رأى

يا وابور قولي رايح على فين!

هيثم خيري

بقلم: هيثم خيري

لا حديث بين أهل القاهرة حتى كفر الزيات هذه الأيام إلا ظهور الاختراع العجيب المسمى بـالقطار، أو “الوابور”. مؤكد أنه يبث الرعب في نفوس الصبية، يثير الهواء حوله فيعصف بالمزروعات والخوص والبوص حول شريط السكة الحديد. يلهب خيال “العيال” المغامرين بركوبه يوما ما. يهز البيوت القريبة من القضبان فيسبب إزعاجا هائلا للناس.

والناس ويتساءلون: ما جدوى هذا المشروع الغريب، الذي صرف عليه الخديو عباس من قوت الفلاحين 56 ألف جنيه إنجليزي، بينما ينهبهم الخديو نهبا منظما في أراضيهم، ويبخس بمحاصيلهم الأرض، ولا يكاد يبالي بأمر الترع والمحاصيل، بعكس جده محمد علي الذي كان يزن قراراته معهم بميزان من ذهب!

طالما أن هذا هو الواقع، فالحديث يدور الآن عن العام 1854، حيث بدأت مصر لتوها تشغيل أول خط للسكة الحديد في أفريقيا والشرق الأوسط، وثاني أول خط على الإطلاق على مستوى العالم بعد بريطانيا العظمى.. ومؤسس الخط ليس مهندس صغير الشأن، إنما هو روبرت ستيفنسن بنفسه، نجل جورج ستيفنسن مخترع القطار الحديد.

من ثاني أقدم خط للسكة الحديد في العالم إلى واحد من أسوأ الخطوط عالميا مسافة شاسعة، سأسعى ما أمكنني إلى قطعها معكم في السطور التالية..

نقل البريد والمسافرين

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عرضت الحكومة الإنجليزية على الباب العالي العثماني بمد خط للسكة الحديد في مصر لتسهيل وتسريع نقل البريد والمسافرين بين أوروبا، خاصة إنجلترا، وبين الهند التي كانت تعتبر كبرى مستعمرات إنجلترا في المشرق، فكانت المواصلات بين أوروبا والهند تمر عن طريق مصر. تأتي السفن من أوروبا إلى ميناء الإسكندرية محملة بالمسافرين، ثم ينتقلون برا إلى القاهرة، ومنها إلى ميناء السويس، لتسير عبر البحر الأحمر ثم المحيط الهندي لتصل إلى الهند في رحلة شاقة للغاية.

وفي عام 1834، وقع محمد علي باشا عقد إنشاء خط حديدي يبدأ من سراي القبة وينتهي عند السويس، وفي العام التالي مباشرة، وصلت مهمات وقاطرات هذا الخط إلى ميناء الإسكندرية، ولكن توقف المشروع فجأة، حيث خشي الرجل الداهية من خطر زيادة النفوذ الأجنبي بعد العرض الفرنسي آنذاك لحفر قناة السويس، فصرف النظر عن مشروع السكة الحديد.

بريطانيا تجدد عرضها

حكم “عباس” مصر 6 سنوات ونصف فقط، وبعد توليه الحكم بثلاثة أعوام جددت الحكومة البريطانية عليه عرضا سخيا بإنشاء ثاني خط للسكة الحديد على مستوى العالم سنة 1851 فقبل فورا ووقع على عقد بإنشاء خط حديدي يربط بين القاهرة والإسكندرية بطول 209 كيلومترات.. وربما يكون هذا الخط هو أكبر وأهم إنجاز جرى في عصره.

كان عباس هذا غريب الأطوار، كثير التطير ويؤمن بالفأل السيء ويخشاه، يميل إلى القسوة ويسيء الظن بمن حوله، عاش منعزلا عن الشعب والمستشرقين والأجانب الذين كانوا يزورون مصر، محتجبا بين جدران قصوره، مشغولا بتشييدها بطريقة تثير الدهشة والسخرية، حتى إنه بنى قصرا ضخما للغاية، موغلا في صحراء “الريدانية”، والتي ستصبح فيما بعد العباسية، أحد أشهر أحياء القاهرة وسميت فيما بعد باسمه.. بنى القصر بصورة شديدة الفخامة والعظمة حتى إن نوافذه بلغت 2000 نافذة، كما بنى لنفسه قصرا نائيا آخر في الدار البيضاء الواقعة على طريق السويس، كما بنى قصرا في بنها على ضفاف النيل بعيدا عن المدينة، وهو بالمناسبة القصر الذي سيقتل فيه! وانتشرت الجاسوسية في عصره فصار الرجل يخشى على نفسه من صاحبه أو زميله!

وبما أن المشهور عن عباس الأول أنه عامل القطر المصري كأنه بلد فتحه بحد السيف، فمن البديهي أنه لم يكن ينتظر منه الالتفات إلى ما يعود على أهله وساكنيه بالرفاهية والخير، على حد قول إلياس الإيوبي في كتابه “تاريخ الخديو إسماعيل”.

ويمضى الكاتب فيقول: استمر الفلاح المصري مقيما على أطيان لا يملك منها شيئا، واستمر يزرع وينمي ما لا نصيب له في اختياره، ويجني محصولا لا يستطيع التصرف فيه، ولما رأى أن الحكومة أصبح ينقصها كثير من الحكمة والرأفة، وأن الخديو عباس غير مشتغل في شأن من الشؤون العامة، اللهم إلا في إحلال الجنود الألبانيين غيرهم من الأتراك محل الجنود المصريين، وتسليحهم بمسدسات أمريكية، كأن الشر المندلع من طبنجاتهم لا يكفي لإلقاء الرعب في القلوب، ورأى أن مشروع مد سكة حديدية بين مصر والإسكندرية لم ينفذ إلا رغم إرادة الجميع، أخذت عنايته بالحقول تقل، وبات الخراب يهدد الزراعة المصرية كلها.

حكم سعيد

بعد مقتل عباس، جاء سعيد باشا ليحكم مصر، وأراد أن يتمم مد السكة الحديدية بين مصر والإسكندرية، فانتهى منها في يناير من عام 1856، ثم بدأ في إنشاء خط آخر بين القاهرة والسويس، وانشغل فكره في الإصلاحات التي عزم على إدخالها في حكومة السودان، وفي الامتياز الذي منحه المسيو ديلسبس لأجل حفر قناة السويس، ثم في عقد القرض الذي أورث من بعده عبأه الشديد، وداهمه المرض بطريقة هدمت بناء جسمه الشديد.

ثم بدأ إنشاء خط القاهرة بورسعيد بعد عامين آخرين، ولم يشرع في إنشاء خط حديدي في صعيد مصر إلا في عام 1887، وفي عهد الخديو إسماعيل تم إصلاح أحوال السكة الحديد، وبذل الرجل جهدا ضخما لمدها في أنحاء القطر المصري، لنشر العمران وتسهيل حركة التجارة والانتقال بين مختلف المحافظات والكفور.

ارتقى إسماعيل عرش مصر، ولم يكن فيها إلا الخط الحديدي الواصل بين الإسكندرية ومصر، وطوله 130 ميلا، والخط الواصل بين بنها والزقازيق وطوله 24 ميلا، والخط الواصل بين مصر والسويس عن طريق بلبيس وطوله 90 ميلا، أي كان مجموعها 204 ميلا.

زاد إسماعيل على ذلك أكثر من 1100 ميل، فأنشأ الخطوط من بولاق إلى إيتاي البارود، ومن الإسكندرية إلى رشيد، ومن طنطا إلى دسوق وإلى زفتى ودمياط وشبين الكوم، ومن الزقازيق إلى المنصورة، ومن بينها إلى ميت بره، ومن قليوب إلى القناطر، ومن الزقازيق إلى الإسماعيلية والسويس على محاذاة الترعة البحرية، ومن أبو كبير إلى الصالحية، ومن مصر إلى حلوان والمرج، ومن بولاق الدكرور إلى أسيوط، ومن الواسطى إلى الفيوم، ومن أسوان إلى الشلال. وتكلف إنشاء تلك الخطوط وقتها تجاوز 13 مليون جنيه.

تسيب وفوضى!

كانت السكة الحديد أيام عباس وسعيد فوضى لا ضوابط لها كما يقول إلياس الأيوبي، حيث يركب المسافر في قطاراتها وهو غير متأكد من صدق مواعيد قيامها، ولا من بلوغه المكان الذي يقصده، لكثرة العراقيل والموانع في الطريق، فقد يكون القطار على أهبة السفر من محطة الإسكندرية مثلا، فيأتي ناظر المحطة رسول من قبل قنصر من القناصل العامة، أو خصي من لدن أحد الباشوات أو البكوات الأتراك، ويأمره بتأجيل ميعاد قيام القطار حتى يأتي القنصل أو الباشا، أو حرم أحدهما، فيؤجل الناظر الميعاد، يقيم المسافرون على أحر من الجمر في انتظار مجيء حضرة القنصل أو سعادة السري التركي وحرمه، وربما طال انتظارهم بالساعات.

ويحكي أن القطار تعطل مرة في محطة طنطا وفيه تجار من الإنجليز قادمون من الهند وذاهبون ببضاعهتم إلى الإسكندرية، فبعد أن زهقوا من طول الانتظار، ذهبوا ليشتكوا ناظر المحطة، وكان إنجليزيا، ولكنه ارتدى زيا مصريا وتقمص عوائد المصريين، وتظاهر بعدم معرفة غير العربية والتركية هربا من شكاوى الأجانب خاصة الإنجليز، واتخذ لنفسه مترجما بين وبين بني جنسه.

دخل عليه الركاب ووجدوه في حجرته، جالسا على أريكة يدخن شيشة عجمية، ولا يعنيه من الدنيا إلا التلذذ بها والنظر إلى الدخان المتصاعد منها في الفضاء على هيئة أنصاف دوائر، فاشتكوا له ومترجمه المصري يترجم الكلام بالعربية، وهو لا يهتم ويدخن، كأنه لا يفهم الإنجليزية ولا العربية، وكأن الحديث غير موجه إليه، فاحتدم أولئك التجار غيظا وقال للمترجم: “قل لشيخك هذا الأبله أن يبطل جعل نفسه مدخنة، ويلتفت إلى ما نحن فيه، والا شكوناه إلى قنصلنا العام بالإسكندرية، ورجوناه أن يطلب من سمو الوالي أن يركله من وظيفته ركلا”.

فقال لهم بعد كثير من المماطلة: “إن الله خلق العالم في ستة أيام”، فخرجوا وهم يلعنونه!
على كل حال تغيرت الأوضاع في عهد إسماعيل، حتى إنه فكر في إنشاء خط سكة حديدية بين مصر والسودان، ترويجا للزراعة البينية. كلف المستر فولر بدرس الموضوع وتقديم تقرير واف عنه، فذهب المهندس الإنجليزي إلى وادي حلفا وقضى عدة أسابيع، متجولا في ربوع النوبة والسودان الشرقي يقيس ويبحث ويحسب ويفحص، ثم عاد وقدم تقريره إلى إسماعيل، بإمكانية إنشاء خط بطول 550 ميل بنفقات تقدر بـ4 ملايين جنيه، فاعتمد إسماعيل تقريره وتم البدء في العمل به سنة 1873 واستمر ثلاث سنوات، إلا أن الدائنين الأجانب اضطروا الحكومة المصرية إلى توقيفه لتراكم الديون على مصر!

الخط الثالث

وفي عام 1898 بدأ إنشاء الخط الحديدي الثالث من القاهرة إلى الأقصر، وأقيمت شركة خاصة تولت مد خط السكك الحديدية إلى مدينة أسوان في أقصى الجنوب باسم شركة قنا ـ أسوان للسكك الحديدية، فبعد دخول البريطانيين للسودان عام 1899 قررت سلطات الاحتلال تعديل خط القطار من الأقصر حتى أسوان ثم الشلال الأول في أقصى جنوب مصر ليصبح امتدادا طبيعيا لشبكة السكك الحديدية في مصر، وتم ذلك المشروع عام 1926 حيث امتد الخط إلى وادي حلفا داخل الحدود السودانية.

وأثناء الحرب العالمية الأولى بدأ الإنجليز يفكرون في إقامة خط للسكك الحديدية يربط بين مصر وفلسطين لخدمة المجهود الحربي، وبالفعل بدأ العمل في مد الخط من القنطرة شرق على الضفة الشرقية لقناة السويس وحتى غزة، واكتمل الخط عام 1918 وأدي اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914 – 1919 وبعدها اندلاع الحرب العالمية الثانية 1940 – 1945 إلى ازدياد أهمية السكك الحديدية لدى البريطانيين لاستخدام تلك الخطوط في نقل العتاد والذخائر والجنود واعتمادها الرئيسي على تلك الخطوط في النقل.

في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952 اهتمت حكومة الثورة بتطوير تلك الخطوط وإمدادها بالعربات لنقل المواطنين، وأدى الاهتمام ببناء السد العالي إلى الاهتمام بخطوط السكك الحديدية في نقل أدوات البناء اللازمة والمهمات للعاملين في هذا المشروع الضخم.

الوضع الآن

هذا هو وضع “س ح م” أو سكك حديد مصر في الماضي. فكيف أصبح حالها الآن؟
يشير تقرير التنافسية العالمية الصادر عام 2015 أن ترتيب مصر في جودة السكك الحديدية تراجع عن العام السابق بنحو 41 مركزا، لتصبح مصر في المركز رقم 78 في جودة السكك الحديدية من بين 194 دولة في حين كانت تحتل المركز 63 سنة 2013.

ويشهد هذا المرفق الذي يتمتع بتاريخ فريد على واقع بائس الآن، لا تكاد تقرأ أخباره إلا في صفحات الحوادث والكوارث. وإليكم قائمة قصيرة ببعض كوارثه: في عام 1992 اصطدم قطاران وقتل أكثر من 43 شخصا، وفي العام التالي قتل 12 وأصيب 60 في تصادم قطارين، وفي عام 1995 اصطدم قطار بمؤخرة آخر وسط ما أدى لمصر 75 مسافرا، وتحمل السائق المسئولية لزيادة سرعة القطار عن الحد المسموح به. بعدها بعامين فقط قتل 11 آخرين في حادث تصادم، وفي عام 1998 قتل 50 شخصا وأصيب 80 آخرين في خروج قطار عن القضبان بالقرب من الإسكندرية.

في عام 2002 اندلعت النيران في القطار رقم 832 المتجه من القاهرة إلى أسوان، قام بعض الركاب بكسر النوافذ الزجاجية، وألقوا بأنفسهم خارج القطار، ما تسبب في مصرعهم أو غرقهم في ترعة الإبراهيمية، واضطر سائق القطار لفصل العربات السبع الأمامية عن العربات المحترقة، ثم واصل رحلته خشية توقفه وحدوث كارثة جديدة.

راح ضحية هذا الحادث الأليم 350 مسافرا، واعتبر الحادث الأسوأ والأكبر من نوعه في تاريخ سكك حديد مصر منذ أكثر من 168 عاما.
ومثلما مات الركاب محروقون في 2002، ماتوا محروقين أيضا في 2019.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى