تحقيقات

كارثة.. تناقص أعداد الجمال المصرية إلى النصف خلال 10 أعوام

الجمال المصرية

تحقيق: هيثم خيرى الشمس تعلن عن نهار جديد، لكن الفجر لا يود المغادرة أيضا.. هذا صباح طازج يتنازعه النهار والليل في صحراء مصر الغربية، حيث قطعان الجمال تبحث عن المراعي الطبيعية.

في الشريط الحدودي مع ليبيا، تبدو الصحراء شاسعة مستقيمة بلا جبال أو تلال من الرمال على جانبي الطريق الواصل بين مدينة مطروح وسيوة.

نحو 320 كم تقطعها السيارات والأتوبيسات يوميا بين المدينتين، في هذه المسافة ستجد الطريق يشق صحراء شبه جدباء تتناثر حولها شجيرات صغيرة ونباتات برية، بعد أن روتها الأمطار القليلة وماء الندى بقطرات منحتها الحياة.. في هذه الامتدادات، كلما اقتربت من سيوة وابتعدت عن مطروح، ستجد الصورة أكثر وضوحا: قطعان من “النوق الحمر” أو الجمال التي يميل لونها بين الأحمر والأسود، سامقة خفيفة الحركة رشيقة لأبعد حد كأنها تتلقى تدريبات في السيرك، ترمح وتأكل وتتزاوج وترعى في حرية كاملة.

تلك الإبل تعنينا حياتها كثيرا.. توجهنا إلى مطروح، وقطعنا رحلة في أرجاء المحافظة بحثا عن حياة الجمال والرعاة والمربين والتجار، لنقتفي أثرها ونعرف كيف تعيش وترعى في هذه الصحاري الشاسعة، ومنها إلى سوق الجمال الأكبر على مستوى الجمهورية في منطقة “برقاش“، وكيف يمكن الاستفادة منها كمورد هام للحوم الحمراء الآمنة وتنميتها، في وقت فقدت فيه مصر نصف ثروتها من الجمال في العشر سنوات الأخيرة.

بين الليل والنهار، بدأت رؤوس الجمال تطل كبشائر المطر قبل هطوله، وبعد دقائق قليلة من ظهور الحيوانات المتباعدة، لاحت قافلة كبيرة منها أكثر وضوحا وبهاء ورعونة.. بعضها يرعى على بعد متر ليس أكثر من الطريق والبعض الآخر يجري بخفة في عمق الصحراء اللانهائية.

هذه هي النوق المغربية كما يسميها أهل البادية بمصر.. النوق التي تغنى بها عربان الصحاري وأفرد لها شعراء الجاهلية أبياتا من الشعر مدحا فيها. هذه الأسراب وغيرها عدة آلاف هي كل ما تبقى من ثروة مصر من الجمال في منطقة الصحراء الغربية، وتتركز كل قطعان جمال الصحراء الغربية النادرة في بعض المناطق المتفرقة بداية من مدينة الضبعة ووصولا إلى الكيلو 80 باتجاه سيوة ـ مطروح، وفي الواحات البحرية.

السائق السيوي أحمد عبد المجيد عبد الوهاب، هو رفيق رحلتنا من مطروح إلى منطقة بئر النص، حيث المراعي الشاسعة.. يخبرنا الرجل بأن هذه الجمال تظل تلمحها بعينيك بطول الصحراء، كما تمتد أراضي الجمال في السلوم وسيدي براني والضبعة ومطروح.. وكلها تعتبر ملكا للقبائل العربية في محافظة مطروح، وليس هناك أي قبائل أخرى بـالصحراء الغربية ترعى الجمال باستثناء قبيلة عربية واحدة أخرى في سيوة، هي فرع من قبيلة “أولاد علي” تربي الإبل على بعد نحو 40 كم من العاصمة “شالي”.

يقطع السائق أحمد عبد المجيد هذه الطرق الوعرة بصورة شبه أسبوعية، وبين الحين والآخر تظهر قطعان الجمال الوثابة في الصحاري، حيث تشرب من آبار تتجمع فيها المياه أوقات الأمطار في الشتاء، ولا يقترب منها أحد من أبناء القبائل أو السياح باستثناء بعض الغرباء الذين قد يظنون أنها جمالا برية لا صاحب لها ولا راعٍ.

ويتم ختم الجمل لحظة ميلاده بختم القبيلة العربية التي تقتنيه، حتى يميزه صاحبه وكذا التجار والجزارين في المناطق المحيطة بامتداد محافظة مطروح كلها، وإذا تعرض أحد الجمال للسرقة يعرفه التاجر أو الجزار فورا ويبلغ القبيلة عنه.. لكن أحمد يستدرك قائلا إن هذا الأمر من النادر جدا أن يحدث، لأن هذه المناطق نائية ويصعب الوصول إليها، فضلا عن صعوبة سرقة الجمال التي تعيش بين تلك القبائل في الأراضي الصحراوية.

ويشرح سعيد نويحي، أحد المحترفين في مجال حفر الآبار في محافظة مطروح، كيفية إنشاء الآبار قائلا أنها عبارة عن خزانات سطحها صخرة صلبة تقع أمام منحدرات الجبال، حيث يتم جمع المياه فيها والاحتفاظ بها لعام أو أكثر، بهدف الشرب والطهي أو سقاية الماشية والجمال، وعادة لا يشرب أهل البادية من مياه النيل لأنها لا تصل البوادي من ناحية، كما أن بدو مطروح وخاصة كبار السن منهم لم يعتادوا على مياه النيل وإنما يشربون من مياه الأمطار طوال حياتهم.

مرضي العوامي، مربي جمال بـمطروح، يشرح أمر سقاية الإبل أكثر: “بلا مياه تتوقف الحياة تماما.. وحياة الإبل هنا تزدهر بازدهار المطر وغزارته”. بحسب العوامي يتداول رعاة الإبل والأغنام أخبار الأمطار كل شتاء من المربين والرعاة أنفسهم في الوديان والجمال بطول الصحاري المصرية، ولا يتم قياس غزارة الأمطار بما يتساقط على السواحل المصرية، بل بما يسقط خارج السواحل في الصحراء بامتداد عشرات وربما مئات الكيلومترات.

ويستكمل العوامي: كلما تساقطت الأمطار نذهب لأماكن تخزين المياه التي نحفرها بأنفسنا في الوديان أمام الجبال القصيرة لمعرفة ما لدينا، وقد أخذ معظمنا طريقة إقامة الآبار أبا عن جد من أيام الرومان، حيث نقوم بحفر فتحات بقطر متر في متر تقريبا فوق الأرض ونضع فوقها حجارة، وتحت هذه الفتحة نحفر عدة أمتار للقاع ونوسع الحفرة بشكل دائري تقريبا بقطر يصل إلى 20 متر في 20 متر، وهذه الطريقة تشبه البئر الروماني إلى حد ما، لكنها تختلف عنه أنها أكثر هشاشة من الآبار الرومانية الحجرية، مشيرا إلى أن العام الماضي امتلأت جميع الآبار في صحاري مطروح بسبب غزارة هطول الأمطار، أما هذا العام فما تساقط أقل بكثير من الأعوام السابقة.

كما يعتمد البدو على مياه الأمطار في نمو النباتات والشجيرات البرية التي تزدهر في الصحراء الغربية بمجرد توافر القليل من المياه، كما أصبح الكثير من هؤلاء البدو يعتمد على شراء علف الذرة كمكمل غذائي للإبل بسبب قلة الأمطار في بعض الأحيان، وهو ما أدى لعزوف الكثير من أبناء هذه الحرفة عن الاستمرار فيها بسبب زيادة أسعار الأعلاف وعدم اعتمادهم على زراعتها حتى هذه اللحظة.

ويفيدنا فتحي رمضان، تاجر جمال يمارس عمله بين مطروح وسيوة، بأن كل الجمال التي ترعى في صحراء مصر الغربية هي امتداد لأنواع الجمال الليبية والمغربية في الصحاري، حيث إن مصر وليبيا يتشاركان أنواع الجمال والغنم والماعز البرقي بامتداد الحدود الشرقية الليبية والغربية المصرية، في مناطق مصراته وطبرق والبيضاء وبرقة من الجانب الليبي، ومن الجانب المصري السلوم ومطروح وبير النص وغيرها، ويعيش الرعاة من كلا البلدين على تربية الغنم البرقي والجمال.

ويضيف فتحي رمضان أن هذه الأصناف من الجمال والإبل تتميز بمزايا عديدة أهمها جودة الطعم وسهولة طهيها، بخلاف الجمال البلدية الأخرى التي تتربى في الدلتا والصعيد. ويفسر رمضان تراجع الإقبال على اللحوم الجملي في القاهرة ووجه بحري بأن الجمال هناك حتى الصغيرة منها أو “البعرور” هي إبل بلدي أو قادمة من السودان أو الصومال، وليست في جودة إبل مطروح، حيث يفضلها الأهالي في مطروح وسيوة عن الأبقار والماعز واللحم الجاموسي في كثير من الأحيان.

ويتابع رمضان قائلا بابتسامة عريضة: “بتحايل على المصريين من أهل القاهرة والمنوفية لأجل أن يجربوا أكل اللحم الجملي رغم انخفاض سعره مقارنة بالبتلو، وحين يجربونه يجدونه أفضل أنواع اللحوم البلدية على الإطلاق.

لكن لماذا لا يربي أهل سيوة الإبل أسوة بعرب مطروح؟

أكثر من جزار وتاجر جمال يؤكدون أن تربية الجمال في سيوة صعبة للغاية، وقد لا تسلم قطعان الجمال إذا تمت تربيتها في أراضي سيوة من حشرة يسميها الأهالي “الطيرة“، وبسبب شدة حرارة الجو في فصل الصيف، وخاصة في شهري يوليو وأغسطس تنتشر تلك الحشرة في أجساد الجمال وتصيبها بمرض جلدي قد لا تشفى منه، لذا يفضل الجميع باستثناء “أولاد علي” عدم تربيتها.

نعود إلى قطعان الجمال الطليقة في غرب مصر، حيث يتركها الرعاة لفترات قد تصل إلى 4 أشهر بلا متابعة تهيم في الصحاري، طالما أنها لا تضم جمالا عشارا أو أخرى تسعى للتزاوج.

وبحسب محمد الجميعي، مربي جمال بـمطروح، فـالإبل تعرف البئر التي شربت منه وتعود إليه كل 12 يوما، ويتم وضع علامتين على كل جمل على حده، علامة نعرف من خلالها القبيلة التي ترعاه، وعلامة أخرى تحدد اسم العائلة والبيت الذي يربيها، وهذه العلامات بالمناسبة متوارثة منذ أجيال بعيدة وكل أبناء الصحراء يميزونها.

لكن هل كل هذه الإبل تعتبر ملكا لأصحابها أم أنها برية لم تمسسها يد بشر؟

الدكتور محمد الرئيس، أستاذ الإنتاج الحيواني بـمركز بحوث الصحراء وواحد من أكثر المهتمين بمتابعة حياة الحيوانات المستأنسة في مصر، يؤكد أنها ليست برية، وأن الجمال البرية غير موجودة في مصر وتكاد تندثر من الوطن العربي كله، لأن معنى كونها برية أنها تنمو وتتكاثر وتعيش في بيئة بعيدة تماما عن البشر بدون تدخل منهم، وهذا غير صحيح في مصر، موضحا أنها ملك للمربين والتجار من البدو الرحل.

يتحدث الدكتور “الرئيس” وهو يقطع بأنه يهاتفنا من أمام غابات المانجروف، حيث يؤدي مهمة بحثية في منطقة شلاتين، ويقول إن مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد وسيناء والصحراء الغربية تعتبر أكثر الأماكن إنتاجا للجمال في مصر، لكنها صارت الآن تعاني الكثير من المشكلات، مؤكدا أن مصر تعاني عجزا بنسبة 50% في إنتاج اللحوم الحمراء، كما صارت تعاني من تناقص أعداد الجمال بصورة رهيبة وصلت إلى نصف أعدادها تقريبا خلال 10 سنوات فقط.

ويشرح الوضع قائلا أن مصر كان لديها ثروة ضئيلة من الإبل تقدر بنحو 300 ألف رأس قبل عام 2010، والآن ليس لدينا سوى 150 ألف رأس فقط، لأسباب غير معلومة قد تكون تراجع الإقبال على اللحم الجملي وارتفاع ثمن الأعلاف اللازمة للتربية، أو لسهولة استيرادها من الخارج بدلا من تربيتها محليا، حيث يتم استيرادها بكميات كبيرة سنويا من السودان والصومال، وتمكث في الحجر الصحي عدة أسابيع ثم يتم ذبحها باعتبارها ليست جمال محلية.

وعن أسعار الإبل بسوق الجمال في مدينة شلاتين، يفيدنا الدكتور الرئيس بأنها زادت تأثرا بتحرير سعر الصرف وليس لأي أسباب أخرى، حيث يبلغ سعر الناقة وابنها ما بين 15 إلى 18 ألف جنيه، والجمل الصغير في حدود 8 آلاف، وترتفع قليلا في سوق برقاش بإمبابة.

ويختتم قائلا: “الإبل من مصادر البروتين الآمنة والرخيصة نسبيا في نفس الوقت، ولابد من أن يتغير سلوك المستهلكين أنفسهم للاتجاه إليها كبديل للحوم الأخرى التي وصلت لأسعار باهظة، مما سيؤدي لتخفيف الضغط على اللحوم الأخرى وبالتالي قد تنخفض أسعارها، كما سيحيي تجارة تتعرض الآن للزوال”.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى