تحقيقات

«مافيا المبيدات» تحرق محصول الفلاح الغلبان

المبيدات الزراعية

كتبت: هيام عبدالفتاح سنوات من الكفاح المتواصل وصلت إلى أكثر من 15 سنة، حقق خلال الحاج محمد أبوعرب، ابن قرية الرغامة، التابعة لمركز الرياض، جائزة الفلاح المثالى فى محافظة كفر الشيخ، وبعدها ذاع صيته، كإحدى الخبرات التى يلجأ إليها الفلاحون، للاستفادة من تجاربه فى زراعة المحاصيل المختلفة.

المبيدات المغشوشة تضرب محصولى الطماطم والبطاطس

«أبوعرب» خبرة كبيرة فى زيادة حجم المحاصيل، اكتسب خبرة أعلى فى التعرف على المبيدات والأدوية المغشوشة والمضروبة، بعد سلسلة تجارب «خربت بيته»، على حد وصفه، ففى عام 2013 خسر محصول الطماطم الذى كان قد أوشك على جمعه من الأرض، بعد رشه بمبيد غير آمن ومقلد، اشتراه من تاجر مبيدات فى قريته، بسعر أرخص من مصدره الأصلى أكثر من الضعف، وعندما سأل التاجر عن ذلك، قال له إن المنتج عبارة عن عينات مجانية تأتى للوكلاء من الشركات الأصلية، لذا فهو يقوم ببيعها بسعر بسيط لأبناء قريته، ولمزيد من الثقة، بحث أبوعرب عن «ختم» الشركة المصنعة فوجده فى موضعه، وما هى إلا أيام قليلة بعد موت محصوله، حتى علم أن جهات التفتيش والرقابة قامت بالقبض على التاجر الذى باع له العبوة، بتهمة تقليد منتجات وماركات عالمية وبيعها فى المحافظات البعيدة عن أعين الرقابة والتفتيش التابعة لـوزارة الزراعة والهيئات الحكومية.

أخذ الرجل السبعينى على عاتقه بعد انهيار محصول الطماطم بشكل كامل، أن يشترى المبيدات والأدوية الزراعية من مصادرها الأصلية أو وكلائها المعتمدين، بعدما كثر الحديث داخل أرجاء محافظته كفر الشيخ، عن قيام بعض تجار المبيدات بغش العبوات الأصلية، وفكها بواسطة الجاز وبودرة السيراميك لأكثر من عبوة لتحقيق ربحية أعلى، دون الأخذ فى الاعتبار ظروف الفلاح الذى قد يكون «مستلف» ثمن تلك العبوة ولا يملك ثمنها، إلا أن بعض المحيطين به لم يستمعوا لنصيحته، وينهجوا نهجه، فتعرض غالبيتهم فى العام الماضى لفساد محصول البطاطس، وتعفنه فى باطن الأرض، بعدما قاموا برشه بـمبيدات مجهولة المصدر غير آمنة، حدث كل ذلك تحت مرأى ومسمع من المسئولين فى مديرية الزراعة بكفر الشيخ ومركز البحوث الزراعية، الذين اكتفوا بالفرجة ومصمصة الشفاه، على حد قوله.

غياب المبيدات عن وزارة الزراعة

ورغم حالة الحرص الشديدة التى يتعامل بها «أبوعرب» مع المبيدات الزراعية، فإنه فشل فى القضاء على الدودة «القرنفلية والشوكية» التى ضربت أرضه وجيرانه منذ ثلاث سنوات، بعد استخدامه للعديد من المبيدات الأصلية من مصادرها الصحيحة، لكن دون فائدة، ويفسر «أبوعرب» ذلك بأن المادة الفعالة فى الأدوية الأصلية أصبحت غير مركزة وبلا تأثير، الأمر الذى يستوجب من وجهة نظره ضرورة دخول وزارة الزراعة كطرف أصيل فى تجارة المبيدات والأدوية، من خلال شرائها المنتجات من الشركات المصنّعة ووضعها فى الجمعيات الزراعية، بعدما يقوم المتخصصون فى الوزارة بمراجعة المواد الداخلة فى التصنيع، لضمان قدرتها على محاربة الآفات الزراعية فيقول: «هى وزارة الزراعة مابقتش تجيب المبيدات عندها زى زمان ليه، وتوزعها على الفلاحين بـالبطاقات الزراعية زى الكيماوى، وسايبة الفلاح هو اللى يجرب وهو اللى يخسر وهو اللى ينضحك عليه؟».

تجار المبيدات ينهبون الفلاح

منذ ما يزيد على عشرة أعوام، فوجئ شعبان الباهى، فلاح، من أبناء محافظة كفر الشيخ، بوقوف لجنة من وزارة الزراعة أمام أرضه المزروعة بـالقطن وقتها، كانت قد جاءت من القاهرة خصيصاً لمتابعة حالة الأراضى الزراعية والوقوف على دور المديريات الفرعية فى المحافظات فى مكافحة الآفات المختلفة، ثم نزل أحد المرشدين منها إلى داخل أرضه، وبعد البحث والتدوير عثر على أكثر من لوزة متعفنة، وعلى الفور، قام بالاتصال بمديرية الزراعة فى كفر الشيخ، وخلال نصف ساعة كانوا قد جاءوا ومعهم مواتير الرش، وقام أعضاء اللجنة برش الأرض بأنفسهم، حتى اطمأنوا إلى موت الدودة بشكل كامل، وبعدها، قام رئيس اللجنة بإعطائه رقم هاتفه الشخصى لإبلاغه فى حالة إصابة زرعته بأى نوع من أنواع الآفات الزراعية، وعلى الرغم من سعادة «الباهى» بالمشهد الذى وصفه بأن «الواحد حس أن له ضهر وأن فيه ناس خايفة عليه وبتأمن له قوت عياله اللى مالهومش مصدر دخل غير العشرين قيراط اللى حيلته»، لم يتكرر هذا الأمر مرة أخرى، منذ اندلاع ثورة 25 يناير وحتى الآن، وكلما ذهب إلى الجمعية الزراعية أو مديرية الزراعة للاستفسار عن أى معلومة، وسألهم عن سبب تجاهلهم للمزارعين وتركهم «نهيبة» فى يد التجار والموزعين، جاء ردهم بأن «الوزير سحب الموتوسيكلات ومابقاش عندنا ركوبة نلف عليكم بيها».

يحتاج محصول القطن ما بين 9 إلى 10 مرات رش مبيدات زراعية خلال فترة وجوده فى الأرض، سعر الواحدة منها 300 جنيه، بما يعنى أن الزرعة الواحدة تتطلب ثلاثة آلاف جنيه، الأمر الذى يجعل من الضرورى على الفلاح شراء عبوات الرش من مصدرها الصحيح، يضيف الرجل الخمسينى، أن المنتج المصرى أفضل بكثير من المنتج الأجنبى فى المبيدات الزراعية، نظراً إلى انتشار توكيلاتها فى غالبية المحافظات، وقيام مندوبين من الشركة بالنزول إلى الأراضى الزراعية للوقوف على قوة تأثير منتجاتهم فى الأرض، والأكثر من ذلك، أنهم يقومون بعمل دورات تدريبية للمزارعين ويأخذونهم إلى المصانع للتفريق بين المبيدات المغشوشة والمقلدة.

يقول «الباهى» إن عملية البيع والشراء لدى تجار المبيدات والأسمدة، لا تزال تحتاج إلى ضبط شديد، خاصة فى ظل قيامهم بشراء العبوات الفارغة من المزارعين على مرأى ومسمع من الجميع، وعندما نقوم بسؤالهم عن سبب ذلك، يقولون إن الشركات تشترط استرجاع العبوات إليها مرة أخرى حتى لا يتم تقليد منتجاتها، بما يخالف الواقع وما نراه، كما أن بعضهم يقوم بالاتفاق مع مصانع البلاستيك لتقليد شكل العبوات الأصلية إلى أقصى درجة ممكنة، ولكنهم يصعب عليهم تقليد الأختام «المحفورة» التى توجد أسفل غطاء العبوة، وعندما نواجههم بحقيقة غشهم للمنتجات يقولون «إن دى منتجات الشركة بس درجة تانية، وإن فرقها فى التأثير على المرض بسيط، ولكن فرق الفلوس كبير وأن ده كويس للفلاحين الغلابة اللى مش معاهم تمن المنتج الأصلى».

انعدام الرقابة على سوق المبيدات

دخل سالم محمد، فلاح، لشراء عبوتين من المبيدات الزراعية للقضاء على آفة أصابت محصول الأرز، من أحد المحلات الموجودة فى مدينة دسوق، التى يتعامل مع صاحبها منذ عدة سنوات، فشاهد عدة عبوات تحمل اسم منتج أجنبى، وضعها صاحب المحل على الرف الرئيسى فى واجهة المحل فى مرمى نظر زبائنه، مدون عليها سعر أقل بكثير من ثمنها الأصلى، فأخذ واحدة منها، وبحث فيها عن «ختم» الشركة فلم يجده، فتح واحدة واستنشق رائحتها، فوجد أن رائحة «الجاز» تسيطر عليها، مما دفعه للاشتباك مع صاحب المحل واتهامه بـ«ضرب» المنتج الأصلى وأن ما يشاع عنه بأنه دخل إلى عالم «الضرب والغش» صحيح، الأمر الذى دعا البائع للقول بأنه يضع تلك المنتجات لتعريف الفلاحين الفرق بين المنتج الأصلى والمغشوش، حتى لا يقعوا فريسة فى أيدى تجار الغش، والخطير فى الأمر – من وجهة نظر سالم- أن هذا المحل يبعد خطوات قليلة عن مديرية الزراعة فى مدينة دسوق، بما يعنى أنه لا توجد أى عمليات رقابة أو تفتيش عليه، على الرغم من أن المحل تحت أعين العاملين فى المديرية ليل نهار.

المبيدات الزراعية غير صالحة للاستخدام

يرى الرجل الخمسينى أن غالبية المبيدات الموجودة فى مصر خلال السنوات الأخيرة، مضروبة وغير صالحة ومقلدة، والدليل العملى على ذلك غياب رائحتها، وتحولها إلى مادة تشبه المياه العادية، فيقول «زمان كنا قبل ما نفتح إزازة الرش كنا بنلبس كمامة حوالين وشنا، ونفضل كاتمين نفسنا عشان مانشمش الرش، اللى ريحته كانت بتنتشر فى المكان، واللى كان بيتنفسها كان بيفضل عنده كحة وصدره واجعه لمدة أسبوع، إنما دلوقتى، بنفتح العلبة ونقلبها فى المية ونرشها، كل ده من غير ما نشم ريحتها خالص»، الأمر الذى أفقده الثقة فى منتجات المبيدات المنتشرة فى السوق بشكل كامل، فحول قبلته إلى مقر إحدى الشركات الكبرى الموجودة فى مدينة كفر الزيات، من أجل الشراء من المصنع مباشرة، وعلى الرغم من انخفاض قيمة المادة المركزة من 47% إلى 35% فى منتجات هذا المصنع هو الآخر، إلا أنه يظل بالنسبة لـ«سالم» الأفضل فى ظل انتشار عبوات «الميّه اللى مخلوطة بالجاز من غير ما يكون لها أى فايدة خالص».

المبيدات تحرق المحاصيل

يمتلك شعبان محمد، فلاح، 1٫5 فدان من الأراضى الزراعية التى يصفها بأنها عالية الجودة، نظراً لاستحواذ محاصيله على المراكز الأولى فى محافظة كفر الشيخ على مدار السنوات الأخيرة، ومن أجل استمراره فى هذه المراكز الأولى، آثر أن يقتنى المعدات الزراعية، وعلى رأسها «الرشاشة»، وبعد رؤية جيرانه له وهو يعمل بها داخل أرضه، طلبوا منه رش أراضيهم هى الأخرى، ومن ثم أصبحت أحد أهم مصادر رزقه، حيث يقوم بالعمل بها فى أراضى المحيطين به فى أوقات فراغه.

يقول الرجل الأربعينى، إن مشاكل الفلاحين كثيرة جداً، ما بين ارتفاع أسعار تجهيز الأرض من حرث ورى وسماد وتقاوى، وغير ذلك من مستلزمات الزراعة، ودخلت المبيدات الزراعية هى الأخرى فى قائمة زيادة الأسعار، ولكن لم تقف معاناة الفلاح عند تدبير الأموال الخاصة لشرائها، حيث فوجئ بأن بعض المبيدات التى اقترض ممن حوله من أجل شرائها لعلاج أرضه، كانت هى السبب الرئيسى فى حرق محصوله وتعفنه، وتكرر هذا الأمر بين المزارعين بصورة كبيرة، وعندما يذهب الفلاح إلى الجمعية الزراعية للاستفسار عن سبب «خراب بيته وحرق زرعته»، يخبره الموظفون الجالسون على مكاتبهم بأنه استخدم أدوية ترتفع فيها نسبة المواد الحارقة بصورة كبيرة، مما تسبب فى حرق قلب النبات وموته.

«زمان لما كنت برش ساعة واحدة فى اليوم كنت بروح نَفَسى مكتوم وعيان بصدرى قبل ما المبيدات تتغش وتبقى زى قلتها، أما دلوقتى فبقيت عامل زى بياعين الجاز، بروح هدومى كلها ريحتها جاز وبنزين»، التفرقة بين المنتج الأصلى والمنتج المضروب من وجهة نظر «شعبان»، ليست معضلة، خاصة لأصحاب الخبرة، ففى الماضى كانت كل زرعة يكفيها رشة واحدة للقضاء على كافة الآفات الموجودة فيها، أما الآن، فبمجرد ترك «الرشاشة» لبضع دقائق من أجل الحصول على قسط من الراحة، أرى بعينى ترسب البودرة فى قاع الماكينة وطفو السولار على قمتها، بما يعنى أن المبيدات تحولت إلى «جاز وبودرة بلاط».

المخصبات العضوية بديلا للمبيدات الزراعية

قرر أسامة المنيرى، فلاح، التوقف النهائى عن استخدام المبيدات الزراعية، لسببين، الأول: تسببها فى فساد وحرق محاصيل العديد من جيرانه وعدم قدرتها على مواجهة الآفات بصورة أو بأخرى، ثانياً: ارتفاع أسعارها بشكل كبير يفوق قدرته المالية، بالتوازى مع ارتفاع أسعار الرى والحرث وأجرة عمال الجمع وغيرها، واعتمد نظام زراعة جديداً يقوم على استخدام المخصبات العضوية «السباخ البلدى»، بعدما تعرف على طريقة تصنيعه من أحد المرشدين الزراعيين الذى يعمل فى مديرية الزراعة بمحافظة كفر الشيخ، ومنذ ذلك الحين، تخلى بشكل كامل عن المبيدات الزراعية، خاصة مع الزراعات قليلة الإصابة بـالآفات الزراعية مثل البرسيم والذرة وبعض أنواع الفواكه.

«الرش مابقاش يعمل حاجة، لا بيعالج دودة ولا بيموّت حشرة، يعنى بقى زى قلته، والأكتر من كده، أن المواد الحارقة فيه بقت نسبتها عالية، وده بيتسبب فى حرق ورق النبات وموته»، اعتمد المنيرى الحاصل على بكالوريوس تجارة، والذى اتجه للعمل فى الزراعة، لاستكمال مشوار والده بعد وفاته فى رعاية أشقائه ووالدته، على خلفية قراءته فى تجارب العديد من الدول التى قامت بحظر المبيدات الزراعية بشكل كامل عن أرضها، رغم تمتعها بنسبة أمان كبيرة لخضوعها للرقابة والتفتيش أثناء عملية التصنيع، ومن ثم حققت تلك الدول نتائج أعلى من وقت استخدام المبيدات، لذا فهو يرى أننا بحاجة إلى مثل هذا القرار أكثر من باقى الدول، فى ظل انتشار المبيدات المغشوشة والمضرة، التى تسببت فى وضع محاصيلنا على قائمة الرفض لدى العديد من الدول المستوردة لخطورتها على صحة الإنسان، فيقول «المبيدات عندنا مابقاش لها غير الأثر السلبى فقط، سواء فى تمنها، أو خطورتها على صحة الإنسان والنبات فى نفس الوقت، يبقى قلّتها أحسن».

ويشير الشاب الثلاثينى إلى أن تجربته فى استخدام المخصبات الطبيعية التى امتدت لثلاث سنوات أثبتت كفاءتها ونجاحها بشكل كبير، حيث انتعشت أرضه – على حد وصفه – وأتت له بكميات محاصيل تفوق تلك التى كان يحصل عليها أثناء استخدام السماد والمبيدات الزراعية، الأمر الذى شجعه على زراعة فواكه وخضروات داخل صوب زراعية «أورجانيك» وإخضاعها لإشراف أحد مشرفى وزارة الزراعة الذى يتابع تجربته ويساعده لتحسين محاصيله بعيداً عن «أمراض» المبيدات الزراعية.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى