رأى

سد النهضة والأمن القومي المصري

عادل عامر
بقلم: د.عادل عامر
إن التعامل مع قضية الأمن القومي العربي يتم بالقطعة ودون حسابات أو خطط أو استراتيجيات، تنم عن فهم لعمق الموضوع حتى تم ترك القرن الأفريقي لأعداء العرب يعبثون فيه ويطلقون الغزوات تلو الغزوات ضدهم. إن التشتت العربي أغرى الدول حتى الصغير منها للتجاوز وعدم الاكتراث بردود أفعالهم، وها نحن نرى دولة كانت مهملة في أفريقيا تناطح أكبر دولة عربية وأفريقية دون أن تكترث بالعواقب
 لأنها فيما يبدو تقتنع تماما بأنه لا توجد عواقب! القضية ليست مجرد بناء سد وتأثير ذلك على الحياة لأكثر من 90 مليون مواطن عربي – أي أكثر من ثلث العالم العربي – أكثر من 95 في المائة منهم من المسلمين.
لقد أعلنت أثيوبيا أنها انتهت من بناء أكثر من 32 في المائة من السد، وتقوم أديس أبابا بالإعلان عن تطورات البناء بشكل واضح وصريح دون تردد أو تململ أو خوف من أي رد فعل من مصر أو من غيرها من الدول العربية، رغم ما سيحمله المشروع من تهديد ضخم لحياة الملايين.
يرجع موضوع بناء سد النهضة إلى ما قبل خلع الرئيس مبارك، حيث كان مبارك قد قطع صلته بأفريقيا تقريبا بعد محاولة اغتياله في أثيوبيا، وتوترت العلاقات بين الجانبين وترك المجال مفتوحا لدخول الكيان الصهيوني إلى أثيوبيا لإقامة مشاريع كبيرة هناك منها المساهمة ببناء السد.
الغريب أننا لم نر موقفا حاسما من الدول العربية التي لها استثمارات في أثيوبيا، ولم نجد موقفا حاسما من الجامعة العربية، حتى السودان موقفها مضطرب وتميل إلى أثيوبيا أكثر، وهو ما يثير الدهشة لكنه يلفت النظر لعمق الأزمة في العلاقات العربية – العربية من جهة والعلاقات العربية – الأفريقية من جهة أخرى. فمصر بريادتها في المجال الإعلامي. وبما تملكه من أقمار صناعية. وكوادر إعلامية تستطيع أن تحقق كثيراً من التقارب والحوار والتعاون الفاعل بين دول الحوض. وبما يرسخ العلاقات التاريخية بينها جميعاً.
إن توجه إسرائيل نحو دول أفريقيا ظل دائماً يشكل جزءاً من الصراع العربي الإسرائيلي، وجزءاً من نظرية الأمن الإسرائيلية القائمة على التفوق العسكري واكتساب الشرعية والهيمنة والتحكم في المنطقة وتطويق الدول العربية – خاصة مصر– وحرمانها من أي نفوذ داخل القارة الأفريقية. لذلك يحاول الكيان الصهيوني دائماً استغلال الخلافات العربية مع بعض الدول الأفريقية وتعميقها، وتهديد أمن الدول العربية المعتمدة على نهر النيل بمحاولة زيادة نفوذها في الدول المتحكمة في مياه النيل من منابعه، مع التركيز على إقامة مشروعات زراعية تعتمد على سحب المياه من بحيرة فيكتوريا.
وهي تستغل في ذلك العداء التاريخي بين إثيوبيا والعرب وإمكاناتها في التأثير في السياسة الأوغندية، إلى جانب قيامها بتشجيع الحركات الانفصالية في جنوب السودان، كما تسعى إلى خلق تيار مناهض للعرب خاصة في المناطق المطلة على الساحل الشرقي في أفريقيا، وهكذا تولي إسرائيل أهمية خاصة للقرن الأفريقي لاعتبارات عديدة منها وجود السودان باعتباره دولة إسلامية لها نشاط إسلامي ملموس في الدول الأفريقية.
وتخوف إسرائيل من أن يتحول القرن الأفريقي -خصوصاً على امتداد الساحل البحري – إلى منطقة نفوذ إيرانية سودانية، من شأنها تعريض مصالحها الإستراتيجية لخطر كبير، كما تركز إسرائيل على نيجيريا باعتبارها دولة إسلامية كبرى في أفريقيا، وقد أسهم الضغط الأميركي في فتح الأبواب النيجيرية للشركات الإسرائيلية. وتقوم جماعات تبشيرية يهودية، من بينها “شهود يهوه” التي استطاعت أن تؤثر في فئات مسيحية ومسلمة لاعتناق ما تدعو إليه عن طريق الإغراءات وتقديم المساعدات. ثم يأتي مدخل “المجتمع المدني والتنمية” حيث اتخذت إسرائيل دعم كل من المجتمع المدني والديمقراطية في إفريقيا مدخلًا للنفاذ والتغلغل داخل نسيج المجتمع الأفريقي، بالإضافة إلى تحركاتها لمكافحة الإيدز في القارة عبر إقامة مراكز طبية في الأماكن الصحراوية لهذا الغرض في بتسوانا وغيرها من الدول الأفريقية، ويعد هذا المدخل من أهم وأكثر المداخل فعالية لكسب قلوب الشعوب الأفريقية وعقولهم في هذه الآونة. وللأسف نجح الكيان الصهيوني في اختراق إفريقيا من خلال “المدخل الأمني” حيث تمتلك إسرائيل مصداقية لدى الدول الأفريقية في ميادين الاستخبارات والتدريب العسكري، كما أنها تتبنى سياسة تهدف إلى إشعال الصراعات في إفريقيا وتصعيدها بهدف إسقاط جميع الأنظمة التي تسعى للتقارب مع الدول العربية.
ولإحكام السيطرة السياسية والاقتصادية الإسرائيلية تقوم بدعم أنظمة الحكم المتعاونة معها والموالية لها في القارة الأفريقية، وتوسيع دور حركات المعارضة في الدول غير الموالية لإسرائيل لنشر حالة من عدم الاستقرار السياسي، وتتعامل إسرائيل مع الأشخاص الأفارقة ذوي النفوذ الذين لهم مستقبل سياسي فاعل في بلدانهم.
لقد سعت مصر منذ القدم إلى تنظيم علاقتها بدول حوض النيل والاتصال الدائم بها بالاتفاق على الأسلوب الأمثل لاستغلال مياه نهر النيل بما يعود بالنفع على كل دول الحوض مع الحفاظ على حق مصر التاريخي في مياه نهر النيل. وبالفعل نجحت مصر في ذلك من خلال عقد العديد من الاتفاقيات سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي، يصل عددها إلى أكثر من 15 اتفاقية، وقع بعضها أبان فترات الاستعمار، وكان لها تأثير على العلاقات الحالية بين مصر ودول الحوض. والمشكلة في بناء هذا المشروع الضخم تتمثل في تلك الفترة المطلوبة لملء خزان السد، حيث ستحول كميات كبيرة من مياه النيل الأزرق التي تنتهي إلى السودان ثم مصر ستتحول إلى الخزان، إذ يتوقع أن تتقلص حصة البلدين من تدفق النيل بشكل ملحوظ خلال فترة ملء الخزان. وتسعى القاهرة والخرطوم مقابل الموافقة على إنشاء السد، إلى تنظيم عملية ملء الخزان على نحو يقلل من حجم الضرر المائي على البلدين.
ويرى الخبراء أن الدولتين ستدفعان باتجاه تقنين فترة ملء الخزان بجعل فترة ملء الخزان لا تقل عن خمسة عشر عاما، وبإشراف خبراء من البلدين، إلى جانب التوقف عن عملية الملء في حال تراجع المنسوب إلى أقل من المتوسط العام، في ظل استخدام إثيوبيا أسلوب “التمويه والخداع الاستراتيجي” في إدارة ملف حوض النيل والمراوغة لكسب الوقت، وأخيرا استباقها قرار اللجنة الثلاثية المكلفة بتقييم السد وبدأت في فرض مشروعها كأمر واقع جديد بالإعلان عن تحويل مجرى النيل الأزرق لبدء الأعمال الإنشائية لـسد النهضة، ومن ثم تضاعف قلق المصريين والسودانيين بخصوص تأثيره على تدفق مياه النيل وحصة مصر والسودان منها. ورغم أن مصر تواجه خطر “وجود” حقيقي وتهديد مباشر للأمن المائي والأمن الاقتصادي والأمن القومي المصري في حال استكمال إثيوبيا بناء السد وتشغيله، إلا أن الإجراءات التي تتخذها الإدارة المصرية في سبيل حماية نهر النيل والحفاظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة به ليست على النحو المأمول، وليست على مستوى الخطر الذي يهدد مصر، إن التهديد لمصالح مصر نتيجة إنشاء سد النهضة يصل إلى المستوى المصيري، وهناك تهديد شديد ومباشر لوجود وبقاء واستمرار الدولة، الأمر الذي يضعنا في حالة من حالات الدفاع المشروع عن الدولة، وهي من الحالات التي يقرها القانون الدولي إذا اقتضى الأمر، إذا ما فشلت التسويات السلمية من الوصول إلى تسوية موضوعية ومقبولة تحمي نهر النيل وتحافظ على حقوق مصر التاريخية المتعلقة بالنهر.
ولا شك أن التحرك بفاعلية وبصورة تكاملية في الاتجاهات السابقة وغيرها من شأنه أن يُحدث نقلة نوعية في التقارب والتفاهم، وسيقضي على ما يحاك لمصر من الصهيونية العالمية التي تلعب ليل نهار في أدمغة عدد من حكومات وشعوب دول منابع نهر النيل، وما سد النهضة الإثيوبي منا ببعيد ومن ذلك أيضا تحديث المعاهدات الدولية المتعلقة بتوزيع حصص مياه النيل، ذلك أن الحاجة لعقد اتفاقية دولية جديدة تضم كافة دول الإقليم تحت إشراف الأمم المتحدة تراعي وتؤكد سيادة الدول على أراضيها، وتراعي المستجدات والمتغيرات الحديثة.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى