منوعات

عام الوشايات.. حين جاع الفلاحون وأكلوا الحمير الميتة

الفلاحون تاريخ من المعاناه
الفلاحون تاريخ من المعاناه

الفلاح اليوم ـ هيثم خيرى ما الذي جرى في عام 1782؟ ولماذا نفتح سيرة هذا العام دون غيره؟

هذه سنة درامية بامتياز، ففيها “فسدت النيات وتغيرت القلوب ونفرت الطباع، وكثر الحسد والحقد في الناس بعضهم بعضا”، بحسب قول الجبرتي.

وفي هذا العام أيضا شحّ النيل بفيضانه، وتشرد الفلاحون من قراهم إلى “مصر” في شوارع القاهرة، بحثا عن القوت فلم يجدوه.

أكل الفلاحون وأبناءهم قشور البطيخ من الأرض، فلم يجد الزبالون ما يكنسونه، ثم أكلوا جيف الحيوانات حتى كاد أن يأكل المصريون بعضهم بعضا.

وفيه عمّ الغلاء البلاد، وكثرت الفتن وأعمال “البلطجة” والسرقات والنهب والسلب، حتى لم يعد في بيت المال شيئا يسرق.

وهذا العام يعني أن مصر أصبحت في نهايات الحكم العثماني تقريبا، قبل مجيء الحملة الفرنسية بعدة سنوات (1798)، وأن القاهرة تعيش فترة حالكة السواد تحت حكم مراد بك، الذي خان المصريين وساند الحملة الفرنسية فيما بعد.

تتبع العورات

يذكر المؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي تفصيلا ما جرى هذا العام بقوله أن هذا العام كان عام الشح وفساد النوايا،”فيتتبع الشخص عورات أخيه ويدلي به إلى الظالم حتى خرب الإقليم وانقطعت الطرق وعربدت أولاد الحرام، وفقد الأمن ومنعت السبل إلا بالخفارة وركوب الغرر، وجلت الفلاحون من بلادهم إلى الشراقي والظلم وانتشروا في المدينة بأولادهم يصيحون من الجوع ويأكلون ما يتساقط في الطرقات من قشور البطيخ وغيره، وفي تلك المدة كثر عبث المفسدين وأفحش جماعة مراد بك في النهب والسلب في بر الجيزة، وأكلوا الزروعات ولم يتركوا على وجه الأرض عودًا أخضر، وعين لقبض الأموال من الجهات وغرامات الفلاحين، وظن الناس حصول الظفر لمراد بك واشتد خوف الأمرا بمصر منه”.

البك الخائن

وحيث إن مراد بك سيلعب دورا كبيرا كوالٍ لمصر بالشراكة مع إبراهيم بك، بداية من عام 1790 حتى سنة 1798، سنخوض في سيرة الرجل حتى يعرفه القارئ عن قرب.

هذا البك خان مصر كثيرا، وخان العثمانيين الذين أولوه بالرعاية منذ صغره، وخان الفرنسيين في الحملة الفرنسية، وخان كل من تقرّب منه أو ربطته به مصلحة.

بدأ الرجل حياته كأحد مماليك علي بك الكبير، وكان من قادة جيوشه التي ذهبت إلى الشام لضمها إلى الدولة المصرية، لكنه خان سيدة، وقاتل علي بك الكبير إلى أن مات على يد قوات محمد بك أبو الدهب، الذي أصبح فيما بعد حاكما لمصر لمدة ثلاث سنوات، ثم مات فجأة.

ثم تولى إبراهيم بك الحكم، وتقاسم بعض سلطاته مع مراد بك في عام 1790، وأصبح لمراد بك الحكم في إدارة الجيش المصري، وتسيير شئون الحج.

الهروب من الفرنسيس

ويحكي الجبرتي عن فترة الحكم المشترك تلك بين المملوكين فيقول: “عكف مراد بك على لذاته وشهواته، وقضى أكثر زمانه خارج المدينة، مرة بقصره الذي أنشأه بالروضة وأخرى بجزيرة الدهب، وأخرى بقصر قايماز جهة العادلية، كل ذلك مع مشاركته لإبراهيم بك في الأحكام والنقض والإبرام والإيراد والإصدار ومقاسمة الأموال والدواوين وتقليد مماليكه وأتباعه الولايات والمناصب، وأخذ في بذل الأموال وإنفاقها على أمرائه وأتابعه فانضم إليه بعض أمراء علي بك وغيره ممن مات أسيادهم.

وحين جاء الفرنسيس إلى مصر سنة 1798، كانت قوات مراد بك تمتد من بشتيل وإمبابة إلى الأهرامات، وكان جيشه يتألف من 50 ألف مملوكي، وبعضهم من العربان الذين تألفت منهم ميسرة الجيش الممتدة من الأهرامات، إلا أن هذا الجيش كان يعاني من الاستهتار بالعدو وسوء التدبير، والأزمات المتلاحقة بين مراد وإبراهيم على السلطة.

التقى الجيش الفرنسي والمملوكي مرة في موقعة إمبابة، حيث هزم جيش مراد بك في هذه المعركة، وفر مراد بك وبقايا جيشه إلى الجيزة، فصعد إلى قصره وقضى بعض أشغاله، ثم توجه مباشرة إلى الصعيد، أما إبراهيم بك فحين رأى الهزيمة حلت بجيش مراد أخذ من تبعه من مماليك وانسحبوا ناحية بلبيس.

وخلت القاهرة من الجيش والدفاع، فدخل نابليون بونابرت شوارعها واحتلها بالكامل.. لكن هذه قصة أخرى.

نعود إلى السنة التي أصبح فيها مراد بك شريكا في حكم مصر، والتي كانت أيامها كلها شدائد ومحن وغلّ.

سرقة الموتى

يذكر الجبرتي أن سنة 1782 انقضت في الشدة والغلا وقصور النيل والفتن المستمرة، وتواتر المصادرات والمظالم من الأمراء وانتشار اتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان، بحجة أنها مال الجهات، حتى أهلكوا الفلاحين وضاق ذرعهم واشتد كربهم وطفشوا من البلاد، فحولوا الطلب إلى الملتزمين، وبعثوا لهم المعينين في بيوتهم.

وفي هذا العام “احتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك، وتتبع من يشم فيه رائحة الغنى فيؤخذ ويحبس ويكلف بطلب أضعاف ما يقدر عليه، وتوالى طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقبلية.

ولمّا وجد التجار أنهم يعانون الخسارات المستمرة، استعوضوا ذلك من زيادة الأسعار، ثم مدوا إيديهم إلى المواريث.

ويصف الجبرتي هذا الأمر قائلا أنه “إذا مات الميت أحاطوا بموجوده (أمتعته وأمواله)، سواء كان له وارث أم لا”.

الموت جوعا

لكن أين بيت مال المسلمين من كل هذا الغلاء الفاحش؟

صار يتولى أمره “شرار الناس” بجملة من المال يقوم بدفعه في كل شهر، ولا يعارض فيما يفعل في الجزئيات، وأما الكليات يفختص بها الأمير، فحل بالناس ما لا يوصل من أنواع البلاء إلا من تداركه الله برحمته أو اختلس شيئا من حقه.

وفي هذا العام، اشتد بالفلاحين الحال حتى أكلوا الميت من الخيل والحمير والجمال، “فإذا خرج حمار ميت تزاحموا عليه وقطعوه وأخذوه، ومنهم من يأكله نيٍّا من

شدة الجوع، ومات الكثير من الفقرا بالجوع. هذا والغلا مستمر والأسعار في الشدة وعز الدرهم والدينار من أيدي الناس وقل التعامل إلا فيما يؤكل، وصار سمر الناس وحديثهم في المجالس ذكر المآكل والقمح والسمن ونحو ذلك لا غير، ولولا لطف الله تعالى ومجيء الغلال من نواحي الشام والروم لهلكت أهل مصر من الجوع“. وبلغ الإردب من القمح ألفًا وثلثماية نصف فضة والفول والشعير قريبًا من ذلك، وأما بقية الحبوب فقل أن توجد.

“واستمر ساحل الغلة خاليًا من الغلال بطول السنة والشون مقفولة، وأرزاق الناس وعلايفهم مقطوعة، وضاع الناس بين صلحهم وغبنهم وخروج طايفة ورجوع الأخرى، ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها، وإذا سئل المستقر في شيء تعلل بما ذكر”.

وفي هذه السنة، يذكر الجبرتي حادثا آخر لا يقل أهمية عما حدث، وهو قصر مد النيل وهبوطه قبل الصليب بسرعة فشرقت الأراضي القبلية والبحرية وعزت الغلال بسبب ذلك، وبسبب نهب الأمرا وانقطاع الوارد من الجهة القبلية وشطح سعر القمح إلى عشرة ريالات الإردب، واشتد جوع الفقرا.

ووصل مراد بك إلى بني سويف وأقام هناك وقطع الطريق على المسافرين، ونهب هو ورجاله كل ما مر بهم في المراكب الصاعدة والهابطة.

والملاحظ من الشدة التي عانى المصريون منها في هذا العام، أنهم تخلوا عن إنسانيتهم وآدابهم، وتحولوا إلى كائنات أشبه بالوحوش الضارية في وجوه بعضهم البعض، بسبب الفقر المدقع وفساد إدارة الدولة، وتناقص منسوب النيل.. والأهم تناقص الأرزاق.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى