رأى

سلوك المواطنة

أ.د/أسامة متولي محمد

بقلم: أ.د/أسامة متولي محمد

أستاذ الاجتماع الريفي بكلية الزراعة – جامعة الفيوم

يعد مفهوم المواطنة Citizenship من المفاهيم التي تبلورت عبر تحولات تاريخية متتابعة منذ بداية ظهوره خلال الحضارة اليونانية والإغريقية، مروراً بالعصور الوسطى وعصر النهضة والتنوير، وحتى عصر الثورات الكبرى في العالم، والتي أكدت جميعها على الحقوق والواجبات الأساسية للإنسان وفقاً لمجموعة من المبادئ والقيم السائدة في المجتمع.

ونظراً لعدم وجود اتفاق بين العلماء والدارسين حول تعريف موحد لمفهوم المواطنة، لذا سيتم استعراض عدد من التعريفات والمفاهيم التي تمثل بقدر الإمكان بعض الرؤى ووجهات النظر المتباينة المستخدمة في شرح أبعاد وعناصر هذا المفهوم الاجتماعي الهام.

فللتأكيد على أهمية مشاركة الأفراد في تحمل المسئوليات والتمتع بالحقوق، يعرف ياسين (2002:14) المواطنة بأنها تلك العملية التي تؤكد بصورة أساسية على أهمية مشاركة المواطنين في الحياة العامة، وتحمل المسئوليات الوطنية التي تخدم الصالح العام، بما يضمن تحقيق علاقة ترابط وتعاون بصورة متوازنة بين الفرد ووطنه ومجتمعه، وذلك أثناء ممارسته لأنشطته الحياتية. وفي هذا الصدد أيضاً، يعرفها القحطاني (2010: 15) بأنها المشاركة والارتباط الكامل بين الإنسان ووطنه، والمبني على أسس من العقيدة والقيم والمبادئ والأخلاق والتمتع بالحقوق وأداء الواجبات بعدلٍ ومساواة، بحيث ينجم عنه شعور بالفخر وشرف الانتماء لذلك الوطن، في ظل علاقة تبادلية مثمرة تحقق الأمن والسلامة والرقي والازدهار للوطن والمواطن في جميع المجالات.

ولإبراز علاقة الفرد بالدولة في مفهوم المواطنة، يعرفها خليفة (2004: 13) بأنها علاقة بين فرد ودولة كما حددها قانون تلك الدولة، وهي بذلك ترتبط بالحرية وما يصاحبها من مسئوليات، كما تكفل للأفراد حقوقاً سياسية مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة. وفي ذات السياق أيضاً يعرفها حسين (2008: 3) بأنها الإطار الجامع لتفاعل المواطن مع وطنه، ولعلاقة المواطنين فيما بينهم ضمن الدائرة الوطنية للدولة التي صارت محددة في جغرافيتها السياسية، ومركزها القانوني، وطبيعتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ولإكساب مفهوم المواطنة مضموناً سيكولوجياً، يعرفها محمود (1997: 20) باعتبارها حب الفرد لوطنه وانتماؤه له والتزامه بمبادئه وقيمه وقوانينه، والتفاني في خدمته، والشعور بمشكلاته، والإسهام الإيجابي مع غيره في حلها، أما الدولة فيجب أن تتيح للفرد ممارسة حقوقه وحرياته، وإبداء رأيه بأسلوب يحترم فيه آراء الآخرين ومقترحاتهم بعيداً عن التعصب والتمييز. وللدلالة على نفس المعنى أيضاً، يعرفها سعد (2002: 19) بأنها عبارة عن انتماء وولاء لعقيدة ووطن وقيم ومبادئ، والتزام من المواطن بتحمل مسئولياته تجاه وطنه مقابل الحقوق التي يتمتع بها.

