ظاهرة انتشار كلاب الشوارع: هل من حل؟

بقلم: أ.د.خالد فتحي سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات

بين الواقع والتجارب العالمية ورؤية عملية لمستقبل أكثر أمانًا
تُعد ظاهرة انتشار كلاب الشوارع واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارة للجدل في المجتمع المصري، بل وفي كثير من الدول حول العالم. ورغم أنها قضية قد تبدو ثانوية للبعض، إلا أنها ترتبط بصحة المجتمع وسلامته ومظهره الحضاري، وتشكل عبئًا على الجهات المحلية، ومصدر خوف للقاطنين، ومشكلة بيئية وصحية لها انعكاسات خطيرة. وفي المقابل، يرى آخرون أن هذه الحيوانات جزء من البيئة المحلية، وأن القضاء عليها ليس حلًا لا من الناحية الأخلاقية ولا العلمية، وأن الإدارة السليمة يمكن أن تحوّلها من مشكلة إلى قيمة.
وبين هذين الاتجاهين، يظل السؤال الأهم: هل هناك حل فعلي لظاهرة كلاب الشوارع؟ وهل يمكن الاستفادة منها اقتصاديًا بدل اعتبارها عبئًا؟
أولًا: أسباب انتشار الظاهرة… مشكلة معقدة لا تُحل بقرار واحد
انتشار كلاب الشوارع في مصر ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات طويلة لعوامل اجتماعية وصحية وبيئية، أبرزها:
-
غياب برامج فعّالة للتعقيم والتطعيم
في غياب برامج منظمة لتحديد الكثافة السكانية للكلاب وتعقيمها، تُترك الحيوانات لتتكاثر بسرعة كبيرة؛ فأنثى الكلب يمكن أن تُنجب مرتين في العام بمعدل 5–8 جراء في كل مرة، ما يؤدي إلى تضاعف أعدادها خلال سنوات قليلة. -
القمامة ومصادر الغذاء المفتوحة
تكدس المخلفات في الشوارع يوفر بيئة مثالية لبقاء الكلاب وتكاثرها، إذ يجد الحيوان طعامًا جاهزًا دون أي مجهود، ما يشجعه على البقاء داخل المدن. -
إساءة التربية وترك الكلاب المنزلية
كثير من العائلات تتخلى عن كلابها بعد فترة – بسبب التكلفة أو الضيق أو الانتقال – لتجد هذه الكلاب نفسها في الشارع، فتندمج سريعًا مع القطعان الضالة وتساهم في زيادة أعدادها. -
غياب التشريعات الواضحة
لا توجد قوانين صارمة تلزم أصحاب الكلاب بالترخيص أو التطعيم أو منع إلقائها في الشوارع، ما يجعل إدارة أعداد الكلاب شبه مستحيل.
ثانيًا: المخاطر الحقيقية المرتبطة بانتشار كلاب الشوارع
رغم أن الكلب بطبيعته ليس حيوانًا عدوانيًا، إلا أن الظروف الصعبة التي يعيش فيها قد تجعله مصدرًا لعدد من المشكلات:
-
حوادث العقر والهجمات
تحدث غالبًا عند شعور الكلاب بتهديد، أو نتيجة الحماية الجماعية في موسم التزاوج.
تسجل مصر آلاف حالات العقر سنويًا، وهي نسبة مرتفعة إذا ما قورنت بالدول التي تطبق برامج تنظيم فعالة. -
الأمراض المشتركة وعلى رأسها السعار
السعار يمثل أخطر تهديد، وهو مرض قاتل بنسبة 100% إذا لم يُعالج فور الإصابة.
التطعيم الجماعي يقلل من نسب انتقاله، لكن غيابه يجعل الخطر مستمرًا. -
الحوادث المرورية
تصطدم الكلاب غالبًا بالسيارات خاصة ليلًا، مسببة أذى للحيوان والسائقين معًا. -
تشويه المظهر الحضاري
وجود تجمعات كبيرة من الكلاب في الطرق والمناطق السياحية يثير مخاوف الزوار ويؤثر على صورة البلاد خارجيًا.
ثالثًا: كيف تعامل العالم مع الظاهرة؟
من المهم النظر إلى تجارب الدول الأخرى التي عانت من نفس المشكلة ونجحت في إدارتها عبر خطط طويلة الأمد:
-
تركيا: TNR نموذج ناجح
اعتمدت تركيا برنامج TNR (إمساك – تعقيم – إعادة إطلاق)، مع تطعيم جميع الكلاب وترقيمها.
هذا الأسلوب لم يقضِ على الكلاب، لكنه قضى على الهجمات بنسبة كبيرة وخلق توازنًا بيئيًا. -
الهند: السيطرة دون قتل
الهند، رغم تعدادها الضخم ومشكلاتها المعقدة، نجحت في تقليل خطر السعار عبر التطعيمات الواسعة وتعقيم ملايين الكلاب. -
رومانيا: الملاجئ البلدية وتنظيم التبني
استخدام ملاجئ مهيكلة، مع فرض قوانين تمنع التخلي عن الحيوانات، أدى إلى انخفاض كبير في أعداد الكلاب الضالة.
الدرس المشترك من كل التجارب: القتل ليس حلًا، لأنه يؤدي إلى “الفراغ البيئي” الذي يعود ليمتلئ كل عام بأعداد مماثلة أو أكبر.
رابعًا: ما الحل في مصر؟ خطة قصيرة وطويلة الأجل
-
خطة قصيرة الأجل (من 6 إلى 18 شهرًا)
أ. حملة قومية للتطعيم ضد السعار بالتعاون بين وزارتي الصحة والزراعة والهيئة العامة للخدمات البيطرية.
ب. تطبيق نظام TNR على نطاق واسع: تعقيم وتطعيم الكلاب ثم إعادتها إلى مناطقها يقلل التكاثر بنسبة قد تصل إلى 80% خلال سنوات قليلة.
ج. ترقيم الكلاب: وضع علامات واضحة (أذن مرقمة أو شريحة إلكترونية) لتمييز الكلاب المطعمة عن غيرها.
د. تنظيم المخلفات: القضاء على مصادر الطعام العشوائية يقلل تكاثر الكلاب بنسبة كبيرة. -
خطة طويلة الأجل (3 إلى 10 سنوات)
أ. إنشاء وحدات بلدية لرعاية الحيوانات أو في حدائق الحيوان: مراكز متطورة تُدار علميًا لتكون بديلاً عن الإعدام العشوائي، ولتقديم خدمات التبني والتدريب.
ب. إصدار قانون متكامل للملكية والرفق بالحيوان: يشمل ترخيص الكلاب، وتحديد مسؤوليات المربي، وتوقيع عقوبات على التخلي عن الحيوانات.
ج. إدماج الكلاب في وظائف مجتمعية: كلاب البلدي قوية وذكية وتتمتع بحس أمني عالي، ويمكن تدريبها للعمل في الحراسة بالمزارع والمخازن، الأمن المجتمعي، والأنشطة السياحية والبيئية.
د. الاستثمار في الصناعات البيطرية: التعامل مع الظاهرة يمكن أن يفتح سوقًا اقتصادية تضم عيادات بيطرية، مراكز تدريب، شركات أغذية حيوانية، وفرص عمل جديدة للشباب.
خامسًا: هل يمكن الاستفادة من كلاب الشوارع اقتصاديًا؟
الإجابة: نعم، وبقوة.
-
تدريبها ككلاب حراسة محلية: الكلب البلدي المصري يتمتع بذكاء فطري وقوة بدنية وقدرة عالية على التكيف، ما يجعله مثاليًا للحراسة في المزارع والمصانع والمخازن.
-
استخدامها في السياحة البيئية: في بعض الدول، تُستخدم الكلاب في مرافقة السياح، حماية المناطق الطبيعية، والكشف عن الحيوانات الخطرة.
-
برامج التبني الدولية: هناك منظمات عالمية تستعد لدعم تبني الكلاب المصرية بعد تأهيلها، وهو باب اقتصادي لم يُستغل بعد.
-
خلق فرص عمل: كل برنامج من برامج الرعاية والتعقيم والتطعيم والتدريب يمكن أن يوفر مئات الوظائف.
الموجز المختصر: الحل يبدأ من الإدارة العلمية
ظاهرة كلاب الشوارع ليست “كارثة بلا حل”، بل مشكلة يمكن السيطرة عليها إذا توافرت الإرادة السياسية والرؤية العلمية.
التجارب العالمية أثبتت أن:
-
التعقيم والتطعيم أكثر فاعلية من القتل.
-
الترميز والإدارة السليمة تخفض المخاطر.
-
الاستفادة الاقتصادية أفضل من الإهمال أو المواجهة العشوائية.
إن مصر تمتلك القدرة على تحويل هذه المشكلة إلى قصة نجاح حقيقية، فقط إذا توفرت خطة علمية متكاملة تشاركية، يكون المجتمع كله جزءًا منها.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



