الميكروبات الحيوية الدقيقة ودورها في الزراعة المستدامة وتحسين خصوبة التربة

إعداد أ.د.خالد فتحي سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات
في زمن تتزايد فيه التحديات البيئية وتشتد أزمة الغذاء، تبحث البشرية عن حلول طبيعية تُعيد للأرض خصوبتها وتوازنها، وتُخفف من أعباء الاعتماد المفرط على الأسمدة الكيميائية. وفي قلب هذه الجهود، تتقدّم الميكروبات الحيوية في التربة لتكون أمل الزراعة المستدامة، وأداة العالم في بناء نظام غذائي أكثر أمانًا وصحةً واستدامة.
الميكروبات الحيوية — أو الأسمدة الحيوية — هي كائنات دقيقة تعيش في التربة، منها البكتيريا والفطريات والطحالب الدقيقة، تعمل بشكل تكاملي مع جذور النباتات لتزويدها بالعناصر الغذائية الأساسية، وتحسين امتصاص الماء، ومقاومة الأمراض. إنها ببساطة «الجيش الخفي» الذي يحرث الأرض على المستوى المجهري، ويصنع الفرق بين تربة ميتة وتربة نابضة بالحياة.
استخدام عالمي متنامٍ
من شمال أوروبا إلى سهول آسيا، ومن السافانا الأفريقية إلى أراضي أمريكا الجنوبية، تمتد قصص النجاح في استخدام الميكروبات الحيوية لتغيير وجه الزراعة.
في أوروبا، أصبحت الأسمدة الحيوية جزءًا من السياسات الزراعية الحديثة، خاصة في الدول التي تتجه بقوة نحو الزراعة العضوية وتقليل الانبعاثات الكربونية. المزارعون هناك يخلطون الميكروبات مع البذور أو يضيفونها للتربة أثناء الزراعة لتحسين امتصاص العناصر الغذائية وتعزيز نمو الجذور. والنتائج واضحة: محاصيل أعلى جودة، وتربة أكثر خصوبة، وانخفاض ملحوظ في استخدام الأسمدة الكيميائية.
أما في آسيا، فقد كانت الريادة للهند والصين. في الهند، تُنتج مئات الشركات المحلية أنواعًا مختلفة من الأسمدة الحيوية التي تُستخدم في محاصيل الأرز والقمح والبقوليات. هذا التوجه لم يأتِ من فراغ؛ فالاستخدام المنتظم للميكروبات الحيوية أثبت أنه قادر على تقليل استهلاك الأسمدة الكيميائية بنسبة تصل إلى الثلث، مع الحفاظ على الإنتاجية، بل وتحسينها في بعض الحالات.
وفي الصين، تُستخدم الميكروبات الحيوية ضمن برامج الزراعة الذكية، حيث تُضاف إلى أنظمة الري الحديثة لتغذية النباتات بجرعات دقيقة من الميكروبات المفيدة.
في أفريقيا، بدأت دول القارة السمراء تنظر إلى هذه التكنولوجيا باعتبارها طوق نجاة لأراضيها المنهكة من الجفاف وتدهور الخصوبة. في كينيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا، ظهرت مبادرات محلية لإنتاج الأسمدة الحيوية من سلالات ميكروبية متأقلمة مع البيئة المحلية، وهو ما ساعد آلاف المزارعين على خفض التكاليف وتحسين خصوبة التربة دون الإضرار بالبيئة.
أما في أستراليا، حيث يعاني المزارعون من ندرة المياه وتدهور التربة في بعض المناطق، فقد أصبح استخدام الميكروبات الحيوية خطوة ضرورية لتحسين كفاءة امتصاص المياه وزيادة مرونة النباتات في مواجهة الجفاف.