وأخيراً ولإبراز البعد الاجتماعي في مفهوم المواطنة، يعرفها غيث (بدون تاريخ: 56) بأنها مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي وبين مجتمع سياسي (الدولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني مهمة الحماية. وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة عن طريق القانون، كما يحكمها مبدأ المساواة. وانطلاقاً من نفس المفهوم أيضاً، يعرفها ليلة (2007: 76) بأنها المكانة التي تيسر للفرد الحصول على الحقوق الاجتماعية التي تضم الرفاهية والأمان الاجتماعي، والحقوق المدنية التي تضم حرية التعبير والمساواة أمام القانون، والحقوق السياسية كحق التصويت والانضمام إلى أية تنظيمات سياسية مشروعة.

بناءً على ما سبق، وكمحاولة لتضمين جميع الأبعاد السابقة في تعريف أكثر شمولاً، يعرف الباحث المواطنة بأنها العضوية الكاملة للمواطن في مجتمع سياسي معين أو دولة بعينها، حيث تكفل هذه العضوية للمواطن المشاركة في الحياة العامة وتحمل المسئوليات الوطنية، كما تكفل كذلك حق كل مواطن في الحصول على فرص متساوية لتطوير نوعية الحياة التي يعيشها، وحيث توفر هذه العضوية أيضاً شعوراً بالانتماء والولاء للوطن والتزاماً بمبادئه وقيمه وقوانينه، في ظل علاقة تبادلية بناءة تحقق التقدم والرقي لكلٍ من الوطن والمواطن في جميع المجالات.

ولإلقاء مزيد من الضوء على مفهوم المواطنة، فقد حصر فوزي (2007: 9-26) العناصر الرئيسية التي ينطوي عليها هذا المفهوم في الآتي: (1) الوضع القانوني: بمعنى عضوية المواطن في مجتمع سياسي معين أو دولة بعينها، مع وجود القانون الذي يؤسس الدولة، ويخلق المساواة بين مواطنيها.  (2) المشاركة في الحياة العامة: وعادةً ما يشار إلى ذلك بـالمواطنة الفعالة، وتشمل نواحي المشاركة في الحياة العامة في كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.  (3) العضوية السياسية: وهو ما يعادل الانتماء الوطني إلى دولة أو كيان سياسي بعينه، حيث يمس ذلك قضية سيكولوجية مهمة هي الشعور بالانتماء للوطن وليس مجرد الإقامة فيه.  (4) الرفاهية الاجتماعية: وتعني حق كل مواطن في الحصول على فرص متساوية لتطوير نوعية الحياة التي يعيشها.  (5) السلوك التعليمي: ويشير إلى الأنشطة التعليمية التي تساعد المواطنين على أن يكونوا مواطنين فاعلين، مشاركين، يتصرفون بمسئولية تجاه مجتمعهم وشركائهم في المواطنة.

ويذهب حسين (2008: 11) إلى أن ثمة أبعاد للمواطنة لها علاقة في شكلٍ أو في آخر بالحقوق الإنسانية، حيث يمكن تصنيف هذه الأبعاد على النحو الآتي:  (1) البعد الاجتماعي: ويشمل المساواة ورفض أشكال التمييز، وحق الرفاه الاجتماعي، والحق في التعلم والعمل، والحق في الرعاية الصحية، وتأمين حاجات الفرد والأسرة.  (2)  البعد الاقتصادي: ويشمل الحق في التنمية الاقتصادية، والحصول على نصيب عادل من الثروة الوطنية، وحماية البيئة الطبيعية والموارد والثروات.  (3) البعد السياسي: ويشمل حق الشعب في تقرير مصيره، وحق الاجتماع في الجمعيات والأحزاب السياسية، وحق المشاركة في الاقتراع العام والترشح للمجالس التشريعية والمحلية، وحق المعارضة السياسية.  (4)  البعد المدني: ويعبر عن الحقوق القانونية التي تكفلها القوانين الوطنية والدولية مثل: المساواة، وحرية الرأي والتعبير في إطار القانون، وحق المشاركة في إدارة الشأن العام، وحقوق الملكية ….. وغيرها.

ولقد أشار دينيسون (Dynneson, 1992: 55- 57) إلى وجود أربع صور أو أشكال للمواطنة هي:  (1) المواطنة الإيجابية: وهي التي يشعر فيها الفرد بقوة انتمائه الوطني، ويقوم بواجبه المتمثل في أداء دوره الإيجابي سعياً إلى تقدم مجتمعه ومواجهة ما يعترضه من مشكلات.

 (2) المواطنة السلبية: وهي شعور الفرد بانتمائه للوطن، ولكن دون أداء أي دور إيجابي لإعلاء شأنه.  (3) المواطنة الزائفة: وفيها يظهر الفرد حاملاً لشعارات ظاهرية فقط، بينما واقعه الحقيقي ينم عن عدم إحساس واعتزاز بالوطن.  (4) المواطنة المطلقة: وفيها يجمع المواطن بين دوره الإيجابي والسلبي تجاه المجتمع وفقاً للظروف التي يعيش فيها، ووفقاً لدوره خلالها.

ولتفسير أسباب تباين مستويات ممارسة الشباب الريفي لسلوك المواطنة، استخدمت الدراسة نظرية الفعل الاجتماعي الإرادي لبارسونز Voluntaristic Social Action Theory، حيث تفترض هذه النظرية أن الأفراد يسعون إلى تحقيق أهداف شخصية في ظل مواقف وأوضاع معينة يتوافر فيها وسائل بديلة لتحقيق الأهداف، ولكنهم في سعيهم لتحقيق أهدافهم يكونون محدودين بالعديد من الظروف الموقفية مثل خصائصهم البيولوجية وظروف بيئتهم الطبيعية والإيكولوجية، كما أن سلوك الأفراد أيضاً يكون محدوداً بالقيم الاجتماعية والمعايير السلوكية والأفكار السائدة في المحيط الذي يعيشون فيه، وكل هذه المحددات الموقفية والمعيارية تؤثر على قدراتهم في اختيار الوسائل التي يمكن أن تحقق أهدافهم من بين مختلف الوسائل البديلة (Elezaby, 1985: 22). وعلى ذلك فإن الفعل الإرادي لبارسونز يتضمن مجموعة من العناصر هي: (1) الفاعلون،  (2) الأهداف التي يسعى الفاعلون إلى تحقيقها،  (3) الوسائل البديلة لتحقيق الأهداف،  (4) العوامل الثقافية والمعيارية التي تؤثر على اختيار الأهداف والوسائل،  (5) العوامل الموقفية التي تؤثر على اختيار الأهداف والوسائل،  (6) أفعال وقرارات الفاعلين لتحقيق الأهداف والتي تتأثر بكلٍ من العوامل الثقافية والعوامل الموقفية (Turner, 1982: 43- 44).

