تقارير

الدريس.. العلف القديم الذي لا يزال يحتفظ بعرشه في مزارع مصر والعالم العربي

إعداد: أ.د.خالد فتحي سالم

أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بكلية التكنولوجيا الحيوية – جامعة مدينة السادات

على الرغم من التطور الهائل الذي شهده قطاع الأعلاف في المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين، وانتشار تقنيات حديثة مثل السيلاج والعلائق الجاهزة، فإن «الدريس» بقي العلف الأكثر ثباتًا واستقرارًا في معظم المزارع. فالمزارع العربي، مهما كانت إمكاناته، لا يزال يعتمد على الدريس كمكوّن أساسي في تغذية الأبقار والأغنام والماعز والجاموس، ولا تزال بالات الدريس الخضراء القاتمة تمثل مشهدًا مألوفًا في المخازن الريفية والساحات الزراعية.

ويأتي استمرار أهمية الدريس من كونه علفًا طبيعيًا بسيط التصنيع، مرتفع القيمة الغذائية، وقليل التكلفة مقارنة بالأعلاف المركزة. كما أنه يوفر الألياف الضرورية لصحة الكرش عند الحيوانات المجترة، ويمنحها طاقة متوسطة وبروتينًا بنسب جيدة، خصوصًا حين يُصنع من بقوليات غنية مثل البرسيم الحجازي.

في هذا المقال نسلّط الضوء على الطرق التقليدية والحديثة لإنتاج الدريس، والمحاصيل المستخدمة في صناعته، وأساليب حفظه، إضافة إلى قيمته الغذائية وفوائده للحيوانات المختلفة، في محاولة لرسم صورة شاملة عن هذا العلف الذي شكّل أحد أعمدة الأمن الغذائي لعقود طويلة في الوطن العربي.

الدريس… ما هو ولماذا يُعد علفًا مهمًا؟

الدريس هو العلف الأخضر الذي يتم تجفيفه تمامًا حتى تصل نسبة الرطوبة فيه إلى مستويات منخفضة تتراوح بين 12 و15%. وتهدف عملية التجفيف إلى وقف نشاط الإنزيمات المسببة للفساد ومنع نمو البكتيريا والفطريات، مع الحفاظ قدر الإمكان على القيمة الغذائية للنبات الأصلي.

ويُعد الدريس مصدرًا مهمًا للبروتين، وخاصة إذا كان مُنتجًا من البقوليات مثل البرسيم الحجازي. كما يوفر كمية كبيرة من الألياف التي تلعب دورًا لا يمكن الاستغناء عنه في تنشيط حركة الكرش وتحسين الهضم. ولهذا السبب يعتمد عليه مزارعو الأبقار الحلوب والعجول والأغنام بشكل أساسي، سواء كمصدر رئيسي للأعلاف الخشنة أو كمكمّل للنظام الغذائي اليومي.

المحاصيل المستخدمة في صناعة الدريس

تتنوع المحاصيل التي يمكن تحويلها إلى دريس، لكنها تتوزع في الغالب بين فئتين رئيسيتين:

أولًا: البقوليات عالية القيمة الغذائية

هذه الفئة هي الأفضل والأغنى، وتتميز بنسبة بروتين مرتفعة تصل إلى 18% في بعض الأنواع. ومن أشهرها:

  • البرسيم الحجازي (الفصة): الأكثر شيوعًا في الوطن العربي، وذو قيمة غذائية ممتازة.

  • البرسيم البلدي: مستخدم بكثرة في مصر والسودان.

  • الفول السوداني (الأوراق والسيقان).

  • البيقية والبقوليات العلفية الأخرى.

ثانيًا: الحشائش المرعية

وتتميز بأن نسبة البروتين فيها أقل من البقوليات، لكنها غنية بالألياف:

  • الراي جراس.

  • النجيل.

  • السورجم عند النمو الخضري.

  • حشائش المراعي الطبيعية.

ويختار المزارعون نوع المحصول تبعًا لتوفّره في منطقتهم ونوعية الحيوانات التي يرغبون في تغذيتها.

خطوات صناعة الدريس: رحلة من الحقل إلى البالة

تصنيع الدريس ليس عملية معقدة، لكنه يتطلب دقة في التوقيت وجودة في التجفيف، لأن أي خطأ بسيط قد يؤدي إلى تعفّن العلف أو فقدان نسبة كبيرة من قيمته الغذائية.

1 – مرحلة الحشّ

تُعد هذه الخطوة من أهم مراحل إنتاج الدريس؛ فالبرسيم يُفضّل حصاده عند بداية التزهير، لأن المحتوى الغذائي يكون في أعلى مستوياته، وتكون كمية الأوراق كبيرة. أما الحشائش المرعية فتُقطع عندما يبلغ طول النبات نحو 40–50 سم.

2 – التجفيف الشمسي

بعد الحشّ، يُنقل العلف إلى مساحات مفتوحة ويُفرَد على الأرض في صورة طبقة رقيقة.
وتستمر عملية التجفيف بين يومين وأربعة أيام، حسب درجة الحرارة والرطوبة، ويتم تقليب العشب عدة مرات يوميًا لضمان جفاف الأوراق والسيقان بالتساوي.
وتُعد هذه الخطوة حساسة؛ فالتجفيف الزائد يؤدي إلى تفتيت الأوراق وفقدانها، بينما يؤدي التجفيف الناقص إلى التعفن داخل البالات.

3 – الجمع والكبس

بمجرد التأكد من أن نسبة الرطوبة أصبحت مناسبة، يُجمع العلف ويُضغط في صورة بالات مربعة أو أسطوانية. وفي المزارع الصغيرة يُعبأ في أكياس بلاستيكية كبيرة، وهي طريقة اقتصادية لكنها تتطلب اهتمامًا أكبر بظروف التخزين.

4 – التخزين

تُخزَّن البالات داخل مخازن جافة تمامًا، جيدة التهوية، وبعيدة عن الأمطار والرطوبة.
ويُفضَّل رفعها عن الأرض باستخدام طبالي خشبية لتجنب انتقال الرطوبة إليها.

حفظ الدريس في الأكياس… حل مناسب للمزارع الصغيرة

يلجأ العديد من المزارعين الصغار إلى تخزين الدريس في أكياس قوية بدلًا من البالات التقليدية، خاصة إذا لم يمتلكوا معدات الكبس. وتتم العملية عبر:

  • التأكد التام من جفاف الدريس.

  • وضعه داخل أكياس بلاستيكية قوية وسميكة.

  • تفريغ الهواء قدر الإمكان قبل الغلق.

  • حفظ الأكياس في مكان مظلل وجاف.

وتُعد الرطوبة أكبر خطر على هذا النوع من التخزين، إذ إن دخول كمية بسيطة من الماء أو الهواء الرطب يؤدي إلى ظهور العفن.

الإضافات أثناء تصنيع الدريس: هل نحتاج إليها؟

بصورة عامة لا يحتاج الدريس إلى إضافات، لأن دوره الأساسي هو توفير الألياف، لكن بعض الإضافات تُستخدم عند التقديم للحيوانات وليس أثناء التصنيع، بهدف رفع القيمة الغذائية أو تحسين الشهية، مثل:

  • المولاس (العسل الأسود): يزيد الطاقة ويُرش بنسبة 2–5%.

  • الأملاح المعدنية والفيتامينات: تُضاف عند التغذية وليس أثناء التجفيف.

  • تبن القمح أو قش الشعير: يُخلط أحيانًا لزيادة الألياف.

ويحرص معظم المزارعين على تقديم الدريس كما هو دون إضافات، خاصة إذا كان من نوع جيد مثل دريس البرسيم الحجازي.

القيمة الغذائية للدريس

تختلف القيمة الغذائية حسب نوع النبات ومرحلة الحصاد، لكن بوجه عام يمكن تلخيص مكوناته كما يلي:

  • البروتين الخام:

    • في البقوليات: 14–18%.

    • في الحشائش: 8–12%.

  • الألياف الخام: 25–35%.

  • الطاقة المهضومة: متوسطة.

  • المعادن: كالسيوم، فوسفور، مغنيسيوم، بوتاسيوم.

  • الفيتامينات: A وE وK.

ويُعد الدريس أحد أفضل مصادر الألياف، وهو عنصر لا غنى عنه للحفاظ على صحة الكرش ومنع الاضطرابات الهضمية.

فوائد الدريس للحيوانات

يمثل الدريس حجر الأساس في نظم التغذية الحيوانية في العالم العربي، وذلك للأسباب التالية:

  • يُحسّن حركة الكرش والهضم بفضل محتواه المرتفع من الألياف.

  • يرفع إنتاج اللبن عند الأبقار والجاموس إذا قُدّم بنوعية جيدة.

  • يُحسّن شهية الحيوانات، خاصة العجول الصغيرة.

  • يقلل تكلفة التسمين لأنه بديل اقتصادي للأعلاف المركزة.

  • سهل التخزين والنقل مقارنة بالأعلاف الأخرى.

  • يمنع الحموضة التي تسببها العلائق الغنية بالنشويات.

  • يساهم في بناء جسم الحيوان بصورة صحية دون ترسيب دهون غير مرغوبة.

أي الحيوانات يمكن تغذيتها بالدريس؟

يصلح الدريس لتغذية جميع الحيوانات المجترة تقريبًا، وتشمل:

1 – الأبقار الحلوب
يُستخدم كمصدر أساسي للألياف ويساعد في زيادة دسم اللبن.

2 – عجول التسمين
يُحسّن الهضم ويقلل الاعتماد على الأعلاف المكلفة.

3 – الأغنام والماعز
مهم لتكوين الكرش وزيادة إنتاجية اللحوم والحليب.

4 – الجاموس
له نفس فوائد الدريس لدى الأبقار.

5 – الإبل
يمثل مصدرًا جيدًا للألياف والطاقة المتوسطة.

ملاحظة مهمة:
لا يجب تقديم الدريس المتعفن أو متأخر التجفيف للخيول، لأنه قد يسبب مشكلات تنفسية حادة.

كيفية تقديم الدريس للحيوانات

يُقدَّم الدريس غالبًا في بداية اليوم، لأنه يساعد على ضبط عمل الكرش قبل تناول الأعلاف المركزة.

الكميات اليومية التقريبية:

  • الأبقار الحلوب: 2–4 كجم.

  • عجول التسمين: 1.5–3 كجم.

  • الأغنام والماعز: 0.5–1 كجم.

  • الإبل: 3–6 كجم حسب الحجم.

ويجب تقديمه تدريجيًا عند أول مرة حتى تتأقلم الحيوانات عليه.

الدريس… ركن أساسي في الأمن الغذائي العربي

تواجه المنطقة العربية تحديات كبيرة في ملف الأعلاف بسبب غلاء الحبوب، وصعوبة الاستيراد، وتغير المناخ. وفي ظل هذه الظروف، يعود الدريس ليؤكد دوره كعلف اقتصادي وآمن ومستدام. فهو يعتمد على محاصيل محلية، ويمكن إنتاجه بسهولة دون آلات معقدة، ويمنح المزارع قدرة على تخزينه لفترات طويلة.
كما أن الاعتماد على الدريس يساعد في خفض الانبعاثات الناتجة عن صناعة الأعلاف المركبة الثقيلة، ويدعم المزارعين الصغار الذين يشكلون العمود الفقري للإنتاج الحيواني في العالم العربي.

الموجز المختصر

إن الدريس ليس مجرد علف يُجفف ويُخزن، بل هو منظومة متكاملة تدعم صحة الحيوان واقتصاد المزرعة في آنٍ واحد. فصناعته بسيطة، وتخزينه سهل، وقيمته الغذائية مرتفعة، وفوائده واضحة سواء في تحسين الإنتاج أو تقليل التكاليف. ومع استمرار التحديات الاقتصادية، سيظل الدريس واحدًا من أكثر الأعلاف قدرة على تحقيق التوازن بين الجودة والتكلفة والاستدامة.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى