التغيرات المناخية الحادة وتذبذب أسعار الخضار.. أزمة أرض ومناخ وسوق بلا توازن

بقلم: أ.د.خالد فتحي سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات
تشهد الزراعة المصرية واحدة من أصعب فتراتها خلال العقد الأخير، حيث تراجعت إنتاجية محاصيل استراتيجية مثل البطاطس والفراولة والفلفل والطماطم، في الوقت نفسه الذي شهدت فيه الأسواق انهيارًا مفاجئًا في أسعار الخضروات، ما وضع المزارع والمستهلك في موقف معقد. فالمزارع لا يغطي تكلفة إنتاجه، والمستهلك لا يشعر بانخفاض الأسعار كما يجب، والسوق يعيش حالة من الفوضى بين وفرة مدمرة وندرة غير مبررة. وبين الأسباب الظاهرة والخفية تتشكل صورة أزمة لا تتعلق بمحصول واحد أو موسم واحد، بل بمنظومة زراعية واقتصادية تحتاج إلى إعادة ضبط شامل.
أولًا: تغيرات مناخية غير مسبوقة
لم تعد المواسم الزراعية مستقرة كما كانت. فالمزارعون يتحدثون عن ارتفاع متطرف في درجات الحرارة، يليه موجات برد مفاجئة، وتذبذب كبير بين حرارة الصباح وبرودة الليل. هذه التقلبات تؤدي إلى ضعف في عقد الثمار، احتراق أطراف النباتات، وانتشار أمراض فطرية يصعب السيطرة عليها. محاصيل حساسة مثل الفراولة والفلفل تتأثر بشكل مضاعف، إذ تحتاج إلى درجات حرارة محددة للنمو الجيد. ومع غياب الاستقرار المناخي، أصبح المزارع يواجه خطر خسارة محصوله في أيام قليلة.
ثانيًا: تربة مُجهدة ومحاصيل لا ترتاح
العديد من الأراضي المصرية تُزرع بنفس المحاصيل عامًا بعد عام دون تطبيق تدوير محصولي أو فترات راحة أو دورة زراعية ثلاثية على رأسها القطن، والتي كانت تنظم الإنتاجية والمحاصيل الاستراتيجية على مدار الدورة الزراعية. ونتيجة لذلك، تتدهور خصوبة التربة وتزداد الملوحة، بينما تنتشر آفات خطيرة مثل النيماتودا والفطريات، وحتى الآفات الفتاكة مثل دودة الحشد وغيرها من الحشرات التي ظهرت حديثًا. ومع ضعف التربة، يصبح النبات أكثر هشاشة وأقل قدرة على مقاومة الأمراض، مما يزيد اعتماد المزارع على المبيدات والأسمدة مرتفعة الثمن.
ثالثًا: تكلفة إنتاج مرتفعة… وجودة مدخلات منخفضة
يعاني المزارع اليوم من ارتفاع غير مسبوق في أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي من السماد، المبيدات، البذور، العمالة، والوقود. ورغم هذه التكاليف الباهظة، فإن جودة بعض المدخلات ليست كما يجب. يشكو كثيرون من أن بعض الشتلات التجارية غير مطابقة للصنف أو ضعيفة من المشتل، بالإضافة إلى تراجع فاعلية المبيدات بسبب المقاومة المتراكمة. ومع كل موسم، يصبح هامش الربح أضيق، حتى وصل الأمر لدى البعض إلى خسائر مؤكدة مهما كانت جودة إدارة المزرعة.
رابعًا: مياه ري أقل جودة وأكثر ملوحة
في مناطق عديدة، أصبحت جودة مياه الري عاملًا من عوامل انهيار المحاصيل. زيادة الملوحة، أو الاعتماد على مياه مختلطة أو غير كافية، يؤثر بشكل مباشر على محاصيل حساسة مثل البطاطس والفراولة والطماطم. ومع زيادة الحرارة، أصبح النبات يحتاج إلى مياه أكثر، بينما يحصل على أقل، فينكمش، ويتوقف نموه، ويقل إنتاجه.
