تحقيقات

BBC: وفاة نهر النيل بعد سد النهضة الإثيوبي

كتب: أسامة بدير أكد تقرير لـBBC حمل عنوان “وفاة نهر النيل“، على عدة حقائق تاريخية أثبتت فيها أن النهر لم يعد كما كان بالنسبة لدول إثيوبيا والسودان ومصر، وأن معدلات التلوث والتصحر والإهدار باتت تهدد النهر.

وأشار التقرير، فى عدة مواضع إلى أن حياة البشر التى يزيد عددها عام بعد الاخر باتت مهددة لأسباب كثيرة منها ما هو مرتبط بـالتغيرات المناخية ومنها خاص بالصراع المسلح بين الدول الثلاث المحتل حدوث فى أى وقت، وسيكون النهر هو أرض المعركة.

ولفت التقرير الانتباه إلى وضعية النهر التى باتت بائسة بفعل سلوكيات السكان والحكومات.

وحذر التقرير، من أن القادم سيكون أسوء إذا ما استمرت الأوضاع فى التدهور خاصة بين مصر إثيوبيا، مستبعدا نشوب حرب بينهما بسبب سد النهضة رغم لجوء النظام المصرى إلى شراء كم كبير من الأسلحة خلال السنتين الاخرتين وتصاعد التصريحات الكلامية بين الحين والاخر بينمها.

ونقلا عن الـBBC ننشر نص التقرير..

الخلل يبدأ عند المنبع

منذ بدأ نهر النيل بالسريان، كانت الأمطار التي تهطل على الحبشة فى إثيوبيا التى تشكل الجزء الأعظم منه أى أكثر من 80% من مياهه.

كانت الأمطار التي تهطل على إثيوبيا بين شهري يوليو وسبتمبر من كل عام من الغزارة بمكان بحيث تحول الطرق في ذلك البلد الى مستنقعات لا يمكن تجاوزها.

نتيجة لهذه الأمطار، تتكون بحيرات صغيرة بسرعة البرق، محولة هضبة أمهارا الإثيوبية الى مجموعة من الجزر المعزولة التي تحيط بها المياه.

ولكن نهر النيل الأزرق، الذي يبدأ رحلته من غابة تقع الى الجنوب من بحيرة تانا، يستوعب هذه المياه ويتحول في هذا الموسم من جدول صغير الى نهر جبار.

أما نهر النيل الأبيض، الذي يتجاوز طوله طول النيل الأزرق، والذي تقع منابعه في بحيرة فيكتوريا في شرق افريقيا، والذي يندمج مع صنوه الأزرق في الخرطوم بالسودان ليكونان نهر النيل، فلا يشكل الا نسبة صغيرة من المياه التي تنساب شمالا نحو مصر.

ولكن الأمطار التي تغذي النيل الأزرق لا تسقط بالكميات التي كانت تسقط بها في الماضي، مما ينبئ بنتائج كارثية لحوض النيل بأسره.

فموسم “الميهير”، وهو موسم الأمطارالطويل الذي يقع في فصل الصيف، يتأخر قدومه بمرور السنين، كما توقف هطول الأمطار في أشهر الشتاء والربيع تماما.

يقول لاكيميريام يوهانس ووركو، المحاضر والاخصائي في شؤون المناخ في جامعة اربا مينش الإثيوبية، “هطول الأمطار يتميز بالتباين الآن الى حد بعيد، فهو أقوى في بعض الأحيان وأضعف في احيان أخرى، ولكنه مختلف عن الماضي في كل الأحوال.”

وعندما تهطل الأمطار، يكون ذلك من الشدة بحيث تجرف أكثر من مليار طن من الطمي الإثيوبي في نهر النيل كل عام مما يؤدي الى انسداد السدود وحرمان المزارعين من الطمي الذي يغذي أراضيهم ويزيدها خصوبة.

وكان لزيادة عدد السكان دورها الكبير في تعزيز هذه الظاهرة، فكلما يزداد عدد أفراد الأسر يقوم هؤلاء بقطع المزيد من الأشجار من أجل توفير المزيد من المساحات والحصول على المزيد من المواد الانشائية لبناء الدور وغيرها.

وبينما تضمحل المحاصيل الزراعية وترتفع أسعار المواد الغذائية، تزداد معاناة الكثيرين من المزارعين الذين كانوا يعتمدون تاريخيا على الامطار عوضا عن الأنهار لسقي محاصيلهم.

وبلغ الأمر بالعديد من هؤلاء الى هجر مهنة الزراعة نهائيا، حيث أجبروا على النزوح الى بلدة بيهار دار، كبرى بلدات منطقة النيل الأزرق التي تبعد عن العاصمة الإثيوبية النابضة أديس أبابا بتسع ساعات بالحافلة من أجل كسب قوتهم.

ولكن معظم القرويين فضلوا البقاء، والعيش على الكفاف بأمل أن تعود الأمطار الى الهطول كما كانت في سابق الأيام. قال لي أحد الكهنة إن حضور الناس الى الكنائس قد ازداد في الفترة الأخيرة.

ولكن عددا قليلا من هؤلاء المزارعين ضاقوا ذرعا بالموضوع بأسره، فقد سمعوا – حتى في قراهم النائية التي تفتقر الى التلفزيونات والطاقة الكهربائية – بإمكانية الحصول على حياة افضل في أوروبا.

على سبيل المثال، يفكر جيتيش آدامو، الفتى ذوالـ 17 عاما من دانغلا القريبة من منبع النيل الأزرق، والذي ترك مقاعد الدراسة وباع دراجته من أجل شراء البذور لأسرته، بالمخاطرة في عبور الصحارى والتوجه الى البحر المتوسط بغية الوصول الى أوروبا.

قال آدامو، “لم اتخذ قرارا بعد، فأنا أفضل البقاء مع أسرتي، ولكن اذا استمر شح الأمطار على هذا المنوال، لن اتمكن من البقاء.” واذا استمرت الأمطار بين مد وجزر لن يتمكن العديدون من أمثاله البقاء في اراضي آبائهم وأجدادهم.

صراع السدود

كلما سار نهر النيل شمالا كلما زادت المشاكل المحيطة به خساسة.

فعلى مسافة 30 ميلا من منبعه في بحيرة تانا، ينحدر النهر انحدارا شديدا في شلالات النيل الأزرق العظيمة قبل أن يمر في شبكة واسعة من الوديان التي تشرف عليها قمم عالية.

يزداد النهر قوة وجبروت بانضمام الروافد اليه، وينحدر بعمق 1500 مترا من الهضاب التي نبع فيها الى السهول الجافة. تعد هذه اجمل مناطق حوض النيل وأكثرها عزلة وربما أكثرها مشاكلا.

السبب في ذلك أن المناطق الغربية من إثيوبيا الخالية تقريبا من السكان تكتنفها الصراعات المحلية والدولية في آن.

تخيم على المنطقة غمامة من التوتر وعدم الاستقرار لأسباب عدة على رأسها تشييد أكبر سد في القارة الافريقية على مجرى النيل قرب الحدود مع السودان وقيام الحكومة الإثيوبية – حسب ما يقال – بترحيل عشرات الآلاف من القرويين من أجل تأجير اراضيهم لشركات الزراعة الأجنبية.

مجرد محاولة القيام باجراء تحقيق صحفي هناك يعني التعامل مع شبكة معقدة من نقاط التفتيش والمخبرين والناس العاديين الذين يخشون البوح بآرائهم بحرية.

قال لي طاه في مطعم في بلدة إينجيبيرا يدعى صمؤيل – وكان الخوف باديا عليه – عندما سألته عن قيام الحكومة بالاستيلاء على أراض زراعية مجاورة ، “عليك أن تفهم أن هناك مواضيع لا يمكننا التحدث عنها. فهذه اسئلة قد تسبب لك مشاكل.”

لم يكن صمؤيل مبالغا فيما قال. فبعد أيام فقط من ذلك اللقاء، داهمت قوات الأمن الإثيوبية غرفتي في الفندق الذي كنت أقيم فيه، وصادرت التسجيلات التي كنت قد قمت بها (اضافة الى كمية من الحلويات التي كانت بحوزتي).

وفي مناسبة أخرى، منعتني قوات الأمن من الوصول الى مناطق كانت قد صادرت الحكومة أراض فيها قرب تشاغني.

ولكن، وفي خضم كل هذه المشاكل والقضايا الشائكة، تبرز قضية السد – الذي يطلق عليه اسم سد النهضة الإثيوبية العظيم – بوصفها أهم القضايا التي تؤجج مخاوف وتذكي آمال المنطقة في آن واحد.

ينظر الكثير من الإثيوبيين الى السد – الذي يزيد طوله عن الميل وبامكانه توليد 7 غيغاواط من الطاقة الكهربائية – على أنه رمز ملموس لتعافي بلادهم من الذل الذي عانت منه ابان مجاعات الثمانينيات والتسعينيات.

تزخر شوارع إثيوبيا بلافتات عليها صور سياسيين تبشر بقدرة السد على توفير الطاقة الكهربائية للملايين. ويهتف تلاميذ المدارس في إثيوبيا قائلين “هذا هو قدرنا.” وينتظر العديدون في غربي إثيوبيا بشغف اشتغال جارهم الجديد، سد النهضة.

ولكن بالنسبة لمصر، البلد الذي تطغى الصحارى على معظم مساحته، ولا تهطل عليه الا القليل من الأمطار، والذي يعتمد بالتالي على النيل لأكثر من 95% من احتياجاته المائية، ينظر الى سد النهضة وامكانية أني ؤدي الى خفض منسوب النهر بوصفه خطرا وجوديا.

تنص اتفاقية وقعت عام 1959 على ان مياه النيل يجب ان تكون من حصة مصر والسودان حصرا، ولكن دولا أخرى كـإثيوبيا وغيرها من الدول الافريقية المشاطئة تطعن في شرعية ذلك الاتفاق قائلة إنه أبرم ابان الحقبة الاستعمارية التي لم يكن فيها للدول الافريقية رأي في أمورها الداخلية.

من جانبها، تهدد القاهرة باعلان الحرب حول الموضوع، كما يتبادل طرفا النزاع التهديدات.

خلاصة الأمر أنه لو نشب نزاع اقليم يحول الموارد المائية، سيكون نهر النيل وواديه الأخضر الجميل في قلب ذلك النزاع.

قال لي ضابط بحري إثيوبي، يدعى موسى في بلدة بحر دار المطلة على النيل الأزرق، “النهر يبدو هادئا، أليس كذلك؟ ولكننا نعلم أننا نقيم عند الجبهة الأمامية. فهنا توجد المياه والسد وأفضل الاراضي الزراعية.”

رغم خسارتها لمنافذها البحرية عند انفصال ارتيريا عنها في عام 1991، احتفظت إثيوبيا بمنشأة بحرية في بحيرة تانا.

يقول موسى، “قد نحتاجها في المستقبل” دون أن يتطرق الى التفاصيل.

وبالنسبة للمسافرين على نهر النيل، مثلت الخرطوم دائما مرفأ ضروريا ورمزيا في آن.

ففي الخرطوم، ملتقى نهري النيل الأبيض والنيل الأزرق، يتخذ هذا النهر شكله الهادئ الوديع والواسع والمعروف. فبعد أكثر من ألف ميل من الفرقة بينهما، لا يسع للمرء الا ان يتعرف بشكل جلي على مميزات كل من الرافدين الجلية.

فـالنيل الأزرق الجرار ذو اللون البني جراء الأمطار التي هطلت في إثيوبيا، يقتحم بقوة مكان التقاء الرافدين، ويطغى لأميال على نظيره الأبيض الهادئ الذي يتسم بشيء من الصفرة. وفي موسم الجفاف، يجري النهران احدهما الى جانب الآخر فيما يصفه بعض سكان الخرطوم بأنها “أطول قبلة في التاريخ.”

ولكن الحقيقة الآن لا تعكس هذه الرومانسية بأي حال من الأحوال. ففي الخرطوم، أول مدينة كبرى تعانق النيل، تبدأ نوعية مياه النهر بالتدهور.

فـالخرطوم تلقي بمياهها القذرة في النيل لحظة وصوله اليها. وفي الخرطوم يبدأ النيل بالتعرف على الذي ستعني زيادة السكان بالنسبة لعافيته.

ففي مصر، ارتفع عدد السكان اربع مرات منذ عام 1960 بحيث بلغ اليوم 104 ملايين نسمة (حسب أرقام الحكومة المصرية)، أما إثيوبيا فيزيد عدد سكانها بمعدل 2,5 مليونا في العام.

وتشير التقديرات الى أن عدد سكان وادي النيل سيتضاعف ويبلغ 500 مليون نسمة بحلول عام 2050.

وبينما تصارع حكومات المنطقة من أجل الوفاء بمتطلبات مواطنيها الجدد، يقع الكثير من ذلك على عاتق النيل.

يقول يوسف أبو قرون، وهو مهندس في الخرطوم يمارس صيد السمك في أوقات فراغه والذي لا تكاد غلته من السمك أن تبلغ 10% مما كانت قبل عشر سنوات، “لقد تعاملنا مع النيل بشكل سيء منذ الأزل، فقد اعتقدنا دائما أنه من الكبر بحيث يمكن أن يفي بكل حاجاتنا. ولكن يبدو أن عددنا قد زاد عن ذلك الآن.”

المشاكل التي تعاني منها الخرطوم فيما يتعلق بـالنيل ليست محددة بها بل تعكس المشاكل التي تعاني منها الكثير من المدن الواقعة على هذا النهر والتي تشهد نموا كبيرا في عدد السكان. ففي الخرطوم، لم يتم توسيع شبكة الصرف الصحي في العقود الأخيرة بينما توسعت المدينة توسعا كبيرا.

نتيجة غياب مرافق التعامل مع الأزبال والفضلات، اضطرت الشركات والمصالح والمصانع على ايجاد بدائل أخرى لذلك إذ عمدت الى رمي القاذورات والفضلات – من المخلفات السامة لمصانع الأعتدة الى الفضلات الحيوانية لسوق العاج – في مياه النيل الملوثة أصلا بالمواد الكيمياوية.

وفي السودان تحديدا، أدت حملة القمع التي شنتها الحكومة على منظمات المجتمع المدني الى تفاقم الأزمة التي تواجه نهر النيل. ففي عام 2014، سجنت الحكومة السودانية زعماء جماعة متخصصة بحماية حقوق المستهلكين بعد ان تمادى هؤلاء في مطالبهم، مما أدى ببقية المداعين لحماية البيئة الى تخفيف ضغوطهم من أجل ملاحقة أسوأ الملوثين.

قال معتصم بشير نمر، من الجمعية السودانية لحماية البيئة عندما التقينا به في مقر الجمعية المتواضع في الخرطوم، “نحن ننشط في مجال المطالبة بما نؤمن به، وقد نلجأ للقضاء للشكوى من بعض قرارات الحكومة، ولكن علينا توخي الحذر. فنحن نحاول البقاء.”

غزو الصحراء

كل هذا قبل أن نأخذ بنظر الاعتبار ظاهرة التصحر.

فـالنيل في مسيره شمالا عبر الصحراء السودانية يتخذ له نغما هادئا نعسانا.

يمر النهر أمام أهرام البجراوية – التي لايكاد يزورها أي سائحين – ومن ثم الى سد مروي. ويصل النهر بعد تجاوزه الشلال الرابع الى بلدة كريمة التي تعد أحر البلدات الواقعة على النيل.

ولكن المزارعين في هذه المنطقة الذين يعملون في ظروف تكاد تكون مصممة للقضاء على أي محصول تعلموا كيفية التأقلم مع كل ما يمكن للبشر أو الطبيعة أن يرميان عليهم.

فرغم تجاوز الحرارة 45 درجة مئوية – وهو أمر اعتيادي في هذه المنطقة عند الظهر – يواظب هؤلاء المزارعون على العناية بغللهم التي تحميها مظلة من الأشجار زرعها سكان المنطقة لأجل ذلك فحسب.

وعندما ينقطع التيار الكهربائي، وهو أمر كثير الحصول خصوصا بعد تعطلت توربينات سدي الروصيرص وسنار نتيجة الطمي الذي يجلبه النهر، يلجأ المزارعون الى استخدام المولدات التي تعمل بزيت الغاز (الديزل) من أجل تشغيل المضخات التي تروي محاصيلهم.

كان هؤلاء يجدون حلولا لكل المشاكل التي تواجههم، ولكن الأمر تغير الآن.

السبب في ذلك أن الصحراء بدأت بالتمدد في الشريط الضيق – الذي لا يكاد عرضه يتجاوز 150 مترا – الذي يمكن أن يستخدم للزراعة بسرعة غير مسبوقة. فالرمال تتمدد في هذا الشريط ليلا ونهارا، ولم تعد الأساليب التقليدية لمحاربة هذا التمدد، كزراعة الاشجار ذات الجذور العميقة واقامة السياجات حول المحاصيل، ذات جدوى.

وتبتلع الصحراء المزارع المحصورة بين الرمال والنهر الأزرق الجبار.

يقول المزارع عثمان عبدالمعطي، بشيء من المزاح، وهو يطلعنا على الكثبان الرملية التي تهدد بابتلاع حقل الحنطة العائد له والواقع في ظلال جبل بركال قرب بلدة كريمة “اذا أطلعوا وزير البيئة على خارطة للمنطقة، لن يتمكن من التعرف على أي شيء فيها. إن الأراضي المنتجة تختفي شيئا فشيئا.”

يبدو أن التصحر يعود لظاهرة التغير المناخي، وهو أمر يحدث على طول وادي النيل.

فقد تمددت الصحراء بمسافة 120 كيلومترا في الأحراش الواقعة الى الجنوب من الخرطوم في السنوات الـ 30 الأخيرة، حسبما يقول برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة. كما تستمر درجات الحرارة بالارتفاع بشكل ملفت، مما يزيد من نسبة التبخر في النيل.

ولكن في شمالي السودان، وصل الموقف الى درجة حرجة جدا نظرا لأن الكثير من المزارعين الشباب الذين يعتمد عليهم لدرء هجوم الصحراء قد أغوتهم الوعود بثروات كبيرة في العمل في مناجم الذهب الموجودة في المنطقة.

للتعويض عن هؤلاء، يعمد بعض من مالكي الأراضي الزراعية الى تشغيل مهاجرين من إثيوبيا وأرتيريا واقليم دارفور وكلهم يريدون تحصيل بعض الأموال اثناء هجرتهم الى الشمال. ولكن آخرين من مالكي الأراضي استسلموا للأمر الواقع وهجروا مزارعهم ولجأوا الى المدن. وهذه ظاهرة خطيرة بالنسبة لبلد فقير ينفق الكثير من موارده المحدودة في استيراد الحنطة من الخارج.

وكما هو الحال مع المزارعين الأثيوبيين، يشكك المزارعون السودانيون الذين آثروا البقاء في أراضيهم في جدوى ذلك. يقول المزارع عواد حوران، الذي يزرع المانجو وقصب السكر والنخيل والبطيخ في حقل لا تتجاوز مساحته دونم ونصف على ضفاف النيل شمالي السودان، “في الماضي كان الصيف صيفا والشتاء شتاءا. أما الآن فالأمر اختلط تماما.”

ومضى قائلا، “من العسير المضي في النشاط الزراعي عندما يتضافر الطقس والصحراء ضدك.”

البحر المسمم

فما الذي سيحدث الآن؟ وهل هناك امكانية في أن يؤدي وضع النيل المزري الى اندلاع حروب في المنطقة؟

عندما يصل النيل الى القاهرة، يكون من القذارة بمكان.

إذ أن جانبيه مليئان بالقاذورات، ومياهه سميكة القوام وزاخرة بالسموم. ويشكو المزارعون من شح المياه في دلتا النيل الشمالية حيث تمنع قنوات الري المليئة بالطمي جريان المياه الى المزارع.

يبدو الموقف بالنسبة للمسؤولين في القاهرة تصويرا كالحا لمستقبل مصر فيما يخص المياه.

يقول علي المنوفي، المسؤول في وزارة الموارد المائية المصرية، “يمثل النيل كل شيء بالنسبة لنا، من شراب وطعام. ستكون كارثة لو حصل شيء له.”

كانت نبرة الخطاب التي اتسمت بها العلاقات بين الدول المشاطئة لـنهر النيل في السنوات الأخيرة انعكاسا لهذه المخاطر.

كان مسؤول في احدى الأنظمة المصرية السابقة قد دعا في عام 2013 الى ضرب سد النهضة، مما أدى الى ردود غاضبة من جانب وسائل الاعلام الرسمية في أديس أبابا.

وفيما يتكامل العمل في تشييد السد الإثيوبي، تعكف السلطات المصرية على تعزيز قدرات البلاد الإستراتيجية. فقد اشترى المصريون مؤخرا سفينتين حربيتين فرنسيتين من فصيلة “ميسترال” لهما القدرة على ضرب الأهداف البعيدة، وذلك في خطوة يقول محللون إنها تهدف – جزئيا على الأقل – الى إيصال رسالة الى إثيوبيا.

رد أحمد أبوزيد، الناطق باسم وزارة الخارجية المصرية والمفاوض السابق في شؤون النيل، على سؤال حول ما اذا كان الحل العسكري مازال مطروحا بالقول، “كل الخيارات مطروحة.”

ولكن السياق التاريخي يشير الى ان الدول المشاطئة لـوادي النيل لن تلجأ للخيار العسكري في المستقبل المنظور. فهناك سوابق عديدة تم حل النزاعات المائية فيها بشكل سلمي، وثمة مؤشرات الى أن مصر بدأت بالإقرار بحتمية وجود سد النهضة.

ولكن السرية التامة التي تمارسها إثيوبيا حول النتائج المترتبة على تشغيل سد النهضة ما زالت تشكل عقبة كأداء، كما تشكل عقبة أيضا المفاوضات الدائرة حول الوقت الذي سيستغرقه ملء خزان السد الكبير.

في غضون ذلك، ما زالت الحرب الكلامية بين الجانبين تتصاعد بأشكال غير مستساغة.

إذ يقول لاجئو الأورومو الإثيوبيون في مصر إن حالات المضايقة التي يتعرضون لها تزداد كلما يتصدر موضوع سد النهضة الأنباء. ومن جانب آخر، عمدت بعض الأديرة الإثيوبية، بما فيها الكنائس الواقعة في بحيرة تانا، والتي تمتعت تاريخيا بعلاقات وطيدة مع الأقباط المصريين، الى قطع علاقاتها مع هؤلاء وطرد الكهنة المصريين.

وفي وقت تقوم فيه السلطات السودانية بتأجير ملايين الدونمات من الأراضي الزراعية على ضفاف النيل لشركات خليجية (فقد أجرت 2,5 مليون دونم على الأقل لدولة الإمارات) يبدو أن الكثير من المشاكل ما زالت تقف في طريق أي تقدم.

قال جيبري ميخائيل مانغيستو، وهو طالب إثيوبي التقيت به في بحر دار، ملخصا مصدر التوترات “اذا فكرت مليا بالأمر، فنحن نزداد عددا بينما يبقى النهر على حاله. إن الوصول الى هذه الحالة كان أمرا مفروغا منه.”

ولكن يبقى من النيل كم كاف ليؤدي به الى نهاية بائسة.

فبالنسبة لصيادي السمك الذين يعملون بالقرب من رشيد، مصب الفرع الغربي من النيل في البحر المتوسط، يعد وضع النهر المزري كارثة حقيقية لحياتهم ومعيشتهم.

فقد قضي على الكم الأكبر من الأسماك التي كانوا يعتمدون عليها، أما الأسماك التي يتمكنون من اصطيادها فلا تسر الناظر ولايمكنهم تناولها في أغلب الأحيان. وفي حقيقة الأمر، فإن المياه في المسار النهائي للنيل مسممة الى حد لا تتمكن فيه الا القليل من المخلوقات أن تبقى على قيد الحياة كما يقول الصيادون.

يقول أحد هؤلاء ويدعى خميس وهو يرتب شباكه قرب القلعة التي اكتشف فيها حجر رشيد، “كنا نعبد النيل، ولكن الآن لا نريد أن تكون لنا أي علاقة به. نتبع جميعنا نفس الاسلوب: ابتعد عن النهر قدر المستطاع.”

نتيجة ظروف الصيد التي تزداد صعوبة وعسرا، وبالمنافسة من جانب المزارعين اليائسين الذين تحولوا الى صيد الأسماك، لجأ بعض الصيادين الى الجريمة.

خذوا على سبيل المثال محمد، وهو صياد سمك من رشيد. فقد نقل محمد هذا مهاجرين ولاجئين الى أوروبا، وتعرض نتيجة لذلك للاعتقال مرتين بالكاد.

ولكن ذلك لن يثنيه كما يقول، خصوصا وان النيل لم يعد مصدر دخل مربحا ووجود أناس من حوض النهر مستعدين لدفع أموال أكثر بكثير مما قد يحصل عليه من الصيد.

قال، “أفضل أن أحصل على لقمة عيشي من النيل، كما فعل أبي وجدي، ولكن هذا لم يعد ممكنا.”

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى