الآبار الرومانية.. كنز منسي يمكنه إنقاذ الأمن الغذائي المصري!

بقلم: أ.د.خالد فتحي سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بكلية التكنولوجيا الحيوية – جامعة مدينة السادات
بين منخفض القطارة والساحل الشمالي: أين تكمن التنمية الحقيقية؟
لم تعد قضية الأمن الغذائي رفاهية في عالم يشهد اضطرابات اقتصادية وجفافًا طاحنًا وارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الحبوب. وفي مصر تحديدًا، حيث يستهلك المصريون القمح كغذاء أساسي، باتت كل فكرة وجيهة وكل فرصة محتملة قابلة للدراسة، خاصة حين تتعلق بزيادة المساحة المزروعة وتقليل فاتورة الاستيراد التي تتجاوز المليار دولار سنويًا.
ومؤخرًا طُرحت بعض التصورات التي تدعو إلى توجيه مياه النيل — وخاصة القادمة من اتجاه سد النهضة — نحو منخفض القطارة عبر قناة ضخمة. لكن هذا الطرح — رغم ما يحمله من خيال هندسي — يُعد بعيدًا عن التطبيق الواقعي لأسباب اقتصادية وفنية. فتكلفة شق قناة بهذا الحجم في منطقة وعرة مرتفعة للغاية، فضلًا عن المخاطر البيئية المتمثلة في احتمالات حدوث تمليح ثانوي للأراضي الزراعية القديمة، بالإضافة إلى أن مناطق داخل المنخفض تُزرع بالفعل ولا يمكن التضحية بها.
في مقابل ذلك، يقف الساحل الشمالي الغربي بموارده التاريخية والمناخية كأحد أكثر المناطق التي تمتلك فرصًا حقيقية للتنمية الزراعية — إذا ما أُحسن استغلال كنوزها المائية المخزنة في باطن الأرض.
عودة إلى الستينيات: حين اكتشفت مصر شبكة آبار رومانية هائلة
في ستينيات القرن الماضي، قام فريق بحثي متخصص — يضم خبراء من هيئة تعمير الصحاري وجامعة الإسكندرية — بدراسة التدهور البيئي الذي أصاب الساحل الشمالي. وكان السؤال الذي قادهم هو:
كيف كانت هذه المنطقة سلة غذاء للإمبراطورية الرومانية، ثم انتهت إلى التصحر؟
جاءت الإجابة لتكشف عن واحد من أعظم الإنجازات الهندسية القديمة:
شبكة من الآبار الرومانية المنتشرة على طول الساحل الشمالي.
تم حصر حوالي ٣٠٠ بئر آنذاك، بمتوسط سعة تخزينية ٣٠٠٠ متر مكعب للبئر الواحد.
وفي منطقة مرسى مطروح وسيدي براني وحدهما وُجد ١٨٢ بئرًا يمكن — بعد تنظيفها — استخدامها في تجميع مياه الأمطار وري القمح والشعير والتين والعنب والبطيخ.
ومع تقدم تقنيات الاستشعار عن بُعد، تضاعفت التقديرات:
اليوم تشير البيانات إلى أن عدد الآبار الرومانية قد يتجاوز ٤٠٠٠ بئر، وربما أكثر، إذا ما تم إجراء مسح شامل بالأقمار الصناعية.
الطاقة التخزينية المحتملة — وفق الأرقام المتاحة — قد تصل إلى ١٢ مليون متر مكعب في وضعها الحالي، مع إمكانية مضاعفتها بعد التطوير وربط الآبار ببعضها وتجهيزها لجمع مياه الأمطار.
هذا يعني ببساطة أننا نتحدث عن خزان مائي طبيعي مجاني… موجود ومُختبر عبر التاريخ.
الساحل الشمالي… أفضل منطقة يمكنها تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح والشعير
الصحراء الغربية — خصوصًا الشريط الممتد من العلمين إلى السلوم — تملك مكاسب طبيعية نادرة:
ـ معدل أمطار سنوي أعلى من أي منطقة مصرية خارج سيناء.
ـ تربة خصبة مناسبة لمحاصيل الحبوب الشتوية.
ـ تاريخ زراعي مثبت منذ العهد الروماني.
ـ وجود خزانات مياه أمطار في هيئة آبار طبيعية جاهزة للاستغلال.
وبناء على ذلك، يُعد الساحل الشمالي الغربي أقوى منطقة في مصر يمكنها أن تُسهم بجدية في إنتاج القمح والشعير، لو توفر له ما يلي:
ـ حصر شامل للآبار بالأقمار الصناعية.
ـ تطهير الآبار وإعادة تأهيلها وربطها بمنشآت تجميع مياه الأمطار.
ـ تطوير شبكات لاستغلال الفيضانات الشتوية الموسمية.
ـ زراعة القمح والشعير والعدس والفول كمحاصيل استراتيجية للمصريين.
إن زراعة الساحل الشمالي المعتمدة على مياه الأمطار + مياه الآبار الرومانية يمكن أن تحقق إنتاجًا جيدًا دون أي تحميل على مياه النيل.
هل يمكن استغلال الآبار لزراعة القمح والشعير؟ الإجابة: نعم وبقوة
بناءً على تجارب الستينيات وتجارب الاتحاد الأوروبي الحديثة التي طالت 181 بئرًا في مطروح وبراني، أثبتت النماذج الزراعية أن:
ـ مياه الآبار المجمعة تكفي لري رية واحدة مكملة في شهر مارس، وهي الرية المحددة التي يحتاجها القمح والشعير.
ـ المحاصيل الشتوية — بخلاف الصيفية — ذات استهلاك مائي منخفض.
ـ الظروف المناخية في المنطقة مثالية للحبوب الزيتية والبقوليات.
ـ النظام الروماني الأصلي كان قائمًا بشكل كامل على زراعة الحبوب من آبار الأمطار فقط.
كل هذا يعني أن زراعة القمح والشعير باستخدام هذه الآبار ممكنة — بل مجدية اقتصاديًا.
هل يمكن لمناطق في مصر تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح؟
نعم، إذا تم اتباع خطة واضحة تشمل:
1ـ التوسع في زراعة مليون فدان إضافي من القمح
لرفع المساحة الكلية إلى ٤.٣ مليون فدان.
2ـ استغلال الساحل الشمالي الغربي بالكامل للقمح والشعير
سهل، منخفض التكاليف، قابل للتطبيق فورًا.
3ـ تطوير غرب المنيا – توشكى – الواحات
كمناطق واعدة في إنتاج القمح باستخدام مياه الآبار العميقة والري المحوري.
4ـ التوسع في زراعة الفول والعدس فورًا
لتقليل فاتورة الاستيراد وتوفير ما يزيد على ١.٣ مليار دولار سنويًا.
الموجز المختصر
الأمن الغذائي يبدأ من استغلال الموارد القريبة… لا المشاريع المستحيلة
إن الحديث عن توجيه مياه النيل للقطارة يفتقر إلى الواقعية، بينما تمتلك مصر بالفعل ثروة مائية أرضية جاهزة في الساحل الشمالي يمكن أن تحقق نتائج ملموسة بتكلفة أقل وبسرعة أكبر.
الآبار الرومانية ليست مجرد أثر تاريخي، بل مشروع قومي جاهز للعمل…
اختُبر قبل ألفي عام، وأثبت نجاحه، ولا يزال قادرًا على خدمة مصر اليوم.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