خامسًا: انتشار أمراض وآفات جديدة
مع تغير المناخ وغياب المكافحة المتخصصة، انتشرت آفات وأمراض لم تكن بهذه الشراسة من قبل؛ مثل العنكبوت الأحمر، الذبابة البيضاء، البياض الدقيقي، وأعفان الجذور. وأصبح كثير من المبيدات أقل فاعلية مما كان عليه الحال قبل سنوات، بسبب الاستعمال المفرط أو الاستخدام بطرق غير علمية.
سادسًا: الصرف الزراعي
أدى انهيار الصرف الزراعي وارتفاع مستوى المياه الجوفية إلى انخفاض إنتاجية أراضي الدلتا، ولذا فهي تحتاج لخطة قومية لإحياء منظومة الصرف الزراعي في الدلتا القديمة.
لماذا انهارت أسعار الخضار؟
في الوقت الذي يتراجع فيه الإنتاج في بعض المناطق، شهدت الأسواق انهيارًا كبيرًا في أسعار الخضروات خلال فترات معينة. وقد يبدو الأمر متناقضًا، لكنه نتيجة طبيعية لغياب التخطيط والتنظيم.
أولًا: فوضى في مساحات الزراعة
بعض المحاصيل تُزرع بكثافة في موسم واحد دون متابعة أو دراسة احتياجات السوق. فينتج المزارعون كميات أكبر من قدرة السوق على الاستيعاب، مما يؤدي إلى انهيار الأسعار. هذا “الفائض الكارثي” يضر بالمزارع، بينما يمر على المستهلك سريعًا قبل أن يعود السعر للارتفاع في الموسم التالي.
ثانيًا: غياب منظومة تسويق حديثة
لا توجد بنية منظمة لتوزيع المحصول على المحافظات أو على مصانع التصنيع الغذائي. النتيجة أن بعض الأسواق تتكدس بالخضار، بينما تعاني أسواق أخرى من نقص نسبي. هذا التفاوت يؤدي إلى تذبذب كبير في الأسعار، وغالبًا لا يستفيد منه لا المزارع ولا المواطن.
ثالثًا: غياب الصناعات التي تستوعب الفائض
في كثير من الدول، مصانع التصنيع والتجميد والتجفيف تلتهم الفائض في مواسم الوفرة. لكن في مصر، هذا القطاع ما زال محدودًا، فتُترك كميات هائلة من المحصول إما للتلف أو للبيع بأسعار أقل من تكلفة الإنتاج.
رابعًا: حلقات وسيطة عديدة… تربك السعر
خضروات كثيرة تُباع بسعر زهيد في الحقل، وتصل للمستهلك بسعر أعلى بكثير، والسبب حلقات الوسطاء والنقل والتداول. هذه الحلقات تلتهم جزءًا كبيرًا من قيمة المحصول، وتجبر المزارع على البيع بسرعة حتى لا يتلف محصوله، بينما لا يحصل المستهلك على السعر الحقيقي المنخفض.
الموجز المختصر: أزمة تحتاج إلى قرار وليس تعليقًا
الأزمة ليست مجرد ضعف في الإنتاج أو زيادة في الأسعار أو انخفاضها. إنها أزمة منظومة زراعية كاملة تحتاج إلى إعادة هيكلة: تدوير محصولي حقيقي، تطوير الإرشاد الزراعي، خطط زراعة مركزية، دعم صناعات التصنيع الغذائي، تطوير التسويق ونقاط التجميع، وإعادة النظر في مدخلات الإنتاج وأسعارها.
ما يحدث اليوم ليس انهيارًا لموسم، بل إنذار بأن الزراعة المصرية تحتاج إلى تحديث عميق يعيد التوازن بين الأرض والمزارع والسوق. وإذا لم يتم التدخل سريعًا، فقد تتحول الأزمة من تراجع مؤقت إلى تهديد لمصدر غذاء أساسي، والأمن الغذائي، ومستقبل مئات الآلاف من الأسر العاملة في هذا القطاع.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



