المحور البيئي والطبيعي شراكة مع الأرض: لنصنع مستقبلاً بلا ندوب

بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
في المحور البيئي والطبيعي، تمثل التنمية المستدامة عقد شراكة بين الإنسان وكوكبه، التزامًا بحماية الأرض وإدارة مواردها بأمانة. فالبيئة ليست خلفية صامتة، بل قلب الحياة النابض: الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والتربة التي تمنحنا الغذاء، والغابات والبحار التي تحفظ توازن المناخ. حماية التنوع البيولوجي هنا دفاع عن شبكة الحياة، حيث لكل كائن، من أصغر الحشرات إلى أضخم الحيتان، دور في التوازن الدقيق. الحد من التلوث معركة يومية ضد سموم الهواء والماء والتربة، لأنها تهدد الحياة وتتسلل إلى غذائنا وأجسادنا.
أما إدارة الموارد المائية فهي توازن بين احتياجات البشر ودورة الحياة الطبيعية، خصوصًا في زمن الجفاف المتزايد. لكن البيئة تواجه تحديات وجودية: التغير المناخي يبدل الفصول ويرفع البحار، الجفاف يهدد الأمن الغذائي، التصحر يلتهم الأراضي الزراعية، وفقدان الغابات يسرّع الانهيار المناخي ويدمر الموائل. هذه ليست أزمات بعيدة، بل واقع يؤثر على حياتنا وأمننا.
ورغم الصورة القاتمة، تبقى الفرص قائمة: إعادة التشجير تستعيد الغطاء النباتي وتمتص الكربون، الطاقة النظيفة توفر بدائل شمسية ورياحًا ومياه بلا انبعاثات، والسياحة البيئية تحول حماية الطبيعة إلى مصدر دخل وفرص عمل.
المحور البيئي ليس فصلًا منفصلًا عن التنمية المستدامة، بل المسرح الذي تدور عليه أحداثها، فإذا انهار، سقطت معه كل الأدوار، وإذا حافظنا عليه، ضمنا استمرار القصة للأجيال القادمة.
حماية التنوع البيولوجي، الحد من التلوث، إدارة الموارد المائية.
حماية التنوع البيولوجي هي في جوهرها حماية شبكة الحياة التي يقوم عليها كوكبنا، فكل كائن حي، مهما بدا صغيرًا أو غير مهم، يلعب دورًا محددًا في حفظ التوازن البيئي. النحل الذي يلقح الأزهار، والطيور التي تنثر البذور، والكائنات الدقيقة التي تغذي التربة، كلها أجزاء من منظومة إذا انهار جزء منها، تداعت بقية الأجزاء مثل أحجار الدومينو. إن فقدان نوع واحد قد يبدو حدثًا معزولًا، لكنه في الحقيقة شرارة لسلسلة من الاضطرابات التي قد تصل إلى الإنسان نفسه.
أما الحد من التلوث، فهو أشبه بصد هجوم صامت ومستمر يشنه الإنسان على بيئته دون أن يشعر. فالتلوث لا يقتصر على دخان المصانع أو عوادم السيارات، بل يمتد إلى المواد الكيميائية التي تتسرب إلى مياهنا، والنفايات التي تتكدس في أراضينا، والضجيج الذي يخنق مدننا. كل ملوث يترك بصمته على صحتنا واقتصادنا ونسيج الحياة حولنا. مواجهته ليست خيارًا تجميليًا، بل ضرورة بقاء، لأن الهواء النقي والماء الصافي والتربة السليمة هي خطوط الدفاع الأولى عن حياتنا. وفي ما يتعلق بإدارة الموارد المائية، فهي توازن دقيق بين إرواء عطش البشر والحفاظ على شرايين الطبيعة. فالمياه ليست مجرد مورد اقتصادي، بل هي روح النظم البيئية؛ من الجداول الصغيرة التي تحتضن الكائنات المائية، إلى الأنهار التي تغذي السهول، والمياه الجوفية التي تمدنا في أوقات الجفاف. الإدارة الرشيدة للمياه تعني توزيعها بعدل، استخدامها بكفاءة، وحمايتها من التلوث والهدر، خاصة في ظل تغير المناخ وتزايد الضغوط السكانية.
لا يمكن فصل بقاء البشر عن بقاء البيئة.
لا يمكن فصل بقاء البشر عن بقاء البيئة، فهما وجهان لعملة واحدة وشريانان ينبضان في جسد كوكب واحد. الإنسان ليس كائنًا فوق الطبيعة ولا خارجها، بل هو ابنها الأول، يتغذى من خيراتها ويستنشق هواءها ويشرب ماءها ويجد مأواه في كنفها. كل قطرة ماء نشربها هي جزء من دورة طبيعية متكاملة، وكل نسمة هواء تدخل رئتينا هي ثمرة توازن دقيق بين الغابات والمحيطات والمناخ، وكل لقمة طعام نتناولها هي حصيلة تضافر الأرض والمطر والشمس والرياح في معادلة حياتية معقدة. لذا فإن استمرار البشرية مرهون بسلامة البيئة، وإذا انهار أحدهما تنهار معه قدرة الآخر على البقاء والاستمرار.
إن استنزاف الموارد بلا حدود أو تلويث الأنهار والبحار لا يشكل مجرد خطأ تكاليفه اقتصادية أو صحية، بل هو حكم مؤجل على الإنسان بالضعف والهلاك، لأن البيئة ليست مستودعًا لا ينضب بل نظام حيّ متكامل، أي خلل فيه ينعكس مباشرة على قدرتنا على العيش. حماية البيئة إذاً ليست رفاهية أخلاقية أو شعارًا دعائيًا، بل ضرورة وجودية تحمي حقنا في الحياة وتؤمّن للأجيال القادمة فرص العيش بكرامة. وهي كذلك دعوة لإعادة النظر في كل نشاط بشري، من استهلاكنا اليومي إلى سياساتنا الصناعية والزراعية والطاقة، لضمان أن يكون أثرنا على الكوكب أثرًا مستدامًا لا مدمرًا، وأن نحمي شبكة الحياة التي تربط كل الكائنات، فسلامتها يعكس مباشرة سلامة الإنسان ومصيره، ويصنع مستقبلاً يليق بالأجيال التي لم تولد بعد.
التغير المناخي، الجفاف، التصحر، فقدان الغابات
التحديات البيئية التي يواجهها الإنسان اليوم ليست مجرد ظواهر طبيعية عابرة، بل تحولات كبرى تنذر بأزمة كونية شاملة، تحمل في طياتها تحذيرات صارخة لكل من يتصور أن الأرض لا تعرف الحساب. فالتغير المناخي لم يعد مجرد فرضية أو توقع علمي، بل واقع يومي يظهر في الأعاصير العاتية التي تجرف المدن، والفيضانات المفاجئة التي تمحو القرى، ودرجات الحرارة غير المسبوقة التي تحرق المحاصيل وتجعل الحياة اليومية معركة للبقاء. الجفاف هو الوجه الصامت لهذه الأزمة، يزحف بهدوء لكنه بثبات على الأراضي الخصبة، يسرق كل قطرة ماء ويترك خلفه حقولًا متشققة وأفواهًا عطشى، لتصبح معيشة الإنسان ومصادر غذائه رهينة لهذه الكارثة الصامتة.
التصحر يمثل الامتداد المميت، حيث تتحول الواحات الخضراء والسهول الزراعية إلى أراضٍ قاحلة تفتقد أي قدرة على الإنتاج، وينهار معها توازن الأنظمة البيئية التي كانت توفر للإنسان الطعام والمأوى. أما فقدان الغابات، فهو الجرح العميق الذي يضرب صميم الحياة، فكل شجرة تسقط تعني تقلص قدرة الأرض على التنفس، وانهيار حصون التنوع البيولوجي، وفقدان الملاذ للكائنات الحية، بما فيها الإنسان، الذي يصبح جزءًا من دائرة الهلاك التي يفتعلها بنفسه.
كل هذه التحديات ليست معزولة، بل هي خيوط متشابكة في نسيج أزمة واحدة، أزمة تحذرنا بأن استمرار التجاهل أو البطء في التحرك سيقود البشرية إلى مستقبل مظلم يفتقر إلى الماء والهواء والغذاء والأمان، ويجعل الأرض مكانًا غير صالح للحياة، ويدفع الإنسان إلى مواجهة واقعٍ صارخ، حيث تصبح إدارة البيئة وحمايتها ليست خيارًا بل شرطًا للبقاء.
مشاريع إعادة التشجير، الطاقة النظيفة، السياحة البيئية.
الفرص التي تلوح في الأفق البيئي ليست مجرد مشاريع تقنية أو خطط اقتصادية، بل هي بوابات أمل تعيد رسم العلاقة بين الإنسان والطبيعة على أسس أكثر عدلًا وتوازنًا. فحين نتحدث عن إعادة التشجير، فإننا لا نتحدث فقط عن غرس أشجار جديدة في أرضٍ عارية، بل عن زرع حياة جديدة في قلب الكوكب، عن استعادة دورة المياه والهواء، وعن إعادة الطيور إلى أوطانها المفقودة. إن الغابة ليست مجرد خزان كربون أو مصدر خشب، بل هي ذاكرة كوكبية تحتضن تاريخ الأرض وصوتها العميق، وكل مشروع يعيد لها جزءًا من عافيتها هو استثمار في المستقبل نفسه. أما الطاقة النظيفة فهي ليست رفاهية عصرية ولا شعارًا للاستهلاك الأخضر، بل هي ثورة صامتة تُحرر الإنسان من سلاسل الوقود الأحفوري التي كبّلته بالاحتباس والدمار. الشمس والرياح والمياه تجود علينا بكرم متواصل، وكل محطة طاقة شمسية أو مزرعة رياح هي شهادة على أن البشرية قادرة أن تعيش مع الطبيعة لا ضدها. وفي السياحة البيئية يكمن بعدٌ آخر لا يقل عمقًا: أن يتحول السفر من مجرد استهلاك إلى تجربة تربط الإنسان بجمال الأرض وندرتها، فتعلّمه احترامها بدلًا من استنزافها.
فكل خطوة على أرض محمية طبيعية، وكل ليلة تُقضى في أحضان صحراء أو غابة، ليست متعة فردية فحسب، بل درس حيّ في معنى التوازن. هذه الفرص، إن أُحسن استثمارها، لا تعني فقط إنقاذ الكوكب من التدهور، بل إعادة تشكيل اقتصاد أخضر يضمن وظائف جديدة، ومجتمعات أكثر وعيًا، وحياة تسير بتناغم مع إيقاع الأرض بدلًا من كسره.
إنّ المحور البيئي والطبيعي ليس مجرد فصلٍ عابر في كتاب التنمية، بل هو صُلب الحكاية التي تربط الإنسان بكوكبه، وجسر النجاة الذي إن سقط، سقط معه الحلم الإنساني كله. فالشراكة مع الأرض ليست خيارًا ننتقيه كما ننتقي مشروعًا اقتصاديًا أو ثقافيًا، بل هي العقد الأول والأبدي بيننا وبين أصلنا، بين جسدٍ من تراب ونَفَسٍ من هواء وماءٍ هو الدم الجاري في عروق الحضارة. إنّنا إذ نغرس شجرة اليوم، ونستثمر في طاقة نظيفة، ونحمي غابة من الاحتطاب، إنما نكتب سطرًا في ذاكرة الغد ونصوغ إرثًا مشتركًا لأجيال لم تولد بعد.
وفي المقابل، فإن أي ندبة نتركها في صدر الكوكب، من غابة محترقة أو نهرٍ مسموم أو هواءٍ مشبّع بالدخان، إنما هي ندبة في صدورنا نحن، في رئاتنا وأعمار أطفالنا وأحلام مدننا. المستقبل الذي نصبو إليه لا يولد من الصراع مع الأرض، بل من المصالحة معها، ولا يتحقق بالقهر والاستنزاف، بل بالرحمة والحكمة والتوازن. ومن هنا، يصبح المحور البيئي دعوةً للوعي قبل أن يكون خطةً للتنمية، ويغدو مسؤولية جماعية قبل أن يكون قرارًا سياسيًا. فلتكن شراكتنا مع الأرض مشروعًا حضاريًا جامعًا، نصنع به مستقبلًا بلا ندوب، ونستحق أن يُقال عنّا يومًا إننا كنّا أبناء أوفياء، لا جلادين عابرين.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