وفي أمريكا الشمالية، يقود المزارعون وشركات التكنولوجيا الزراعية ثورة حقيقية في هذا المجال. الولايات المتحدة وكندا تحتلان موقع الريادة في إنتاج الأسمدة الحيوية المتقدمة، التي تُستخدم على نطاق واسع في الحبوب والخضروات والفواكه. بينما في أمريكا الجنوبية، وخاصة في البرازيل والأرجنتين، أصبحت الميكروبات الحيوية جزءًا من منظومة زراعة فول الصويا والذرة، حيث أثبتت التجارب أن إضافتها ترفع الإنتاج وتحافظ على صحة التربة على المدى الطويل.
وفي مصر، تتزايد المبادرات التي تهدف إلى نشر الوعي باستخدام الأسمدة الحيوية، خاصة في المشروعات الزراعية الكبرى والأراضي الجديدة. ومع سعي الدولة لتعظيم الاستفادة من كل قطرة ماء وتحسين خصوبة التربة، بدأت الميكروبات الحيوية تجد طريقها إلى الحقول المصرية. تُستخدم الآن في محاصيل الخضر والفاكهة والنخيل، لتحسين النمو وتقليل الملوحة وزيادة إنتاجية الفدان.
آلية الإنتاج والتطبيق
وراء هذا النجاح العالمي، تقف صناعة دقيقة ومتطورة. يبدأ إنتاج السماد الحيوي باختيار سلالات ميكروبية فعالة، مثل بكتيريا تثبيت النيتروجين أو فطريات إذابة الفوسفور، ثم تُزرع هذه الكائنات في مفاعلات خاصة داخل مختبرات معقّمة حتى تصل إلى تركيز معيّن من الخلايا الحية.
بعدها تُخلط الميكروبات مع مواد حاملة مثل الطين المعقم أو الفحم النباتي أو الجل الحيوي لتسهيل نقلها وتطبيقها في الحقول، ثم تُعبأ في عبوات سائلة أو بودرة.
عند الاستخدام، تُخلط الأسمدة الحيوية مع البذور قبل الزراعة، أو تُضاف إلى التربة أثناء الري، أو تُستخدم كمعاملة ورقية. وفي المحاصيل الحقلية، مثل القمح والذرة والبقوليات، تساعد الميكروبات على زيادة امتصاص النيتروجين والفوسفور، بينما في المحاصيل البستانية كالفاكهة والخضروات، تُحسن جودة الثمار ومحتواها الغذائي، وتزيد من مقاومة النباتات للأمراض.
فوائد بيئية واقتصادية
الميكروبات الحيوية ليست فقط بديلاً للأسمدة الكيميائية، بل هي منظومة متكاملة تعيد التوازن الطبيعي للتربة. فهي تُثبّت النيتروجين الجوي، وتُذيب الفوسفور غير القابل للذوبان، وتفرز مواد تُحفز نمو الجذور وتُحسّن بنية التربة. كما تُنتج بعض السلالات مضادات طبيعية تقي النباتات من الأمراض الفطرية والبكتيرية.
على المستوى البيئي، يُسهم استخدام الأسمدة الحيوية في تقليل تلوث المياه الجوفية بالنيترات والفوسفات، ويحد من انبعاث الغازات الضارة الناتجة عن الأسمدة الكيميائية. أما على المستوى الاقتصادي، فهي توفّر للمزارع جزءًا كبيرًا من تكلفة الأسمدة التقليدية، وتزيد من استدامة الإنتاج على المدى الطويل.
تحديات وآفاق مستقبلية
رغم النجاحات الكبيرة، لا يخلو هذا المجال من التحديات. فحساسية الميكروبات للحرارة والرطوبة، وصعوبة حفظها لفترات طويلة، من أبرز العقبات أمام انتشارها الواسع. كما أن وعي المزارعين بأهمية هذه التقنية لا يزال محدودًا في بعض الدول النامية. لكن مع تطور التكنولوجيا الحيوية وتحسّن تقنيات الحفظ.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.
 
				 
					 
					 
					


