تقارير

«الأمطار الصناعية» التقنية التي قد تغيّر خريطة الزراعة المصرية نحو الاكتفاء الذاتي

إعداد: أ.د.خالد فتحي سالم

أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بكلية التكنولوجيا الحيوية – جامعة مدينة السادات

وسط تحديات مناخية تتفاقم عامًا بعد عام، ومع ندرة متزايدة في الموارد المائية التقليدية، يُطرح سؤال جوهري في مصر: كيف يمكن للبلاد أن توسّع رقعتها الزراعية وتحقق أمنًا غذائيًا مستدامًا دون الاعتماد الكامل على مياه النيل أو المياه الجوفية؟

الإجابة التي بدأت تفرض نفسها تدريجيًا في الأوساط العلمية والزراعية هي: الأمطار الصناعية، أو تكنولوجيا تلقـيح السحب، التي تُستخدم اليوم في أكثر من 60 دولة، وتتيح تحفيز السحب الطبيعية لتسريع عملية الهطول وزيادة كميات الأمطار.

هذه التقنية، التي أثبتت نجاحها في الإمارات والسعودية وتونس وروسيا والصين والولايات المتحدة، باتت محور نقاش متجدد في مصر، خاصة مع التوسع في مشروعات الاستصلاح الزراعي، وزيادة الاهتمام بمحور تنمية الساحل الشمالي، وهو من أكثر المناطق الواعدة لتطبيق الأمطار الصناعية نظرًا لطبيعته المناخية والسحابية.

نقترب من آلية عمل الأمطار الصناعية، ونناقش أهميتها في استصلاح الأراضي الصحراوية، ونستعرض دورها المحتمل في تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي.

بين الواقع والأمل… لماذا تحتاج مصر للأمطار الصناعية؟

لا يخفى على أحد أن مصر تعتمد بشكل شبه كامل على مياه النيل، التي تقدر حصتها بـ 55.5 مليار متر مكعب سنويًا، وهي كمية لم تعد تكفي مع تضاعف عدد السكان وازدياد الطلب على المياه في الزراعة والصناعة والشرب.

وتشير تقارير عديدة إلى أن الفجوة المائية تجاوزت 20 مليار متر مكعب سنويًا، تُعوَّض بالتحلية وإعادة استخدام المياه، لكن ذلك لا يزال غير كافٍ أمام خطط التوسع الزراعي الكبرى مثل:

  • مشروع الدلتا الجديدة.

  • توشكى.

  • تنمية سيناء.

  • تطوير الساحل الشمالي.

كل هذه المشروعات تحتاج إلى موارد مائية إضافية، دون تحميل الدولة أعباء مالية ضخمة في حفر الآبار أو بناء محطات رفع المياه. وهنا تظهر الأمطار الصناعية كحل منخفض التكلفة وقابل للتطبيق على نطاق واسع.

كيف تُصنع الأمطار؟… التقنية التي تبدو بسيطة لكنها علم معقد

تقوم الأمطار الصناعية على مبدأ علمي معروف: زيادة عدد نوى التكاثف داخل السحب.

فعندما تتوفر سحب رطبة، لكنها غير قادرة على تفريغ محتواها من الأمطار، تتدخل الطائرات أو الصواريخ لرش مواد محسّنة تساعد على تجميع بخار الماء وتكثيفه.

المواد المستخدمة
أبرز المواد هي:

  • يوديد الفضة: يساعد على تكوين بلورات ثلجية تتساقط أمطارًا.

  • الثلج الجاف (CO₂ المجمد): يخفض درجة الحرارة داخل السحابة فيكثف قطرات الماء.

  • المياه المالحة: تُستخدم في بعض الدول لتعزيز عملية التكاثف.

خطوات العملية

  1. رصد السحب المناسبة بالأقمار الصناعية.

  2. إرسال طائرات مجهزة لرش المادة عبر مسار السحابة.

  3. تبدأ قطرات الماء في التجمّع والسقوط خلال 20–40 دقيقة.

  4. يُلاحظ ارتفاع في معدل الأمطار بنسبة 15% إلى 35% حسب نوع السحابة وظروف المناخ.

هذه التقنية لا تُنتج السحب من العدم، لكنها تستغل السحب الموجودة لزيادة فرص هطول المطر.

استصلاح الصحراء… عندما تصبح الأمطار الصناعية جزءًا من معادلة الأمن الزراعي

تشغل الصحراء نحو 90% من مساحة مصر، ومعظمها أراضٍ صالحة للزراعة إذا توفرت المياه.

وتكلفة رفع المياه من الآبار أو نقلها عبر خطوط طويلة تمثّل عبئًا هائلًا على المزارع والدولة. ومع ارتفاع أسعار الطاقة، بات كثير من المستثمرين يترددون في استصلاح أراضٍ جديدة.

الأمطار الصناعية هنا توفر بديلًا مهمًا، لأنها:

  1. تقلل الاعتماد على المياه الجوفية
    في كثير من المناطق، تُستخدم آبار بعمق يزيد عن 100 متر، ما يجعل الزراعة مكلفة وغير مستدامة.

  2. تحسّن خصوبة التربة الصحراوية
    الأمطار —بخلاف مياه الآبار— تساعد في “غسيل” التربة من الأملاح، مما يجعلها مناسبة للزراعة على المدى الطويل.

  3. تدعم المزارع خلال مراحل النمو الحساسة
    مثل: مرحلة الإنبات، الإزهار، امتلاء الحبوب.
    فكمية بسيطة من المطر خلال هذه المراحل قد تضاعف الإنتاج.

  4. تخلق غطاءً نباتيًا مقاومًا للتصحر
    المطر المتكرر —ولو بمعدلات قليلة— يكفي لنمو شجيرات وأعشاب طبيعية تقاوم انجراف التربة.

الساحل الشمالي… المرشح الأول لتطبيق المشروع في مصر

يعد الساحل الشمالي من أكثر المناطق الواعدة لتطبيق برنامج الأمطار الصناعية لعدة أسباب:

  1. كثافة السحب القادمة من البحر المتوسط
    يتميّز الساحل الشمالي بمرور سحب شتوية كثيفة، وهو ما يجعل التلقيح فعالًا للغاية.

  2. ملائمته لزراعة القمح والشعير والمحاصيل الشتوية
    الكثير من هذه المحاصيل تحتاج إلى أمطار خفيفة ومنتظمة، وهو ما يمكن للأمطار الصناعية توفيره بسهولة.

  3. إمكانية تحويله إلى ممر تنمية زراعي–عمراني
    مع توفّر الأمطار، يمكن إنشاء:

  • مجتمعات زراعية.

  • مناطق صناعات غذائية.

  • مشروعات ثروة حيوانية.

  • مراكز تخزين وتصنيع حبوب.

  1. تقليل الضغط على الدلتا ووادي النيل
    نقل جزء من النشاط الزراعي شمالًا سيخفف الضغط عن الأراضي الزراعية القديمة والمياه العذبة.

الأمطار الصناعية… خطوة نحو الاكتفاء الذاتي

تحقيق الاكتفاء الذاتي لم يعد رفاهية، بل ضرورة وطنية في ظل اضطرابات الأسواق العالمية وارتفاع أسعار الأغذية.

وتشير تقديرات عديدة إلى أن مصر تستورد سنويًا:

  • 60% من احتياجاتها من القمح.

  • كميات ضخمة من الذرة الصفراء.

  • جزءًا كبيرًا من الزيوت.

وهو ما يجعل فاتورة الغذاء تتجاوز مليارات الدولارات.

كيف تتحول الأمطار الصناعية إلى أداة لتحقيق الاكتفاء الذاتي؟

  1. زيادة إنتاجية المحاصيل الاستراتيجية
    توفير كميات إضافية من المياه خلال الموسم يزيد الإنتاج، خاصة للقمح والشعير والبرسيم والذرة.

  2. التوسع في المساحة المزروعة
    إذا أمكن مضاعفة المساحة من 9 ملايين فدان إلى 15–18 مليون فدان، سيقل الاعتماد على الاستيراد.

  3. زيادة المراعي الطبيعية
    المطر يشجع نمو النباتات الطبيعية، مما يقلل تكلفة الأعلاف ويزيد إنتاج اللحوم.

  4. دعم الصناعات الغذائية
    كل زيادة في الإنتاج المحلي تعني توسعًا في:

  • مصانع الطحن.

  • مصانع الزيوت.

  • مصانع الأعلاف.

  • صناعات التبريد والتخزين.

  1. الأمن الغذائي وقت الأزمات
    توفر الموارد المائية المحلية يضمن قدرة الدولة على الصمود أمام الارتفاع العالمي في أسعار الغذاء.

فوائد بيئية إضافية… ليست زراعة فقط

لا يقتصر أثر الأمطار الصناعية على الزراعة فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى البيئة والمناخ:

  1. تحسين جودة الهواء
    زيادة الرطوبة تساعد على تقليل الغبار والعواصف الترابية.

  2. خفض درجات الحرارة
    هطول الأمطار يساهم في تلطيف الجو وتقليل تأثير موجات الحر.

  3. زيادة الغطاء الأخضر
    كل مساحة تُزرع تضيف أكسجينًا وتمتص ثاني أكسيد الكربون.

  4. خلق نظام بيئي مستدام في الصحراء
    حيث توجد المياه، توجد حياة… من نباتات وحيوانات وطيور.

هل للأمطار الصناعية مخاطر؟

رغم فوائدها العديدة، تُثار مخاوف حول تأثير المواد الكيميائية المستخدمة. ومع ذلك، تشير معظم الأبحاث إلى أنه:

  • لا يوجد دليل علمي قاطع على ضرر بيئي خطير من يوديد الفضة عند استخدامه في الحدود المسموح بها.

  • الكميات المستخدمة صغيرة للغاية مقارنة بمصادر التلوث الصناعية.

  • الدول الصناعية التي تطبق التقنية منذ عقود لم تسجل آثارًا ضارة على الصحة العامة.

  • ومع تطور التكنولوجيا، أصبحت المواد المستخدمة أكثر أمانًا وفعالية.

مصر… هل هي جاهزة للمشروع؟

تملك مصر مقومات علمية وجغرافية تؤهلها لتطبيق مشروع قومي للأمطار الصناعية:

  • أجهزة رصد متطورة لدى هيئة الأرصاد.

  • خبرات بحثية في الجامعات ومعاهد المناخ.

  • وجود مناطق ساحلية غنية بالسحب الشتوية.

  • مشروعات استصلاح تحتاج إلى مصادر مياه منخفضة التكلفة.

ويبقى المطلوب هو تنسيق حكومي موحد بين جهات عدة:
وزارة الزراعة – هيئة الأرصاد – وزارة الطيران – وزارة البيئة – جهاز مشروعات الخدمة الوطنية.

الموجز المختصر

تقنية الأمطار الصناعية ليست رفاهية ولا حلًا سحريًا، لكنها جزء مهم من منظومة حلول مستقبلية يجب أن تعتمد عليها مصر.

فهي قادرة على:

  • توفير مياه إضافية بتكلفة منخفضة.

  • استصلاح مئات الآلاف من الأفدنة الصحراوية.

  • دعم محور تنمية الساحل الشمالي.

  • تعزيز الأمن الغذائي.

  • خلق ملايين الوظائف.

  • رفع القدرة الإنتاجية للدولة.

  • تحويل الصحراء إلى بيئة صالحة للحياة والزراعة.

إن دخول مصر مرحلة استخدام الأمطار الصناعية يمكن أن يُغيّر شكل الخريطة الزراعية لعقود قادمة، ويضع البلاد على طريق جديد نحو الاكتفاء الذاتي والتنمية المستدامة.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى