لماذا لا تُستخدم تقاوي الجيل الثاني F₂ كما تُسمى في السوق المحلي التقاوي الكسر من الهجن الجيل الأول F₁؟
قوة الهجين وآلية إنتاجه… الحقيقة العلمية التي يغفلها كثير من المزارعين

بقلم: أ.د.خالد فتحي سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات
تشهد الزراعة الحديثة في مصر ومعظم دول العالم تحولات كبرى في أساليب الإنتاج، خاصة مع الاعتماد المتزايد على الأصناف الهجينة ذات الإنتاجية العالية مثل الذرة الهجين والفول السوداني الهجين والأرز الهجين ودوار الشمس الهجين والخضار الهجين وغيرها من المحاصيل الاقتصادية.
ورغم أن هذه الأصناف الهجينة تمثل نقلة كبيرة في إنتاجية الفدان وقدرته على مواجهة الظروف البيئية والأمراض، إلا أن كثيرًا من المزارعين ما زالوا يقعون في خطأ جسيم، يتمثل في استخدام تقاوي الكسر أو بذور الجيل الثاني (F₂) الناتجة من محصول العام السابق، ظنًّا منهم أن هذه التقاوي يمكن أن توفر في التكاليف وتحقق إنتاجًا مقبولًا. لكن الحقيقة العلمية تؤكد أن هذا السلوك يؤدي إلى خسائر كبيرة في الإنتاج، وانهيار قوة الهجين وفقدان خصائصه، وظهور صفات رديئة لا تمت للصنف الأصلي بصلة.
قوة الهجين… من أين تأتي؟
لفهم لماذا لا تصلح بذور الجيل الثاني للزراعة التجارية، لا بد أولًا من فهم أساسيات ما يُعرف بـ “قوة الهجين” (Heterosis) أو ما يُسمى أحيانًا “تفوق العُرْوة الأولى”.
قوة الهجين ظاهرة وراثية تتجلى في الجيل الأول F₁ الناتج من تهجين سلالتين مختلفتين وراثيًا. إذ يظهر هذا الجيل بصفات متفوقة تفوق كلا الأبوين معًا، من حيث قوة النمو، سرعة التفريع، ارتفاع الإنتاجية، زيادة تحمل الظروف البيئية الصعبة، ومقاومة الأمراض. ويعود ذلك إلى أن التباعد الوراثي بين السلالتين يؤدي إلى “تفعيل” جينات مكمّلة لبعضها البعض، ما يخلق نباتًا قويًا ومتجانسًا.
هذه الظاهرة تُعد أساس نجاح معظم الهجن التجارية المنتشرة في الأسواق؛ فالذرة الهجينة الحديثة قد تنتج ما يزيد على 30–40% أكثر من الأصناف التقليدية. كما تتميز بمحصول متجانس ونباتات متساوية الطول وقوة تحمل أعلى، وهي صفات ضرورية لنجاح الزراعة الحديثة. لكن هذه القوة مخصصة للجيل الأول فقط، ولا يمكن أن تستمر في الأجيال التالية.
كيف يتم إنتاج الهجن؟
إنتاج صنف هجين ليس عملية عشوائية أو بسيطة، بل هو نتاج سنوات طويلة من العمل الوراثي الدقيق. تبدأ العملية بإنتاج سلالات نقية (Inbred Lines) أو pure line من خلال التهجين الذاتي المتكرر لعدة أجيال، إلى أن تصبح السلالة نقية في صفاتها. هذه السلالات عادة تكون ضعيفة الإنتاج، لكنها تحمل جينات ثابتة.
بعد ذلك يتم اختيار أبوين متباعدين وراثيًا داخل برامج التربية، ويتم تهجينهما بصورة منظمة. في الذرة مثلًا، يتم إخصاء النباتات الأم أي إزالة المتوك من النباتات المؤنثة، أو ما يُسمى في الذرة الشامية التطويش، وذلك لمنع إمكانية التلقيح الذاتي، أو استخدام سلالات عزيمة الذكر (male sterility)، ثم تُلقح يدويًا بحبوب لقاح الأب أو بالحبل في الأرز، في وجود سلالات عزيمة الذكر. ويُنتج هذا التلقيح بذورًا من الجيل الأول F₁، وهي التي تُطرح في الأسواق وتُعرف بالتقاوي الهجينة.
هذه البذور فقط هي التي تتمتع بقدرة إنتاجية عالية، لأنها تحمل تركيبة وراثية متوازنة تجمع صفات الأبوين في مزيج قوي ومتجانس.
لماذا لا تصلح تقاوي الجيل الثاني F₂؟
السؤال الذي يطرحه كثير من المزارعين هو: ما الذي يمنعني من الاحتفاظ ببذور المحصول الهجين وزراعته العام التالي؟
والإجابة المختصرة: لأن الهجين ينهار وراثيًا بمجرد دخول الجيل الثاني.
أما الإجابة العلمية المفصلة فهي أكثر وضوحًا:
-
التفكك الوراثي أو ما يُسمى الانعزالات الوراثية في الجيل الثاني (Genetic Segregation)
الجيل الأول F₁ متجانس لأن تركيبه الوراثي ثابت لكل نبات.
لكن عندما تُزرع هذه النباتات ويُسمح لها بإنتاج بذور جديدة (الجيل الثاني F₂)، فإن الصفات الوراثية تبدأ بالتفكك أو الانعزال، وتظهر صفات كانت مختفية، وتتباين الجينات بين النباتات بشكل كبير.
هذا يعني أن الحقل يصبح خليطًا غير متجانس: نباتات طويلة وأخرى قصيرة، بعضها قوي وبعضها ضعيف، بعضها مبكر النضج وآخر متأخر، وبعضها يحمل صفات لم تكن موجودة في الهجين الأصلي، بمعنى 50% تحمل صفات الهجين و50% تحمل صفات أحد الأبوين. -
انخفاض الإنتاج بشكل كبير
التفكك الوراثي يؤدي مباشرة إلى انهيار الإنتاجية.
في الذرة مثلًا تنخفض إنتاجية F₂ بنسبة تصل إلى 40–60% مقارنة بالجيل الأول.
وفي دوار الشمس والفول السوداني قد يصل الانخفاض إلى 30–50%.
والسبب بسيط: الهجين يستمد قوته من اتحاد صفات الأبوين في تركيبة واحدة. وعندما تتفكك هذه التركيبة، تختفي القوة ويعود النبات إلى صفاته الأصلية الضعيفة. -
فقدان مقاومة الأمراض
من أهم مزايا الهجن أنها تتمتع بقوة مقاومة طبيعية نتيجة التنوع الوراثي المتوازن.
لكن في الجيل الثاني، تبدأ الجينات المسؤولة عن المقاومة بالتوزع عشوائيًا بين النباتات، ما يؤدي إلى ظهور نباتات ضعيفة للغاية، سهلة الإصابة بالأمراض مثل التفحم في الذرة، أو اللفحة في دوار الشمس، أو أعفان الجذور في الفول السوداني. -
اختفاء التجانس المطلوب للعمليات الزراعية
الهجن مصممة لتكون متجانسة، ما يسهل عمليات الزراعة والري والحصاد.
أما في الجيل الثاني، فتفقد النباتات التناسق، ما يؤدي إلى صعوبة إدارة الحقل، وعدم انتظام نضج المحصول، وزيادة نسبة الفاقد.
لماذا يظن بعض المزارعين أن تقاوي الكسر تصلح؟
يرجع ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها:
-
قصر النظر الاقتصادي: فالمزارع يعتقد أنه يوفر ثمن التقاوي الجديدة، لكنه يخسر أضعاف هذا المبلغ في انخفاض الإنتاج.
-
المظاهر الخادعة: إذ تبدو نباتات الجيل الثاني جيدة في بداية النمو، لكنها تنهار عند التزهير وتكوين المحصول.
-
قلة الوعي العلمي: فالكثيرون لا يعرفون طبيعة الهجن ولا آلية تكوينها.
-
تأثر المزارع ببعض التجارب الفردية: التي قد تنجح ظاهريًا لكنها لا تصلح كنموذج عام.
النتائج السلبية للتوسع في استخدام تقاوي الكسر
في حال استمرار المزارع في الاعتماد على بذور الجيل الثاني، تتراكم عدة مشاكل:
-
انهيار تدريجي ومستمر في الإنتاج
-
تراجع ربحية الفدان
-
ضعف النباتات وزيادة انتشار الأعشاب
-
زيادة الاعتماد على المبيدات نتيجة ضعف المقاومة
-
انتشار أمراض فتاكة كانت مختفية
-
تدهور خصائص الصنف وانخفاض جودة الحبوب
هذه النتائج تسبب خسائر اقتصادية لا تقل عن 30–40% سنويًا، وقد تؤدي في بعض الحالات إلى خسارة الموسم بالكامل.
الموجز المختصر… خيار علمي لا بديل عنه
الحقيقة التي لا مجال للجدل فيها هي أن الهجن لا تُزرع سوى مرة واحدة، وأن التقاوي الهجينة مصممة لإعطاء أفضل أداء في الجيل الأول فقط.
أما الجيل الثاني F₂ فهو جيل غير ثابت وراثيًا، يفقد كل المزايا التي دفع المزارع ثمنها عند شراء البذور الهجينة.
وعليه، فإن أي محاولة لاستخدام تقاوي الكسر ليست سوى خسارة مؤكدة، مهما بدت في البداية موفرة للتكاليف أو قابلة للتجربة.
إن نشر الوعي بين المزارعين حول هذا الأمر أصبح ضرورة ملحة، خاصة مع ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج ورغبة الجميع في تعظيم إنتاجية الفدان. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا من خلال الالتزام العلمي باستخدام تقاوي الجيل الأول F₁ فقط، وترك بذور الجيل الثاني تمامًا، سعيًا لتحقيق إنتاج وفير ومضمون، وحفاظًا على جودة المحصول وربحية الزراعة.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



