رئيس التحرير

هل يكون الرحيل هو الحل في زمن تآكل القيم؟

بقلم: د.أسامة بدير

في زمن تتعرض فيه قيم المجتمع لضربات متتالية، ويغدو السلوك المنحرف هو الصوت الأعلى، أجد نفسي اليوم أمام سؤال قاسٍ لكنه مشروع: هل أصبح الرحيل هو الحل؟

عشتُ خلال الفترة الماضية صراعاً اجتماعياً مرهقاً، صراعاً لم يكن مجرد خلافات عابرة، بل مواجهة حقيقية مع واقع تتآكل فيه الأخلاق، وتتفشى فيه الظواهر السلبية بثقة مرضية. ظواهر لم تعد تقف عند حدود المدن أو البيوت، بل امتدت لتخترق كل كل المجالات في حياتنا التي كانت يوماً تمثل مدارس للقيم والجدية والانتماء.

نعم… تربيت على أن أداء عملي هو مساحة للعمل الشريف، والجهد الحقيقي، والضمير الحي، لكنه صار اليوم يعاني انحرافات اجتماعية لا تقل خطراً عن أي آفة تهاجم الأرض أو النبات. علاقات تتبدل، مصالح تتقدم، وأصوات النفعية تتغلب على صوت المهنية والالتزام. مشاهد يومية تصنع إحباطاً لا يمكن إنكاره، وتفتح الباب أمام سؤال وجودي مُوجع: لماذا أبقى وسط هذا القبح؟

لقد بات الشاهد بالنسبة لي أن أمراض اجتماعية عديدة باتت تنهش ما تبقى من أخلاق هذا المجتمع.. سطحية سائدة، نفاق علني، استسهال للكذب، وجرأة على تجاوز القوانين والأصول دون خجل أو حساب. ومع كل يوم يمر، أكتشف أن الأسوياء – وهم الآن قلة – أصبحوا الأكثر تعرضاً للضغط، والأكثر عرضة للإقصاء، فقط لأنهم يتمسكون بما تبقى من ضمير ومبادىء.

وسط هذا الزحام المشوه، حاولت كثيراً أن أفهم، أن أتعايش، أن أُصلح… لكن حجم التشوه تجاوز قدرة التحمل. وأمام هذا الواقع المريض، بدأت الفكرة تتسلل إلى عقلي: هل تكون الخطوة الأكثر عقلانية الآن هي الرحيل؟

الرحيل هنا ليس انسحاباً من الأرض أو القطاع أو الوطن، بل انسحاب واعٍ من دوائر مسمومة، ومن علاقات تستنزف، ومن مشاهد تهين العقل والقيم. هو محاولة للدفاع عن ما تبقى من نقاء النفس، ومحاولة لاستعادة القدرة على التفكير والعمل في بيئة لا تبتلع ما بداخلنا من صدق.

قد يظن البعض أن الرحيل هروب… لكنه في كثير من الأحيان هو أبقى أشكال المقاومة. حين يصبح التمسك بالمبادئ أشبه بالوقوف في وجه إعصار، وحين تتحول الأخلاق إلى عبء بدلاً من أن تكون قيمة… يصبح الرحيل طريقة لحماية ما تبقى من الإنسان داخلنا.

وأنا اليوم، وبعد كل ما رأيته ورصدته وعايشته، لا أطرح سؤال الرحيل بدافع الضعف، بل بدافع الحقيقة، حقيقة أنني لم أعد قادراً على التعايش مع هذا الكم من التشوه الأخلاقي الذي ضرب بنية المجتمع المصري، وحقيقة أن القيم التي نشأت عليها أصبحت غريبة وسط ضجيج المصالح والأقنعة، وحقيقة استمرار البقاء في هذا المناخ قد ينسف ما تبقى من صفاء داخلي.

فهل يكون الرحيل هو الحل؟ ربما نعم… ربما هو الخطوة التي تمنحني المساحة لأتنفس، ولأعيد النظر، ولأحافظ على مبادئي قبل أن تتحول هي الأخرى إلى رماد.

لكن ما أعرفه جيداً هو أن ما نعيشه اليوم من انهيار قيمي واجتماعي يفرض على كل صاحب ضمير أن يُعيد التفكير… أن يعيد تقييم موقعه… وأن يسأل نفسه بصدق: هل يستحق هذا الواقع أن نُضحي بأنفسنا من أجله؟

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى