رئيس التحرير

سقوط المودة من الشرفة مأساة زواج انهار قبل أن يكتمل عامه الأول

بقلم: د.أسامة بدير

لم تكن ليلة الأمس عادية، ولم يكن المشهد الذي رأيته بعيني مشهداً يمكن نسيانه مهما طال الزمن. كنت أقف في الشارع حين دوّى صوت ارتطامٍ قوي، تبين لي لاحقًا أنه صوت جهاز زوجية يُلقى من شرفة في الطابق الخامس. وفي لحظات، امتلأ المكان بالدهشة والذهول، والكل يتهامس في فزع: “ماذا يحدث هناك؟”. كان الزوج، الذي لم يمضِ على زواجه عام واحد، قد استأجر سيارة نصف نقل كبيرة وبدأ يقذف بأثاث بيته قطعة بعد أخرى، بعد خلافاتٍ عاصفة انتهت بطرد زوجته من منزلها.

مشهد أثار في النفوس غصة وفي العيون دمعة، فهنا لا يُلقى الأثاث فقط، بل تُلقى المودة من النوافذ، وتُكسر القلوب قبل أن تُكسر الأواني. لحظات قليلة كانت كافية لتصل سيارة الشرطة، التي أوقفت الفوضى ومنعت العبث بما هو حق للزوجة، بعد أن رُمي عليها يمين الطلاق في لحظة انفعال غاب فيها العقل، وانهارت فيها القيم التي بُني عليها هذا الرباط المقدس.

لقد شاهدت بعيني كيف تهاوت أمامنا كل معاني السكن والرحمة، وكيف تحولت تلك الشقة التي كانت بالأمس عشا دافئاً إلى ساحة انتقام وكرامة مهدورة. مشهد جعلني أتساءل: إلى أي مدى فقدنا قدرتنا على التفاهم؟ وكيف انقلبت البيوت التي شُيدت على الحلم إلى أطلال من الحقد والكراهية؟

قبل أقل من عام، كان هذان الزوجان حديث الجميع، بحفل زواجٍ أسطوري جمع الأهل والأصدقاء، وأحلامٍ زُينت بالأماني الوردية. لكن الأيام كشفت وجهها الآخر، لتغدو تلك البداية المبهجة مقدمة لنهاية مأساوية لم يكن يتخيلها أحد. إنها الحكاية التي تتكرر كل يوم بأشكال مختلفة، حين يغيب العقل، وتخبو لغة الحوار، وتتعالى الأصوات بدلاً من أن تتقارب القلوب.

إن ما حدث ليس مجرد خلاف أسري، بل هو إنذار خطير بانهيار منظومة القيم التي كانت تحكم العلاقات الإنسانية. حين يُستبدل الحب بالانتقام، وتتحول المودة إلى رغبة في الإيذاء، نكون قد خسرنا شيئاً أثمن من أي جهاز أو قائمة منقولات. خسرنا الإنسان فينا، خسرنا الرحمة التي أوصت بها كل الشرائع السماوية.

كم من بيت يُهدم لأن أحد الطرفين أراد أن ينتصر لنفسه لا للحياة المشتركة؟ وكم من أسرة تفرقت لأن الكرامة فُهمت خطأً، والعناد طغى على العقل؟ نحن بحاجة إلى وقفة صادقة مع أنفسنا، إلى تربية جديدة على ثقافة الحوار، والاحترام، وحسن المعاشرة، قبل أن يتحول الزواج في أذهان الشباب إلى مغامرة خطيرة لا أمان فيها.

إنني أدين بكل وضوح كل أشكال العنف والإهانة ضد الزوجة، أيا كان سبب الاختلاف. فالمعروف هو سيد الموقف، والحكمة تقتضي أن نضع للعقل مكاناً قبل الانفعال، وأن نحفظ ما تبقى من الود حتى في لحظة الفراق. فالطلاق، مهما كان مراً، يمكن أن يكون نهاية كريمة، لا مشهداً مأساوياً يُلقي فيه أحدهم تاريخاً من الأحلام من شرفة في ليل صامت.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لم يكن هذا المقال الذي كتبه د. أسامة بدير عن حادثة إلقاء أثاث الزوجية من شرفة الطابق الخامس مجرد تسجيل لواقعة عابرة، بل كان صرخة مدوّية في وجه مجتمع يتداعى فيه البناء الأسري أمام أعيننا دون أن نحرك ساكناً. فالمشهد الذي وصفه الكاتب لم يكن عن شجارٍ بين زوجين بقدر ما هو عن انهيار في منظومة القيم، وعن موتٍ بطيء للمودة التي كانت يوماً تاج العلاقة بين الرجل والمرأة. إن ما رأيناه ليس سقوطاً للأثاث بل سقوطاً للرحمة من القلوب، وسقوطاً للعقل من عليائه حين تغلبه ثورة الغضب.

    إن ما حدث في تلك الشقة الصغيرة هو انعكاسٌ مكثّف لحالٍ أوسع يعيش بين جدران بيوت كثيرة، وإن اختلفت التفاصيل. لقد تحولت بعض الزيجات الحديثة إلى مشاريع قصيرة الأجل، تبدأ باحتفالات صاخبة وتنتهي بقرارات انفعالية، لأن الأساس الذي بُنيت عليه هشّ، ولأن المضمون غاب ليحل محله المظهر. حين يغيب الوعي وتغيب التربية على معنى المشاركة، يصبح الزواج أقرب إلى صفقة مؤقتة منه إلى ميثاقٍ روحي وأخلاقي.

    السبب الأول الذي يمكن أن يُقرأ بين سطور هذه المأساة هو الضغوط المادية الطاحنة التي أصبحت تُحوِّل كثيراً من الأزواج إلى خصوم لا شركاء. فحين لا يجد الشاب عملاً مستقراً، وحين ترتفع أسعار المعيشة بلا سقف، وحين يشعر أنه عاجز عن تلبية أبسط متطلبات البيت، تتحول العلاقة من دفءٍ إلى توترٍ مزمن، ومن تعاونٍ إلى تبادل للاتهامات. لكن المأساة لا تتوقف هنا، لأن هناك ضغوطاً أشد قسوة من ضيق اليد، وهي ضغوط الفراغ الروحي. فحين يغيب الإيمان بالله كضابطٍ للنفس، وحين ينسى الزوج والزوجة أن بينهما عهداً أمام الله لا أمام الناس، يصبح من السهل أن يُهدر كل شيء بكلمة طائشة أو فعل متهور.

    لقد ضعف الإيمان، وضعفت معه القيم التي كانت تحفظ الأسرة من التصدع. أصبحنا نعيش زمنًا تتراجع فيه المعاني العميقة للعِشرة، ويعلو فيه صوت “الأنا” على صوت “النحن”. كل طرف يريد أن ينتصر لذاته لا للعلاقة، أن يبرّر انفعاله لا أن يتراجع من أجل بقاء البيت. وهنا تبدأ الكارثة، حين يُستبدل الحب بالكبرياء، والمودة بالندية، والعقل بالعناد.

    أما السبب الثالث، فهو فقدان الرضا وشيوع ثقافة المقارنة. فوسائل التواصل الاجتماعي جعلت كل إنسان يرى حياة الآخرين في صورتها المثالية دون أن يدرك خلفها ما فيها من تعبٍ وخسائر. صارت الزوجة تقارن بيتها ببيوت غيرها، والزوج يقيس سعادته بمقاييس الآخرين. ومن رحم هذه المقارنات يولد السخط، ويتبخر الامتنان، ويختنق الود. إن الرضا ليس ضعفًا، بل هو وعيٌ بأن لكل بيت قدره وظروفه، وأن السعادة لا تأتي من تكديس الأشياء بل من انسجام النفوس.

    ولا يمكن تجاهل أن كثيراً من حالات الانفصال المبكر تنشأ من زواجٍ لم يسبقه نضج كافٍ ولا معرفة حقيقية بين الطرفين. الارتباط في زمننا أصبح سريعًا ككل شيء آخر، بلا مساحة لاكتشاف التفاهم أو اختبار الصبر. إن الزواج الذي لا تُبنى جذوره على الحوار والفهم والقبول المتبادل، سرعان ما تجرفه أول عاصفة. فحين تتسع الفجوة بين التوقع والواقع، تنهار الأوهام واحداً تلو الآخر، ويحل محلها الإحباط والمرارة.

    وهناك بعدٌ آخر في هذه القضية لا يقل خطورة: غياب الوسطاء الحكماء. ففي الماضي، كانت الأسر تمتلك مرجعيات من كبارها، يطفئون نيران الخلاف قبل أن تتحول إلى رماد. اليوم، يعيش كل زوجين في جزيرة معزولة، لا مرجع ولا صوت عاقل يتدخل في الوقت المناسب، بينما الأصدقاء الافتراضيون يسكبون الزيت على النار بنصائح ساذجة أو مواقف متحيزة.

    إن ما جرى تلك الليلة ليس حادثة فردية، بل مرآة لمجتمعٍ يتآكل فيه المعنى الإنساني للزواج، وتتراجع فيه القيم أمام الانفعالات. وما لم نُربِّ أبناءنا على الحوار، على الصبر، على احترام الآخر، فسنظل نرى مزيدًا من الشرفات تُلقى منها المودة، ومزيدًا من البيوت تتحول إلى رمادٍ لأن أحدهم لم يحتمل كلمة أو موقفًا.

    لقد أصاب الدكتور أسامة حين ختم مقاله بدعوة صريحة إلى الرحمة حتى في لحظة الفراق، لأن الفراق في حد ذاته ليس عيباً، ولكن الطريقة التي يتم بها هي التي تكشف معدن الإنسان. فالطلاق قد يكون نهاية كريمة حين يصحبه تقدير واحترام، لكنه يتحول إلى مأساة حين يُستخدم سلاحاً للإهانة والانتقام. إن أعظم ما يميز الإنسان هو قدرته على كظم الغيظ، وحفظ الود حتى في الخلاف، لأن الكرامة لا تُستعاد بإذلال الآخر، بل بالتحكم في النفس.

    وختاماً، فإن حادثة سقوط المودة من الشرفة يجب أن تُقرأ كجرس إنذارٍ صادق، يدعونا لإعادة بناء منظومة القيم قبل أن يتداعى ما تبقى منها. نحن بحاجة إلى إيمانٍ يعيد للعلاقات معناها، وإلى وعيٍ يجعل من الزواج رحلة نضج لا مغامرة عاطفية، وإلى إعلامٍ ومؤسسات تربوية تُذكّر الناس بأن البيت ليس ساحة صراع، بل مدرسة لتعلّم الرحمة. حين نفهم ذلك، فقط يمكن أن نمنع سقوط المودة مرة أخرى — لا من الشرفات، بل من القلوب.

    إن المودة لا تسقط من الشرفات دفعةً واحدة، بل تتسرب بصمت حين يغيب الإصغاء، ويتلاشى الاحترام، ويُترك القلب وحيدًا في مواجهة الجفاء. وما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من القوانين، بل مزيدًا من الرحمة في البيوت، ومزيدًا من التربية على الصبر والرفق والتسامح. فالحياة الزوجية لا تُقاس بعدد السنوات، بل بقدرة كل طرف على أن يكون سترًا وسندًا للآخر. وحين نحفظ الكلمة الطيبة، ونصون الود ولو بعد الفراق، نكون قد أدّينا أسمى ما أراده الله من الزواج: أن يكون سكناً ورحمة، لا ميداناً للانتصار ولا ساحة للانتقام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى