رأى

ثقافة التنمية وتنمية الثقافة.. قراءة في فكر مالك بن نبي (2)

د.حسان حجازي

بقلم: د.حسان حجازي

في مقالي السابق كان حديثي عن الثقافة والتنمية، وكيف بدأ مالك بن نبي في معالجة قضية الثقافة باعتبارها قنطرة التنمية فبدونها لن تحدث تنمية، وستظل المجتمعات تراوح مكانها.

قد تسعى المجتمعات المتخلفة مادياً عن الحضارة الحديثة إلى استيراد بعض الأدوات المادية من خارجها في سعيٍ نحو محاولة تغيير شكل الحياة بداخلها والاقتراب من شكل الحياة داخل المجتمعات المتقدمة.

لكن الحقيقة أن ذلك الامتلاك هو مظهر تحضر شكلي ولا يعدو أن يكون جمع للأشياء والذي أطلق عليه بن نبي “الشيئية” أي جمع الادوات والأشياء وتراكمها والتي سرعان ما تتلف وتستبدل بأخرى، ويظن البعض أن هذه الشيئية هي دليل التحول إلى الحضارة الحديثة والتقدم رغم أن ذلك لا يعني سوى الاخذ بمظهر زائف للتحضر؛ فليست الحضارة مجرد أدوات ومخترعات حديثة تكدس بعضها فوق بعض، فالأداة ترتبط بفكرة وهي لم تنتج إلا عبر مناخ فكري وثقافي معين قد دفع إلى إنتاجها.

إذن لا مفر من العودة لعالم الافكار هذا العالم الدافع إلى البناء والتقدم أو الهادم للبناء والمؤدي للتخلف؛ فالفكرة لابد أن يكون لها دور اجتماعي فالأفكار بمفردها ليست مصدراً للثقافة فهي لا تصلح لتحديد سلوك ونمط معين من أنماط الحياة إلا عندما يكون لها هذا دور المرتبط بالوسط الاجتماعي، ويجب أن تكون نابعة من منابع خلقية وعقلية واعية صدرت عنها وتهدف إلى إحداث تغيير أو إنجاز معين مطلوب لهذه الافكار فبدونها لا يحدث هذا الانجاز لأن الماديات وإن توفرت لن تقود إلى تحقيق هدف أو تقدم إلا في ظل أفكار دافعة نحو ذلك.

لماذا لم يأكل نيوتن تفاحته الشهيرة وبدلاً من أكلها أخذ عقله يفكر في سبب سقوطها، ترى هل كان جده ليسلك السلوك نفسه قطعاً لا؛ ففي عصر نيوتن قد تغيرت الأفكار بفعل الصدمة الثقافية التي نتجت عن الاطلاع المباشر للحالة الحضارية المتقدمة للعالم الإسلامي في ذلك العصر؛ فالفكرة والشيء (الجانب المادي) لا يخلقان الثقافة إلا من خلال اهتمام أسمى بدونه يتجمد عالم الأفكار وعالم الأشياء، ويمكن تفسير الاهتمام الأسمى بالنسبة للفرد على أنه علاقة عضوية تربط بين عالم الافكار وعالم الأشياء، فإذا انعدمت هذه العلاقة لم تعد للفرد سيطرة لا على عالم الأفكار ولا على عالم الأشياء.

لكي تحدث تنمية حقيقية في مجتمعاتنا لابد من وجود علاقة متبادلة بين سلوك الفرد وأسلوب الحياة في المجتمع؛ فهي الجانب العضوي من هذه العلاقة؛ فـالثقافة هي التعبير الحسي عن علاقة الفرد بالمجال الروحي الذي ينمي فيه وجوده النفسي؛ فــالثقافة هي حياة المجتمع الذي بدونها يصبح مجتمعاً ميتاً.

المطلوب أن تكون للمجتمع ثقافة دافعة نحو التقدم ينسجم جانبها الفكري والعقائدي مع جانبها المادي وهذا الأمر لن يتم إلا عبر عملية تثقيف واسعة وشاملة هدفها الأساسي اخراج المكنونات الفكرية الثقافية الدافعة للتنمية وابرازها كتيار شعوري نفسي دافع نحو الانجاز ولا يتم ذلك إلا بتحديد الافكار الدافعة في المجتمع تحديداً دقيقاً والاستفادة منها في عملية تثقيف تركز على الاجيال الشابة والناشئة لتتبناها وتكون سبيل انطلاقها نحو تحقيق هدف أسمى لمجتمعاتنا.

أهتم مالك بن نبي بإشكالية إحداث عملية تثقيف هي بمثابة ثورة ثقافية تتجه بالمجتمعات العربية والاسلامية نحو التقدم والازدهار؛ من خلال الكشف عن تلك الأفكار الحية الدافعة نحو الانجاز وتنميتها وغرسها غرساً في النفوس لتؤدي وظيفتها العضوية المنوط بها تغيير وجه الحياة داخل المجتمعات العربية، مع العمل بقوة وفي الوقت نفسه على اكتشاف الافكار المميتة في الثقافة والتي تقود إلى التخلف وعزلها وجعلها افكاراً ميتة لتفقد فعاليتها الاجتماعية وتترك مكانها للأفكار الحية الدافعة نحو التقدم والرقي.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى