رأى

نشأة وتطور مفهوم رأس المال الاجتماعي

أ.د/أسامة متولي محمد

بقلم: أ.د/أسامة متولي محمد

يُعد رأس المال الاجتماعي هو الثروة الحقيقية في أي مجتمع، وتتفاوت القدرات المجتمعية في توظيف واستثمار وتخطيط رأس المال الاجتماعي لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة، وضمان استمراريتها، وتحسين نوعية الحياة للارتقاء بالإنسان صانع الحضارة والتنمية، ومن هنا كان ترتيب وتصنيف المجتمعات.

ويُعد الاهتمام ببناء رأس المال الاجتماعي ومكوناته القيمية والأخلاقية والدينية سبيلاً لتطوير رأس المال الاجتماعي الذي يُعتبر أساساً من أساسيات التطوير والتقدم، وذلك لمواجهة القيم والثقافة الغربية التي أثرت على المكون القيمي والهوية الثقافية، تلك القيم والثقافات الدخيلة التي أدت بشكل أو بآخر لتعزيز رأس المال السلبي في الدول النامية، وتعدد صوره وأشكاله في البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي في المجتمع، بصور وأشكال غير مسبوقة.

وتُلقي المقالة الحالية الضوء على بعض الأبعاد والقضايا الهامة ذات الصلة بموضوع رأس المال الاجتماعي، والمتمثلة تحديداً في: نشأة وتطور مفهوم رأس المال الاجتماعي، علاوة على استعراض موجز لبعض تعاريف هذا المفهوم الاجتماعي الهام.

أولاً: نشأة وتطور مفهوم رأس المال الاجتماعي

يرجع تطور مفهوم رأس المال الاجتماعي على النحو الذي نشهده الآن إلى تطور وارتقاء علم الاجتماع، فموضوع العلاقات والروابط الاجتماعية وأشكال المشاركة في الحياة العامة وأشكال الانتماء في المجتمعات المختلفة وتأثيراتها على الأفراد والمجموعات مطروح في العلوم الاجتماعية منذ وقت مبكر، أما فيما يتعلق بالفترة الزمنية لظهور هذا المصطلح فيختلف الدارسون المهتمون بـرأس المال الاجتماعي حول الفترة الزمنية التي ظهر فيها هذا المفهوم (السروجي، 2009: 11).

ويشير بعض الباحثين إلى أن الجذور الأولى للمصطلح تعود إلى كتابات المفكر الفرنسي اليكس دي توكفيل A. De Tocqueville (1805 – 1859) عن الديمقراطية في الولايات المتحدة Democracy In America، الذي صدر في القرن التاسع عشر، ففي هذا الكتاب أعزى توكفيل تطور الديمقراطية في الولايات المتحدة إلى الترابط الاجتماعي ونزوع المواطنين إلى المشاركة في الحياة العامة، والحقيقة أن هذه القيم تمثل جوهر رأس المال الاجتماعي بالمعنى الذي يتناول المعاصرون من خلاله هذا المفهوم، وقد اعتمد عدد كبير من العلماء على هذه الفكرة عند دراسة رأس المال الاجتماعي، وبخاصةً دارسي المفهوم ممن ينتمون إلى حقل العلوم السياسية (عبد العظيم، 2013: 549).

ولعل أول استخدام لـرأس المال الاجتماعي بالمعنى المتعارف عليه الآن كان من خلال كتابات هانيفان Hanifan عام 1916، والذي أشار إلى أهمية اشتراك المجتمع في تحسين أداء المدرسة، ووصف مفهوم رأس المال الاجتماعي بأنه تلك المواد الملموسة في الحياة اليومية للناس، والتي تشتمل على: النية الحسنة، الزمالة، العطف، والاتصال الاجتماعي بين الأفراد والأسر التي تُشكل وحدة اجتماعية، فلو قام فرد من أفراد المجتمع بالاتصال مع جاره، واتصلا مع الجيران الآخرين، سيحدث تراكم لـرأس المال الاجتماعي، الذي قد يُشبع الحاجات الاجتماعية والتي قد تحمل قوة اجتماعية كامنة كافية لإحداث التحسن الكبير لظروف المعيشة في المجتمع ككل (Woolcock and Narayan, 2000: 228 – 229).

إلا أن هذا المفهوم اختفى لعدة عقود وعاد للظهور في الستينات من القرن الماضي في كتابات جان جاكوبز Jan Jacobs في مؤلفها الكلاسيكي “الحياة والموت في المدن الأمريكية”، حيث أشارت إلى أهمية الشبكات التي يُكونها الأفراد في المجتمع، وأن هذه الشبكات الكثيفة التي كانت موجودة في الأحياء المتحضرة تُشكل نوعاً من رأس المال الاجتماعي الذي يضمن الأمن العام (وهبة، 2009: 25).

وربما تعود المساهمة الحقيقية في تطور هذا المفهوم إلى فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي من خلال كتابات بيير بورديو Pierre Bourdieu الذي ميز بين ثلاثة أنواع من رأس المال (الاقتصادي- الثقافي- الاجتماعي)، واعتبر رأس المال الاجتماعي مورداً شخصياً يمكن أن يُحقق مصالح شخصية في أكثر من سياق، وعلى ذلك فـرأس المال الاجتماعي قابل للتداول والاستخدام كما أنه قابل للتراكم، فالفرد بانضمامه لعضوية أحزاب أو نقابات أو غيرها، فهو يُكون شبكة علاقات اجتماعية تكون له رصيداً ممكن استخدامه في الممارسات الاجتماعية (Bourdieu, 1983: 17).

كما أشار بعض المهتمين بمجال رأس المال الاجتماعي إلى أن أول من تناول هذا المفهوم بشكل محوري هو عالم الاجتماع الأمريكي جيمس كولمان James Coleman عام 1988، وذلك من خلال مناقشاته للسياق الاجتماعي للتعليم، ولقد عرف المفهوم على أنه رصيد يمتلكه الفرد من علاقات وقيم داخل البناء الاجتماعي، كما تناول تحليلاً للاستخدامات الممكنة لرأس المال الاجتماعي، ولقد اعتبره البعض مسئولاً عن توسيع نطاق استخدام المفهوم حينما تناوله على أنه فائدة عامة تعمل الوكالات الخاصة والمتفاعلة في السوق على انتاجها.

ولقد ذهب كولمان عام 1994 إلى أن المفهوم يتضمن جزئين، الأول هو كلمة (رأس المال)، ويشير إلى أحد الموارد أو المدخلات الرئيسية التي تُيسر عملية الانتاج، والثاني هو كلمة (اجتماعي)، ويشير في هذا السياق إلى أوجه أو مظاهر التنظيمات الاجتماعية والعلاقات غير الرسمية التي لم تنشأ لأسباب اقتصادية على الرغم من أنها ذات نتائج اقتصادية (Coleman, 1988: 95).

وبرغم كل ما سبق فإن الكثيرين يعتبرون كتابات روبرت بوتنام Robert Putnam خلال حقبة التسعينات هو السبب الرئيسي وراء ما اكتسبه هذا المفهوم من شهرة وما حظي به من اهتمام واسع النطاق، فقد ذهب بوتنام إلى أن رأس المال الاجتماعي هو تلك الأنشطة التي تدل على كيفية معرفة شخص ما للآخر، كما أنه يشير إلى معالم وملامح التنظيم الاجتماعي مثل شبكة العلاقات الاجتماعية والمعايير المتفق عليها والثقة الاجتماعية التي تسهل التنسيق والتعاون من أجل المنفعة المتبادلة والمشتركة، فنجد أن الحياة تُعد أيسر في مجتمع يحظى بمخزون ثري ودائم من رأس المال الاجتماعي (Putnam, 2000: 67).

وخلال هذه الفترة أيضاً، ازدهرت تفسيرات رأس المال الاجتماعي في مجالات الاقتصاد والتنمية المجتمعية وعلم الجريمة والرعاية الاجتماعية وتحسين أحوال الفقراء، وازدهرت الحاجة إلى رأس المال الاجتماعي، مما أدى إلى إسهام عدد من الهيئات الدولية وعلى رأسها البنك الدولي والجامعات والمراكز البحثية، في محاولة منها لوضع إطار لدراسة رأس المال الاجتماعي بما يُسهم في تحديد علاقته بعدد من الظواهر الاجتماعية (زايد، 2006: 44).

أما في مصر فقد ظهر هذا المفهوم حديثاً، وتزايد مع بداية اهتمام البرامج الإنمائية الدولية بدراسة رأس المال الاجتماعي في مصر ومعرفة مدى إمكانية استثماره في برامج إنمائية بديلة تقوم على مشاركة المجتمع المستهدف في عملية التنمية، وفي إطار محاولة لوضع سياسات اجتماعية واقتصادية تتناسب مع ظروف المجتمع المصري، ومن هنا جاء التركيز على رأس المال الاجتماعي كأساس لتحقيق التقدم والازدهار والتنمية.

ثانياً: تعريف رأس المال الاجتماعي

رغم تعدد الكتابات والدراسات التي تناولت مفهوم رأس المال الاجتماعي، إلا أن هناك تعدد في الرؤى حول هذا المفهوم، بما يعكس أن الإسهام العلمي في هذا المجال ما زال متواضعاً ولم تصل هذه الكتابات إلى تعريف موحد ومتفق عليه لمفهوم رأس المال الاجتماعي، يُضاف إلى ذلك أن تباين تخصصات المهتمين بـرأس المال الاجتماعي يزيد من إشكالية تحديد المفهوم لتباين اهتمامات المتخصصين. وفيما يلي محاولة لعرض نماذج من وجهات النظر المختلفة حول هذا المفهوم:

*مجموعة التعاريف التي ركزت على شبكة العلاقات الاجتماعية:

للإشارة إلى أن رأس المال الاجتماعي هو شبكة من العلاقات الاجتماعية، تعرف جاكوبس (Jacobs, 1991: 27) رأس المال الاجتماعي بأنه الشبكات الاجتماعية والجماعات الداخلية في المجتمع التي تصف العلاقات الاجتماعية بين الأفراد بعضهم البعض والتعاون والتنسيق القائم في المجتمع.

وينظر لن (Lin, 2001: 56) لـرأس المال الاجتماعي بمدخل فردي باعتباره استثمار في في شبكة العلاقات الاجتماعية من خلال المردودات المتوقعة في السوق، وهذا المفهوم قد يتفق مع ما ذهب إليه بعض المهتمين بقضية رأس المال الاجتماعي أمثال: بورديو Bourdieu، وكولمان Coleman، وفلابFlap، وبوتنام Putnam، وإريكسونEriksson.

ويحدد وولكوك (Woolcock, 2001: 88) رأس المال الاجتماعي كمعلومات وثقة ومعايير للتبادل عندما يكون الفرد في شبكة علاقات اجتماعية، وتكون الفرص للمنفعة المتبادلة، وعند تجميع الأعمال.

وفي السياق ذاته يذكر السروجي (2009: 20) أن رأس المال الاجتماعي إنما يعكس شبكة العلاقات الاجتماعية، ونظم العلاقات المجتمعية والمعايير ومستويات الثقة الفردية والجماعية وزيادة مستويات هذه الثقة، والتي تدعم السلطة.

*مجموعة التعاريف التي ركزت على وظائف رأس المال الاجتماعي:

للدلالة على وظائف رأس المال الاجتماعي، يركز بورديو (Bourdieu, 1983: 18) في تناوله لهذا المفهوم على التحليل المنطقي خاصةً نوع رأس المال ووظائف المؤسسات كالأسرة والمراكز الشبابية، والتي يُعتقد أن لها موقع هام في تحليل رأس المال الاجتماعي، واستثارة وتحليل المؤسسات في المجتمع، وقوة السلطة التي يقوم عليها رأس المال الاجتماعي كمبدأ من مبادئها.

وفي ذات السياق، يحدد كولمان (Coleman, 1988: 311) رأس المال الاجتماعي بوظيفته وليس باعتباره كياناً مفرداً، فهو يتضمن العديد من الكيانات التي تتضمن بعض سمات البناء الاجتماعي، والتي تعطي تسهيلات محددة لأعمال وجهود الأفراد داخل هذا البناء.

ويسرد بورتس (Portes, 1998: 6) عدة تعاريف لـرأس المال الاجتماعي، منها أن رأس المال الاجتماعي يتضمن العلاقات بالأصدقاء والزملاء والصلات الأكثر عمومية التي يمكن أن تؤدي عدة وظائف هامة منها اقتناص الفرص لاستغلال رأس المال البشري والمالي، وبالتالي تعزيز قدرة الفاعلين على أن يشهدوا منافع لهم من خلال عضويتهم في الشبكات الاجتماعية، وغيرها من البنيانات الاجتماعية.

*مجموعة التعاريف التي ركزت على علاقة رأس المال الاجتماعي بالقيم:

لتوضيح علاقته بالقيم،  يذكر الشاذلي (2003: 9) أن رأس المال الاجتماعي هو الفرص المتاحة على أساس المعلومات والتحكم، والتي تميز الفرد أو الجماعة أو المجتمع في علاقاته بالآخرين، ويُضيف الشاذلي أيضاً أن القيم التي تُشكل رأس المال الاجتماعي تعكس قيماً رأسمالية عقلانية، وذلك باعتبار أنه قابل للتحول إلى أشكال أخرى من اشكال رأس المال من أجل تحسين أو استمرار وضعهم في المجتمع.

ويذكر السروجي (2009: 18) نقلاً عن سكلست Schlisht أن رأس المال الاجتماعي هو القيم الجماعية الداخلية للمجتمع المرتبطة بـالضبط الاجتماعي والمُدعمة لجهود النسق الاقتصادي.

أما سيلفرمان (Silverman, 2003: 2010) فقد عرف رأس المال الاجتماعي على أنه علاقة من الثقة المتبادلة الناشئة من القيم المشتركة التي هي جزء لا يتجزأ من الشبكات الاجتماعية.

ومما سبق يمكن النظر لهذا المفهوم على أنه الاتصالات التي تتم بين الأفراد والعلاقات الاجتماعية التي تنشأ بينهم من خلال بعض المكونات التي يعتمد عليها الجماعات والأفراد في شبكة العلاقات الاجتماعية.

المراجع

السروجي، طلعت مصطفى
2009 “رأس المال الاجتماعي”، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

 

الشاذلي، خلاف
2003 “الاتجاهات النظرية والمنهجية الحديثة في رأس المال الاجتماعي”، كلية الآداب، جامعة المنيا.

 

زايد، أحمد
2006 “رأس المال الاجتماعي لدى الشرائح المهنية من الطبقة الوسطى”، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، جامعة القاهرة.

 

عبد العظيم، حسني إبراهيم
2013 “دور العمل التطوعي في تنمية رأس المال الاجتماعي للمرأة، دراسة ميدانية على عينة من المشاركات في العمل الاجتماعي بمحافظة بني سويف”، المؤتمر العلمي التاسع لكلية الآداب بجامعة بني سويف بعنوان: العلوم الإنسانية وتفعيل دور مؤسسات العمل التطوعي.

 

وهبة، مراد
2009 “رأس المال الاجتماعي من منظور علمي”، مجلة الديمقراطية، عدد 35، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة.

 

Bourdieu, Pierre
“Forms of Capital” (in) J.C. Richard (ed), Handbook of Theory and Research for the Sociology of Education, Greenwood Press. 1983
Coleman, James
“Social Capital in the Creation of Human Capital”, American Journal of Sociology, Vol. 94. 1988
Portes, Alejandro
“Social Capital: Its Origins and Applications in Modern Sociology”, Annual Review of Sociology, Vol. 24. 1998
Putnam, Robert
“Bowling Alone: America’s Declining Social Capital”, the Journal of Democracy, Vol. 6, No. 1. 1995
Silverman, Robert
“Social Capital”, Downside of Encyclopedia of Community, Sage Applications, London. 2010
Woolcock, Michael and Deepa Narayan
“Social Capital Implications for Development Theory, Research and Policy”, the World Bank Research Observer, Vol. 15, No. 2. 2000

*كاتب المقال: أستاذ الاجتماع الريفي – كلية الزراعة – جامعة الفيوم.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى