة التي تضيف للقيمة الاقتصادية أضعافًا مضاعفة. الأعشاب تُحمل في أكياس، وتُصدر كأوراق مجففة أو زيوت أساسية بسيطة، لتُعاد معالجتها خارج الحدود، ثم تعود إلى الأسواق العربية أحيانًا بأسعار مرتفعة وتغليف أنيق بعد أن أضافت عليها الدول الأخرى قيمة صناعية وتجارية.
هذه الثغرة تُسلّط الضوء على أحد التحديات الكبيرة التي تواجه الصناعات العشبية في الدول العربية، ألا وهو غياب سلاسل التصنيع المتكاملة، وضعف الاستثمار في التكنولوجيا العطرية والصيدلانية، رغم توفّر المواد الخام. فالإمكانات الهائلة التي تملكها مصر والمغرب في هذا المجال، لم تُترجم بعد إلى صناعات عملاقة تُنافس بها الهند أو الصين أو حتى بلغاريا وتركيا. فالمعامل ما تزال قليلة، والتقنيات متواضعة، والربط بين الزراعة والصناعة بحاجة إلى دعم مؤسسي واستثماري أكبر.
ومع ذلك، تبقى مصر والمغرب منبعًا مهمًا لا يمكن تجاهله، وما زالت الفرصة مهيأة أمامهما لاقتحام هذا السوق بثقل أكبر، لا كمزودين خام فقط، بل كصانعين ومصدرين لمنتجات عشبية مبتكرة ذات جودة عالية، ترفع من قيمة المنتج العربي وتجعله حاضرًا بقوة في رفوف المتاجر العالمية. إنها معركة بين الإمكانيات الكامنة والإرادة الاستثمارية، معركة إذا رُبحت، لن يكون لعطر الأعشاب العربية منافس.
رغم أن مصر والمغرب تمتلكان كنوزًا من الأعشاب لا تقل جمالًا عن نظيراتها الأوروبية، إلا أن التحدي اليوم يكمن في الانتقال من التصدير الخام إلى التصنيع الذكي، كي تُصبح هذه النباتات سفراء حقيقيين لهوية عربية عميقة الجذور، وحديثة في الحضور العالمي.
الدول المستوردة:
أوروبا الغربية (ألمانيا، فرنسا، هولندا): لارتفاع الطلب على المنتجات العضوية
في قلب أوروبا الغربية، حيث يلتقي وعي المستهلك مع رفاهية الأسواق، تشهد الأعشاب الطبيعية والمنتجات العضوية إقبالًا منقطع النظير، وخصوصًا في دول مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا. هذه الدول لم تعد تكتفي بتناول الأعشاب كمجرد مكونات علاجية تقليدية، بل تبنّت فلسفة “الحياة الطبيعية” كجزء لا يتجزأ من نمطها اليومي، وجعلت من كل منتج عضوي رمزًا للجودة والاستدامة والتوازن مع الطبيعة. لذلك، تحولت إلى أسواق شرهة تستورد الأعشاب من شتى بقاع الأرض، وتستقبلها بحفاوة لا تخفى على من يراقب حركة التجارة العالمية.
ألمانيا، على وجه الخصوص، تُعد من أكبر مستوردي الأعشاب في أوروبا، إن لم تكن في العالم بأسره، بفضل ثقافتها الصحية الراسخة التي تدمج الطب الطبيعي “النيتوروباثي” مع الطب الحديث. هنا، الأعشاب ليست بديلًا مؤقتًا بل خيارًا حياتيًا مدروسًا، سواء في الصيدليات أو المتاجر الكبرى أو محال العطارة الراقية التي تقدّم الشاي العشبي بمذاقات مدروسة وتركيبات علاجية دقيقة. أما فرنسا، فإنها لا تكتفي بالاستخدام الصحي، بل تضيف الأعشاب إلى مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة والعطور الفاخرة، وهي عاصمة الجمال التي تجيد توظيف كل ما هو طبيعي لصنع لمسة من الفخامة.
هولندا، من جانبها، تجمع بين دقة التنظيم الاقتصادي ومرونة السوق، ما جعلها نقطة عبور رئيسية للكثير من المنتجات النباتية التي تُستورد من إفريقيا وآسيا وتُعاد توزيعها على بقية الدول الأوروبية. المستهلك الهولندي، الذي يولي اهتمامًا كبيرًا لجودة الغذاء ونقائه، أصبح من أكثر المتحمسين للمنتجات العضوية، وأصبحت الأعشاب بالنسبة له أكثر من مجرد مشروب ساخن في الشتاء، بل وسيلة للوقاية، والتوازن الغذائي، وتحقيق الصفاء الذهني.
الطلب المتزايد في هذه الدول لا ينبع فقط من الحاجة الطبية أو الغذائية، بل من توجه مجتمعي شامل نحو حياة أكثر نقاءً، في مواجهة ضغوط الحياة الصناعية السريعة، والقلق البيئي المتزايد، والرغبة في العودة إلى الجذور الطبيعية للإنسان. ولهذا، تُعد هذه الدول بمثابة خزانات استهلاكية ضخمة، تحرك السوق العالمي، وتفرض معايير عالية للجودة، والشهادات العضوية، وطرق الإنتاج الصديقة للبيئة.
إن أوروبا الغربية ليست مجرد مستورد، بل موجّه للسوق، ومحفّز للدول المُنتجة على تحسين سلاسل الإنتاج، وإدخال التكنولوجيا، والتفكير في التغليف والتسويق، لأن الدخول إلى هذه الأسواق يعني الدخول إلى نادي النخبة من المستهلكين، الذين لا يشترون لمجرد الشراء، بل يبحثون عن منتج يعكس قيمهم في الصحة والجمال والوعي البيئي. ومن هنا تأتي أهمية هذه الدول في خارطة الأعشاب العالمية، ليس فقط بوصفها زبائن كبار، بل كقادة حقيقيين لصيحات السوق ومحرّكي المستقبل في هذا القطاع المتنامي.
الولايات المتحدة: السوق الأكبر عالميًا للمكملات العشبية
الولايات المتحدة الأمريكية لا تكتفي بأن تكون سوقًا كبيرًا فحسب، بل تُمثّل المحرك الأقوى والمهيمن على المشهد العالمي لصناعة المكملات العشبية. إنها ساحة تجارية ضخمة تتحرك فيها الأعشاب والنباتات الطبية بكل طاقتها الاقتصادية، حيث تلتقي الأبحاث العلمية المتقدمة مع ثقافة الصحة العامة، ويندمج الطب الحديث مع النزعة المتنامية نحو الطبيعة، لخلق سوق تتجاوز فيها الأرقام حدود التوقع.
في الولايات المتحدة، لا تُعتبر المكملات العشبية مجرد بدائل علاجية هامشية أو وصفات شعبية كما في بعض الثقافات التقليدية، بل هي صناعة راسخة ومؤسسية، تمتلك قواعد تنظيمية مشددة، وأطر تسويق ذكية، وشبكات توزيع عملاقة تمتد من رفوف الصيدليات إلى متاجر التجزئة الضخمة، وصولًا إلى منصات التجارة الإلكترونية التي تشحن إلى كل زاوية في العالم. هنا، نبتة مثل “الإشنيسيا” تُدرس في المختبرات، وتُدخل في تركيبات علمية دقيقة لمقاومة نزلات البرد، بينما يُعاد تقديم جذور مثل “الجنسنج” بأساليب معاصرة كمحفز للطاقة الذهنية والجسدية، لتجد طريقها إلى كُتيبات الصحة الشخصية، وبرامج التغذية، وخطط اللياقة البدنية.
ما يجعل السوق الأمريكي فريدًا هو شدة تنوعه؛ فالمستهلك الأمريكي ليس نمطيًا، بل يتمتع بوعي متقدم، ويبحث عن منتجات تتلاءم مع نظامه الغذائي، حالته الصحية، فلسفته في الحياة، أو حتى انتمائه الثقافي. من الرياضيين الذين يستهلكون مستخلصات الأعشاب لتحسين الأداء، إلى النساء الباحثات عن بدائل طبيعية لمستحضرات التجميل، إلى كبار السن الذين يفضلون حلولًا نباتية لمشاكل المفاصل والهضم والضغط. الجميع يجد في هذا السوق ضالته، والمُصنّعون يعرفون كيف يُلبّون تلك الحاجات.
تُضخّ المليارات سنويًا في هذه الصناعة، لا فقط في شراء المنتجات، بل في تطويرها، وتحسين جودتها، وتغليفها بطرق عصرية، وترويجها عبر حملات تسويقية ذكية تعتمد على المؤثرين، والبيانات الضخمة، والدراسات العلمية. فالشركة التي تصنع منتجًا عشبيًا ناجحًا في أمريكا، لا تُصنّف كمجرد مشروع تجاري، بل تُعامل أحيانًا كقوة اقتصادية ذات تأثير اجتماعي وصحي.
وما يزيد من عمق هذا السوق هو الإطار القانوني والتنظيمي الذي تتعامل به إدارة الغذاء والدواء (FDA) مع هذه المنتجات؛ فهي ليست أدوية صيدلانية، لكنها أيضًا ليست دون رقابة، مما خلق بيئة تنافسية قوية دفعت الشركات إلى الإبداع والالتزام بمعايير دقيقة للحفاظ على ثقة المستهلك.
في النهاية، يمكن القول إن الولايات المتحدة لا تشتري الأعشاب فحسب، بل تُعيد تعريفها، وتصيغ لها هوية جديدة، وتحوّلها من مجرد أوراق وجذور إلى رموز معاصرة للرفاهية والصحة الذاتية. إنها تقود قاطرة المكملات العشبية نحو المستقبل، وتفتح أبوابًا هائلة أمام الدول المنتجة، شريطة أن تفهم جيدًا هذه السوق المتطلبة، وتتقن فن الدخول إليها بثقة وكفاءة.
دول الخليج: الطلب في تصاعد نتيجة للوعي الصحي واتجاهات التجميل الطبيعية.
في قلب الصحراء التي كانت يومًا رمزًا للبساطة والاعتماد على الطبيعة، تنبض اليوم أسواق الخليج العربي بإيقاع جديد، مفعم بالحيوية والوعي الصحي والجمال الطبيعي. لم تعد الأعشاب والنباتات الطبية مجرد جزء من الموروث الشعبي أو تقاليد الأجداد فحسب، بل تحوّلت إلى عنصر فاخر من عناصر نمط الحياة العصري، مدعوم بثقافة استهلاكية راقية، وشغف متزايد بالمنتجات النظيفة والطبيعية.
تشهد أسواق دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات والكويت وقطر، ازدهارًا متصاعدًا في الطلب على الأعشاب ومشتقاتها، خاصة في قطاعي الصحة والجمال. فالوعي المجتمعي لم يعد محصورًا في النصائح الشعبية أو الوصفات المتوارثة، بل أصبح علميًا ومنهجيًا، مدفوعًا بتقارير التغذية وأبحاث الطب البديل، ومغذى بحملات التوعية الصحية التي تنظمها الحكومات والقطاع الخاص. المستهلك الخليجي اليوم يعرف الفرق بين عشبة تُقطف في موسمها الصحيح وتحفظ بطريقة احترافية، وأخرى لا تملك من الجودة إلا اسمها، ولهذا فهو لا يتردد في دفع ثمن أعلى لقاء منتج عضوي نقي ينسجم مع نمط حياته الصحي.
أما في عالم التجميل، فقد أضحت الأعشاب حجر الأساس لموجة جديدة من المنتجات التي تحاكي المعايير العالمية، بل وتتفوق عليها أحيانًا بفضل ما تمنحه من طابع طبيعي خالص. الزيوت العطرية، ومستخلصات الورود، وأقنعة البشرة النباتية، كلّها أصبحت متاحة في أفخم المتاجر والصيدليات، وحتى في العيادات التجميلية والمراكز الصحية المتخصصة. ولم يعد التجميل الطبيعي مجرد موضة موسمية، بل أصبح خيارًا استراتيجيًا للكثير من النساء والرجال الباحثين عن حلول آمنة، غير كيميائية، تحترم أجسامهم وتتماشى مع خصوصيتهم الثقافية والدينية.
هذا التحول في الذوق الخليجي لم يأتِ من فراغ، بل ارتبط بنمو اقتصادي قوي، وطبقة وسطى مثقفة، وانفتاح على ثقافات العالم، خاصة من خلال السفر والإعلام والمنصات الرقمية. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا بالغ الأثر في ترسيخ هذه التوجهات، حيث يتابع الملايين من المستخدمين توصيات الخبراء ومراجعات المنتجات العشبية الطبيعية، فيدفعهم الفضول والتجربة إلى خوض غمار هذه البدائل الجديدة، والتعلق بها.
الأسواق الخليجية باتت اليوم من أكثر الأسواق جاذبية للمصدّرين والمصنّعين في مجال الأعشاب، حيث القوة الشرائية عالية، والمستهلك يقدّر الجودة، ويبحث عنها بشغف. كما أن الدعم الحكومي للمشاريع الصحية والبيئية يخلق بيئة تشريعية وتنظيمية تشجع على انتشار هذه المنتجات، بل واحتضان صناعتها محليًا في بعض الدول، مما يفتح الباب أمام شراكات دولية واستثمارات واعدة.
هكذا ترسم دول الخليج ملامح جديدة لسوق الأعشاب، ملامح تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والبحث العلمي، بين الجمال الطبيعي والاهتمام بالصحة. إنها ليست مجرد مستوردة، بل صارت جزءًا من ديناميكية عالمية تضع الأعشاب في قلب الاقتصاد الأخضر والرفاهية الحديثة، وتمنحها هوية مشرقة لا تخلو من الأناقة والرقي.
إن التجربة البلغارية والتركية ليست مجرد نجاح زراعي، بل قصة رؤية عميقة أدركت أن الأعشاب ليست فقط موردًا طبيعيًا، بل أداة لبناء هوية، وصناعة قائمة بذاتها. أما مصر والمغرب، فعلى الرغم من تاريخهما الطويل وغناهما النباتي، لا تزال الحاجة ماسة للانتقال من التصدير الخام إلى التمكين الصناعي والتجاري، وإلا فإن عبق التاريخ سيظل حبيس الماضي، بدلًا من أن يصبح سفيرًا للعصر الحديث.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.
ماشاء الله اللهم بارك مقالة اكثر من رائعة معالي الدكتورة المتميزة علما وخلقا اتسمت بالوضوح والسلاسة في الاسلوب الماتع الذي يعبر بك عبر جسر ينقلك من الماضي الي الحاضر ويقفز بك الي افاق مستقبل واعد صاعد ملئ بالامل والتفاؤل يرسم طريقا للواعدين النابهين لمواكبة كل جديد نحو صناعة وتجارة واعدة وتحديات وصعوبات يمكن التغلب عليها بالصبر و بتطبيق احدث التقنيات التكنولوجية الحديثة للنهوض بتلك الصناعة ذات العائد الاقتصادي الكبير حفظ الله اوطاننا ورفع شأنها وأعلى رايتها بين الامم.
دكتور باحث/ منى بدر الدين الديب
باحث بمعهد بحوث البساتين
مركز البحوث الزراعية – ج.م.ع.