تهديدات «المحو من الخريطة» بين بروكسل وموسكو

بقلم: د.أسامة بدير
أتابع التصاعد الخطابي بين بروكسل وموسكو بقلق غاضب لا يتحمل التجميل: تصريحات وزير الدفاع البلجيكي التي ذكرت أن «موسكو ستمحى من الخريطة» إذا ما تعرضت بروكسل لهجوم، لم تكن مجرد مزايدة إعلامية – بل قنينة بنزين تُلقى على لهيب توتر عالمي متصاعد. هذه الكلمات المروعة رُفعت بصوت رسمي من مسؤول في دولة عضو بالناتو، وهذا وحده يجعلها مادةً لا تُغتفر لدى أي عقلٍ مسؤول.
رد موسكو لم يتأخر، ومثلما توقعت، جاء بلغةٍ لا تقل حدة؛ تصريحات روسية متتالية أعادت التأكيد على أن التبادل الكلامي قد يتحول سريعا إلى مسار خطير من التصعيد. عندما يتحول الصراخ الكلامي بين قادة إلى تهديدات متبادلة، فإن الخاسر الأول والأخير هم المدنيون وحياة الملايين التي لا تُقاس بحسابات الزعماء.
أدين بشدة هذا اللعب بالنار. أمور مفصلية تُقررها تصريحات من هذا النوع: الاستنفار العسكري، تحريك قواعد، تكثيف الاعتماد على سيناريوهات الردع -كلها خطوات تُفقد العالم قدرته على التنفس. من يهرول ليقول «سنمحوهم» بدلاً من أن يطالب بمحاسبة حقيقية على جرائم أو انتهاكات، إنما يكشف عن احتقار أساسي لقيمة الحياة ولامبالاةٍ أخلاقية تجسد ازدواجية الضمير الدولي.
ولا يمكن فصل الحديث عن هذه اللغة النارية عن واقع أوسع: أجندات دول تُعلق شعارات حقوق الإنسان وتدون خطابات مهيبة، بينما تغض الطرف أو تبرر انتهاكات متواصلة في مناطق أخرى. هذا التباين ليس مجرد هفوة؛ إنه خيانة للمبادئ التي تُدعى الحضارة بواسطتها. إن كان الحق مقدسا، فهو كذلك لكل الضحايا بلا استثناء.
أطلب بفم غاضب تحويل هذا الهدر اللفظي إلى إجراءات ملموسة. بدلاً من تهديدات تُشعل وسائل الإعلام وتثير الرأي العام، نحتاج إلى: فتح تحقيقات دولية مستقلة، تفعيل الآليات القضائية الدولية، دعم فرق التوثيق الميداني، وفرض عقوبات ذكية تستهدف صانعي القرار المتورطين في ارتكاب انتهاكات. العدالة ليست شعارات تُرفع في المؤتمرات؛ العدالة أدوات تُطبق بلا محاباة.
لن أتسامح مع من يستخدم لغة «المحو من الخريطة» كأداة ردع أو كرسالة انتخابية. هذه لغة الجاهلية، لا لغة العصر؛ هي لغة تنتهك أبسط قواعد الأخلاق الدولية. أما من يرد بمثلها من الجانب الآخر فليس أفضل: كلاهما يلعبان دور الشرارة التي قد تشعل حريقا لا يفرق بين دول وشعوب.
موقفي واضح وحازم: أرفض العنف بشدة، وأرفض التهديدات، ولكني أطلب بشراسة العدالة والشفافية والمحاسبة. لا مناعة لأحد أمام القانون عندما تثبت تورطه في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. ذلك هو المسار الوحيد لوقف دوامة العنف الدائرة الآن، وإعادة الوسطية إلى السياسة الدولية.
أدعو المجتمع الدولي من نقاط قوة حقيقية: منظمات حقوقية، برلمانات، جامعات، وقوى مدنية – إلى أن يضعوا اليد في اليد لمطالبة بتحقيقات فورية وفاعلة. لا يسعنا أن نرضى بخطاباتٍ تحجب الحقيقة أو تُعوم السياسات التي تُنتج المجازر. كل صوت يطالب بالعدالة يضيق دائرة الإفلات من العقاب.
إنني أهاجم هذا الخطاب بحدة لأنني أخشى عاقبته على الأحياء، ولأنني أؤمن أن الردع الحقيقي يُبنى على قواعد وقضاء وعقاب لا على صرخات مروعة في وسائل الإعلام. دعوا التهديدات، ولتعملوا بالقانون؛ دعوا خطابات «المحو» جانبا، ولتعملوا على إرجاع الحقوق للضحايا. إن لم نفعل، فسنصبح جميعا شركاءً – بصمت أو بالكلام – في عالم فقد فيه القانون إنسانيته.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.
 
				 
					 
					 
					


يطرح مقال الدكتور أسامة بدير مقاربة دقيقة في لحظة سياسية حرجة، إذ يعيد التذكير بخطورة انزلاق الخطاب السياسي الدولي إلى مستوى التهديدات الوجودية، وما تحمله من تداعيات على الأمن العالمي والاستقرار الإقليمي. إن تصريح وزير الدفاع البلجيكي، الذي حمل عبارات تتجاوز حدود الردع إلى حدود الإبادة اللفظية، يمثل نموذجًا صارخًا لتراجع لغة الدبلوماسية أمام الانفعال السياسي، ويدق ناقوس الخطر بشأن هشاشة منظومة القيم التي يدّعي الغرب حمايتها.
ما يلفت النظر في طرح الدكتور بدير أنه لم يكتف بالإدانة الأخلاقية، بل دعا إلى تحويل الخطاب من دائرة التهديد إلى دائرة الفعل المؤسسي عبر أدوات القانون الدولي، وآليات العدالة، والتحقيقات المستقلة، بما يضمن أن تكون العدالة فعلًا لا شعارًا. هذه الرؤية تضع حدودًا واضحة بين لغة الدول المسؤولة ولغة التصعيد الأجوف التي تهدد السلم العالمي.
التحليل يعكس إدراكًا عميقًا لتشابك السياسة بالأخلاق، ولخطر ازدواجية المعايير في معالجة الانتهاكات الدولية؛ إذ لا يمكن للدول التي ترفع رايات حقوق الإنسان أن تمارس خطابًا يحمل روح الانتقام أو الإلغاء. في هذا السياق، يمثل موقف الكاتب نداءً عقلانيًا إلى إعادة الاعتبار للقانون الدولي كإطار ضابط للعلاقات بين الأمم، بدل تركها رهينة لخطابات استعراضية تُسهم في تفكيك النظام الدولي القائم على الردع المتوازن.
إن جوهر الرسالة التي يقدمها الدكتور بدير هو أن الردع الحقيقي لا يقوم على تهديدات الإبادة، بل على صلابة المؤسسات القانونية وقدرتها على تطبيق العدالة دون انتقائية. إنه صوت من داخل الضمير الإنساني العالمي، يذكّر بأن الأمن لا يُبنى على الخوف، بل على احترام القانون، وأن كل خطاب يتجاوز هذه القاعدة إنما يقرب العالم من حافة فوضى لا عودة منها.
-في النهاية، يبقى جوهر ما يدعو إليه الدكتور أسامة بدير هو استعادة الإنسان لمكانه في معادلة القوة. فالكلمات التي تُلقى في ساحات السياسة ليست مجرد عبارات عابرة، بل قد تكون شرارة تزهق بها أرواح وتُطمس بها مدن. العالم لا يحتاج إلى أصوات أعلى، بل إلى ضمائر أصدق، ولا إلى تهديدات تمحو الآخر، بل إلى سياسات تُنقذ الإنسان من جنون القوة. إن العدالة وحدها، حين تُطبق بعدل، قادرة على أن تُعيد للنظام الدولي توازنه، وللإنسانية ما تبقى من صورتها في مرآة التاريخ