ووفقاً لهذه النظرية فإن الشباب الريفيين يتطلعون إلى تحسين مستوى معيشتهم، والارتقاء بنوعية الحياة الخاصة بهم، والتمتع بحياة كريمة تكفل لهم تحقيق أقصى درجة من مستويات الإشباع لحاجاتهم الأساسية، وخلال سعي هؤلاء الشباب لتحقيق الأهداف السابقة فهم يلجأون إلى المفاضلة بين عدة بدائل للمساعدة في تحقيق الأهداف، لعل من بينها ثلاثة بدائل رئيسية، يشير البديل الأول منها إلى لجوء الشباب الريفيين إلى تحقيق أهدافهم في ظل ممارستهم لسلوك المواطنة الإيجابية أي من خلال شعور إيجابي بقوة الانتماء الوطني يترجم إلى أداء الأدوار الاجتماعية على أكمل وجه مع السعي الدائم إلى تنمية وتقدم المجتمع ومواجهة ما يعترضه من مشكلات، ولعل هذه الفئة من الشباب هي التي استطاعت أكثر من غيرها أن توفر نوعاً من التقارب بين أهدافها الشخصية وبين الأهداف العامة للمجتمع، بينما يشير البديل الثاني إلى قيام الشباب الريفي بتحقيق أهدافهم في ظل ممارسة سلوك المواطنة السلبية أي في ظل توافر شعور لديهم بالانتماء للوطن لكنه لا يترجم إلى القيام بأدوار إيجابية لإعلاء شأنه، ولعل هذه الفئة من الشباب الريفي هي التي انشغلت بتحقيق أهدافها الشخصية دون محاولات كافية منها لربط هذه الأهداف الشخصية بالأهداف العامة للمجتمع، أما البديل الثالث فهو ينطوي على تحقيق أهداف الشباب الريفي في ظل ممارسة سلوك المواطنة الزائفة أي في ظل غياب الشعور بالانتماء للوطن والذي يصاحبه غياب للأدوار الاجتماعية التي كان من المفترض أن يقوم بها هؤلاء الشباب، ولعل هذه الفئة الأخيرة من الشباب الريفي هي التي انخرطت في تحقيق أهدافها الشخصية مع شعورها بوجود نوع من التعارض بين هذه الأهداف الشخصية وبين الأهداف العامة للمجتمع.

وعملية المفاضلة بين هذه البدائل لتحقيق أهداف الشباب الريفي قد تتأثر ببعض العوامل الثقافية والمعيارية السائدة بـالمجتمعات الريفية مثل: المستويات التعليمية السائدة، وبناء القوة والمكانة القيادية للأفراد داخل البنيان الاجتماعي، والانفتاح الثقافي، ومدى توافر الدوافع للنجاح والإنجاز.

كما تتأثر عملية المفاضلة بين بدائل تحقيق أهداف الشباب أيضاً ببعض العوامل الموقفية والبيئية مثل: أعمار الشباب، والقدرات الاتصالية المتاحة لديهم. وعلى ذلك فإن تضافر كلٍ من العوامل الثقافية والمعيارية من جانب، والعوامل الموقفية والبيئية من جانب آخر سوف يؤدي إلى تباين مستويات ممارسة الشباب الريفي لسلوك المواطنة.

المراجع

1ـ القحطاني، عبد الله بن سعيد آل عبود (2010)، “قيم المواطنة لدى الشباب وإسهامها في تعزيز الأمن الوقائي”، رسالة دكتوراه، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض.

2ـ حسين، عدنان السيد (2008)،”المواطنة في الوطن العربي”، منتدى الفكر العربي، بيروت.

3ـ خليفة، علي (2004)، “مفهوم المواطنة في الدول الديمقراطية“، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

4ـ سعد، أحمد يوسف (2012)، “مفهوم وقضايا المواطنة“، مجلة عالم التربية، عدد 18، القاهرة، ص ص 67- 76.

5ـ غيث، محمد عاطف (بدون تاريخ)، “المرجع في مصطلحات العلوم الاجتماعية“، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية.

6ـ فوزي، سامح (2007)، “المواطنة“، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، القاهرة.

7ـ ليلة، علي (2007)، “المجتمع المدني: قضايا المواطنة وحقوق الإنسان“، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

8ـ محمود، جمال الدين إبراهيم (1997)، “تقويم أثر منهج الدراسات الاجتماعية بالصف الأول الإعدادي في تنمية المواطنة“، رسالة ماجستير، كلية البنات، جامعة عين شمس.

9ـ Dynneson, T. L. (1992), “What Does Citizenship Mean to Students?”, Social Education, 56, 1, pp. 55- 67.

10ـ El ezaby, Mohamed I. (1985), “Impact of Situational and Orientational Factors on Residents Contribution to Community Field Structure”, Ph.D. Dissertation, Iowa State University, Ames, Iowa, USA.

11ـ Turner, Jonathan H. (1982), “The Structure of Sociological Theory”, Third Edition, The Dorsey Press, Homewood, Illinois.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى