رأى

فى الزراعة «عيش وحرية ورفاهية».. لـ«تحيا مصر»

محمود البرغوثى
محمود البرغوثى

بقلم: محمود البرغوثى

قد لا يصدق بعض المنظّرين السياسيين فى مصر، أن فى الزراعة حياة ورفاهية للشعوب والحكومات أيضاً، فيحاولون التقليل من شأنها أمام صانع القرار، على الرغم من تعاظم الصراع من أجلها عالمياً، كونها المصدر العام الوحيد لصناعة الغذاء، وأحد أهم مصادر صناعات أخرى عديدة، مثل الملابس والجلود والأخشاب والمنظفات والطاقة الجديدة والأدوية والمخصبات، ولا يزال مستوردون مصريون يجتهدون فى تهميش الاقتصاد الزراعى فى مصر، داعين إلى التوقف عن زراعة محاصيل استراتيجية بعينها، واستيرادها من الخارج، لزعمهم أن الزراعة لا تسهم فى الناتج الإجمالى القومى سوى بـ13% فقط، وتجاهلهم عمداً، أن حجم الاستثمارات الحكومية الموجهة للزراعة لا يزيد على 2,5% من إجمالى الاستثمارات العامة، وأن ميزانية مركز البحوث الزراعية خلال 2015 و2016، هبطت إلى ثلاثة ملايين جنيه فقط من الموازنة العامة للدولة، بعد أن كانت تتخطى حاجز الـ200 مليون جنيه قبل عام 2004، و120 مليون جنيه قبل 2014.

وفى الوقت الراهن الذى تتعرض فيه مصر لتحديات اقتصادية جبارة، يجب التنويه إلى ما فعلته البرازيل اقتصادياً واجتماعياً خلال ثلاثة أعوام فقط ما بين 2003 و2006 من بوابة الزراعة لا غيرها، على أيدى رئيس صعد من قاع المجتمع المهمش الجائع، لتكون قضيته الرئيسية: القضاء على الجوع وما يلازمه من خنوع واستسلام لاشتراطات صندوق النقد لمنحه قرضاً بـ30 مليار دولار.

كانت البرازيل دولة مدينة بـ260 مليار دولار ديوناً خارجية، منها 15,5 مليار دولار مستحقات لصندوق النقد الدولى، وبما نسبته 61% من الدخل القومى ديوناً داخلية، قبل مطلع يناير 2003، تاريخ تنصيب لولا دا سيلفا، ونجح فى تحقيق النهضة لبلاده، فسدد ديونها كاملة فى عامين، كما تمكن من سداد مستحقات صندوق النقد الدولى بنهاية 2005، لتتخطى حاجز الإفلاس، ثم تنهض إلى الترتيب الثامن عالمياً على مؤشر الاقتصادات الكبرى فى 2006، ثم يقرض صندوق النقد الدولى 10 مليارات دولار نهاية عام 2009.

لم يكن دا سيلفا اقتصادياً بارعاً، ولا مصرفياً نابغة، بل كان عاملاً بلا مأوى، وكان يشعر بما يشعر به المواطن العادى من الفقر والجوع، لكن الثقافة التى نال قسطاً كبيراً منها خلال حياته الصعبة، أكسبته الجرأة على اجتياح التحديات الكبرى، إذ عمل ماسحاً للأحذية، ثم حِرفياً فى ورشة نجارة، ثم ميكانيكى سيارات، قبل أن يلتحق بدورة ثلاثة أعوام فى مجال التعدين، ساعدته على الالتحاق بنقابة عمال الحديد التى ترقى فيها، حتى بلغ منصب نائب الرئيس عام 1967، ثم رئيساً للنقابة عام 1978، ليؤسس مع غيره من اليساريين حزب العمال فى 1980، الذى يخوض من خلاله انتخابات رئاسة الجمهورية، ليفوز بالمنصب فى أكتوبر 2002 بعد الفشل ثلاث مرات، ثم يتسلم مقاليد الحكم وملفات البلاد مطلع يناير 2003.

كيف نهض داسيلفا باقتصاديات بلاده من بوابة الزراعة؟

استعان الرجل بستة من أساتذة البحوث الزراعية برازيليين مهاجرين إلى أمريكا، فى مجالات: المحاصيل، والإنتاج الداجنى، والإنتاج الحيوانى، وركز فى الأولى على تجويد زراعة البن والاستيفيا السكرية وتصنيعهما للتصدير، ثم على الذرة الصفراء والصويا، ليحقق أرقاماً عالمية قوامها: 25% من إنتاج السكر فى العالم، وثمانية أنواع من الذرة الصفراء بنسبة بروتين 52%، بزيادة 6% بروتين على الذرة الصفراء الأمريكية، ليتمكن من الوصول بالبرازيل إلى تصدير 74 مليون دجاجة مطلع كل شمس، بعد الاكتفاء الذاتى، وتمكن من منافسة أمريكا فى تصدير الذرة الصفراء والصويا.

لم يكتف دا سيلفا بالإنتاج، بل ركز على ضرورة جنى القيم المضافة، حيث نظم مؤتمراً اقتصادياً زراعياً فى مارس 2003 بعد توليه الحكم بثلاثة أشهر فقط، وطرح برنامجه الإصلاحى، الذى سال له لعاب المستثمرين البرازيليين المهاجرين، ثم الأجانب، حيث أغراهم بالأرض مجاناً، واستيراد المصانع كاملة بمعداتها وقطع غيارها دون جمارك، مع الإعفاء من الضرائب لمدة خمسة أعوام، جنى بعدها لخزانة الدولة عشرة أضعاف ما كان يمكن أن يضيفه فى حالة عدم الإعفاء الجمركى النهائى والضريبى المؤقت.

حقق برنامج دا سيلفا نقلة نوعية لم يكن يتخيلها مسئولو صندوق النقد الدولى، حيث نجح «الرئيس العمالى» فى سداد ديون سابقيه، ليس من الإنتاج الزراعى فقط، الذى نفقد منه فى مصر نحو 40%، بسبب ترهل منظومة التوريد والتخزين والتصنيع، بل بإنشاء أكبر أسطول بحرى لتصدير الدواجن فقط، بعد أن اطمأن إلى نجاح برنامج طموح متكامل لتطوير صناعة الدواجن فى بلاده.

وفى مصر، تتطلب المنظومة المتكاملة لصناعة الدواجن فقط: تحقيق عنصر الأمان الحيوى من خلال وضع خريطة وبائية بالأمراض المنتشرة محليا، وعزل الفيروسات المسببة لها، ثم إنشاء مصانع أمصال ولقاحات محلية تصلح للفيروسات المعزولة (وفى ذلك فرص استثمارية حكومية أو خاصة واعدة)، ثم التشديد على وجود المزارع فى مناطق ليست متاخمة للكتلة السكنية، ومنح تراخيص للمزارع العشوائية الحالية، دون النظر لطبيعة الملكية ونوعها، حتى تدخل دائرة الرقابة البيطرية الرسمية، ثم التوسع فى زراعة الذرة الصفراء والصويا لتوفير أعلاف محلية طازجة خالية من السموم الفطرية، بتكاليف منخفضة، تضمن إنتاجاً بسعر تنافسى، شرط توفير خطة موازية من وزارة الزراعة، والاتحاد التعاونى الزراعى المركزى، تضمن تسويق الذرة إلى منتجى الدواجن.

منتجو الدواجن فى مصر ليسوا من الصنف الذى تهفو نفسه دائماً إلى الاستيراد، ليس حباً فيما يصلح الاقتصاد الوطنى فقط، لكن أيضاً عملاً للصالح الخاص، حيث إن جميع الدول المنتجة للذرة الصفراء، لا تصدّر سوى إنتاج العام السابق، ليظل إنتاجها الطازج طوع احتياجاتها الذاتية، وبالتالى تظل الذرة الطازجة المحلية المصرية أجود كثيراً من «الإنتاج البايت»، المحمل بسموم فطرية تتطلب مضادات سموم، وتحصينات، كما تقل نسبة تحويلها إلى لحوم، مقارنة بالذرة الطازجة الخالية من السموم الفطرية.

الاهتمام بمحور واحد استراتيجى، يتضمن بالضرورة عدة محاور فرعية مهمة، يصب جميعها فى صالح الاقتصاد الكلى للدولة، وفى الزراعة تحديداً والصناعات القائمة عليها والمغذية لها، يمكن تحقيق «الرفاهية»، وليس «العيش» فقط.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى