رأى

الرواد الأوائل لعلم الاجتماع .. الحلقة الأولى

أ.د/أسامة متولي محمد

بقلم: أ.د/أسامة متولي محمد

أستاذ الاجتماع الريفي – كلية الزراعة – جامعة الفيوم

الحلقة الأولى: عبد الرحمن بن خلدون (مؤسس علم الاجتماع الأول)

لقد ساهم كثير من العلماء في دراسة المجتمع وتشخيص وحل مشكلاته، ولأجل معرفة المفكرين وأعلام الفكر الإنساني في مجال علم الاجتماع، فإنه من الأهمية بمكان إعطاء صورة موجزة لبعض هؤلاء العلماء والمفكرين الذين أثروا بعلمهم وأفكارهم البحوث والدراسات في ميدان علم الاجتماع، وسوف نعرض أهم إسهامات هؤلاء الرواد الأوائل على هيئة سلسلة من الحلقات الأسبوعية، حيث خُصصت حلقة اليوم لإلقاء الضوء على أهم إسهامات المؤسس الأول لـعلم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون.

وُلد ابن خلدون في تونس عام 1332م (732هـ)، وتوفى في القاهرة عام 1406م (808هـ)، وعاش بذلك مدة لا تقل عن ثلاثة أرباع القرن إلا سنة واحدة، وكانت هذه السنوات الطويلة زاخرة بنشاط خارق للعادة، وحيوية متفجرة، وانتاج أصيل مبتكر.

ولم ينحصر نشاط ابن خلدون في مسقط رأسه تونس فحسب، بل شمل معظم أقطار العالم العربي المترامي الأطراف، فقد غادر ابن خلدون مسقط رأسه تونس وهو في العشرين من عمره، ولم يعد إليها إلا بعد ستة وعشرين عاماً، تنقل خلالها بين مختلف مدن المغرب الأدنى والأقصى والأندلس. ولم يمكث في تونس بعد هذه العودة إلا أربعة أعوام، انتقل بعدها إلى مصر وبقى فيها حتى آخر حياته، إلا أنه لم ينقطع عن التنقل أبداً خلال وجوده في مصر أيضاً، فقد ذهب مرة إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ومرة إلى القدس لزيارة المقامات المباركة، ومرة إلى دمشق للاشتراك في الدفاع عنها أثناء غزو بلاد الشام.

وخلاصة القول أن ابن خلدون قضى أربعاً وعشرين عاماً من حياته في تونس وستاً وعشرين عاماً في المغرب الأوسط والأقصى والأندلس، وأربعاً وعشرين عاماً في مصر والشام والحجاز. وبهذا لم يبق خارج مجالات نشاطه من الأقطار العربية سوى قلب الجزيرة العربية والعراق.

وقد نشأ ابن خلدون وتربى في أحضان أسرة تقلب أفرادها ما بين العلم والسياسة، فقد تولى بعض أفراد أسرته عدة مرات أعلى مراتب الدولة، وشاركوا في العديد من حروبها، دون أن يقطعوا صلاتهم بالعلم والأدب.

ويُعتبر ابن خلدون هو الأب الحقيقي لـعلم الاجتماع، وليس أوجست كونت كما يدعي الغرب، ولقد استفاد ابن خلدون كثيراً من دراسته لتاريخ بعض الدول وسكانها. أما أهم الكتب التي كتبها ابن خلدون فهو كتاب “المقدمة”، والذي كتبه أثناء اعتزاله الحياة العامة وانصرافه إلى التفكير والتأليف.

ولقد كتب ابن خلدون عن الأطوار الثلاثة التي يرى أن المجتمعات تمر بها، وهي: طور النشأة والتكوين، وطور النضج والاكتمال، وطور الهرم والشيخوخة حيث يفنى ويندثر ذلك المجتمع ويقوم على أنقاضه مجتمع جديد يمر بنفس المراحل السابقة.

وقسم ابن خلدون المجتمعات إلى مجتمعات بدوية تتميز بالخشونة والتوحش وشظف العيش، كما أنهم يتصفون بالكرم والشجاعة والتعصب الدموي. ثم المجتمعات الحضرية ويُقصد بهم سكان المدن أو المراكز الحضرية، حيث تُوصف حياتهم بالترف والرقة والنعومة، ويمتازون أيضاً بالتخصص والمعرفة والمصلحية.

وقد أكد ابن خلدون على دراسة أحوال الناس وصفاتهم وعاداتهم وعلاقاتهم، واهتم بالدراسة الوصفية والملاحظة، حيث ساهم في إظهار المنهج العلمي الذي يؤدي للوصول إلى المعرفة الموضوعية. كما اهتم أيضاً بالمنهج التجريبي، فكان بذلك سباقاً في هذا المجال واستحق أن يُعتبر بحق أول من ركز على دراسات السكان والعلاقات القائمة بينهم، وقد أطلق على هذا العلم اسم علم العمران البشري.

والقارئ لمقدمة ابن خلدون قراءة عميقة، والمُتأمل فيها تأمل المتخصص في علم الاجتماع، سيجد أنها قد احتوت على أقل تقدير على سبع من القضايا الاجتماعية المعاصرة، وهي:

قواعد المنهج وطرق البحث في علم الاجتماع، والتي تتصدر الصفحات الأولى من المقدمة.

علم البيئة (الإيكولوجيا)، والذي يدرس أثر البيئة الجغرافية على الإنسان وطرق تكيفه معها، ويشمل ذلك دراسة العمران البشري، وأصنافه، وقسطه من الأرض.

علم الاجتماع البدوي وعلم الاجتماع الريفي، والحياة الاجتماعية في المجتمعات البسيطة غير المعقدة.

علم الاجتماع السياسي، والذي يشتمل على كيفية تكون الدولة والملك ومدى أهمية العصبية في ذلك، سواء أكانت العصبية قائمة على صلة الدم أو المصاهرة أو الولاء أو الجوار أو غيرها.

علم الاجتماع الحضري، والذي يتناول البلدان والأمصار وسائر العمران، وما يتعلق بذلك من ظواهر اجتماعية.

علم الاجتماع الاقتصادي، وعلم الاجتماع الصناعي، وهما يشملان مسائل المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع، وما يرتبط بذلك كله من الظواهر الاجتماعية.

علم اجتماع المعرفة، ويشتمل على العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه والظواهر الاجتماعية المرتبطة به.

وعلى ذلك يمكن القول بأن ابن خلدون قد أكد على ضرورة وجود علم مستقل يتناول قضايا المجتمع الإنساني والعمران البشري, وحدد موضوع هذا العلم ومجاله ومنهجه، وأقام بناؤه على أساس من الخبرة والتجربة الإنسانية الواسعة النطاق، والتي كادت أن تشمل معظم أقطار العالم العربي بدءاً من الأندلس وحتى مصر والشام والحجاز.

المراجع

ـ بدر، يحيى مرسي عيد (2007)، علم الاجتماع، مقدمة في سوسيولوجيا المجتمع، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية.

ـ غيث، محمد عاطف وغريب سيد أحمد ومحمد أحمد بيومي (1987)، تاريخ التفكير الاجتماعي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية.

ـ ليلة، علي (1991)، النظرية الاجتماعية المعاصرة، دار المعارف، القاهرة.

ـ محمد، أسامة متولي (2019)، علم الاجتماع والقضايا الاجتماعية المعاصرة، دار جوانا للنشر والتوزيع، القاهرة.

Turner, Jonathan (1997), The Structure of Sociological Theory, Wadsworth.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كيف لمن يتصدى للكتابة عن عبد الرحمن ين محمد بن خلدون ألا يكون كتاب المقدمة (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) ضمن مراجعه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى