بحوث ريفية

دراسة: تبوير 4,6 مليون فدان بسبب ملء خزان سد النهضة فى 3 سنوات

تبوير الأراضى الزراعية بسبب سد النهضة

كتب: أسامة بدير كشفت دراسة أعدها الدكتور جمال صيام، أستاذ الاقتصاد الزراعى بكلية الزراعة فى جامعة القاهرة، التى جأت بعنوان: الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المحتملة لسد النهضة الإثيوبى وانعكاساتها على مستقبل الزراعة المصرية، أن السيناريو الأسوأ على الإطلاق سوف يحدث إذا ما قررت إثيوبيا أن تملأ بحيرة السد فى ثلاث سنوات فقط إذ ترتفع الكمية المحجوزة سنويا إلى 24,7 مليار م م نصيب مصر منها 18,5 مليار م م سنويا، ترتفع إلى 25,5 مليار م م سنويا فى حالة الفيضان الضعيف. الأمر الذى يعنى تبوير 4,6 مليون فدان أى أكثر من 51,5% من الرقعة الزراعية الحالية.

وحصل “الفلاح اليوم” على نسخة من الدراسة وينشرها كاملة..

مقدمة

لا يشكل نهر النيل بالنسبة لمصرمصدر المياه فحسب، وإنما هو أكبر كثيرا من ذلك فى الوجدان والثقافة المصرية، فقد قامت الحضارة الزراعية الأولى على أرض مصر بفضل النيل، وتمحورت حوله منذ ذلك الحين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى الدينية فى الحضارة المصرية القديمة.

ورغم أن مساحة مصر الجغرافية كبيرة نسبيا وتبلغ مليون كيلومتر مربع، إلا أن سكانها (الـ90 مليون حاليا) يتكاكأون فى وادى النيل على جانبيه ودلتاه فى شريط أخضر ضيق لا تتجاوز نسبته 4.5% من المساحة الكلية.

وما زال نهر النيل على أهميته باعتباره المصدر الوحيد تقريبا للموارد المائية فى مصر لمواجهة احتياجات الزراعة فضلا عن الشرب والصناعة والسياحة والنقل. إلا أن أهميته بالنسبة للزراعة مركزية، فبغير مياه النيل تصبح الزراعة المصرية أثرا بعد عين، والزراعة وإن كانت مساهمتها فى الناتج المحلى الإجمالى ضئيلة نسبيا (نحو 13%)، إلا أنها تشكل المصدر الرئيسى للدخل والإعاشة بصورة مباشرة بالنسبة للسكان الزراعيين وعددهم 40 مليون نسمة (44.4% من سكان مصر) وبصورة غير مباشرة بالنسبة للسكان الريفيين غير الزراعيين وعددهم نحو 10 مليون نسمة (11,1% من سكان مصر)، وتغطى نحو 60% من الاحتياجات الغذائية للسكان المصريين.

والآن، ولأول مرة فى التاريخ، يتعرض النيل لأكبر تحد يعطل مسيرته من دولة المنبع إثيوبيا إلى دولة المصب مصر. ويتم هذا التحدى ببناء إثيوبيا لـسد النهضة على النيل الأزرق قرب الجانب الشرقى للحدود السودانية. ومن المخطط أن ينتهي بناء السد بحلول 2017. وهناك كم محدود للغاية من المعلومات متاح للدول التي ستتأثر ببنائه وبالتحديد دولتى المصب السودان ومصر. وترى مؤسسة ’إنترناشيونال ريفرز أن مشروعا عملاقا كهذا السد، يجري تشييده على نهر مشترك لا يتاح عنه إلا هذا الكم المحدود للغاية من المعلومات للدول التي ستتأثر ببنائه. وأنه لم تبلَّغ مصر ولا السودان بالمشروع إلا بعد البدء في تشييده فعليًّا، رغم أن السد سيحجز كمية هائلة من مياه النيل، وبالنظر إلى أهمية نهر النيل – وبالأخص لمصر- يعد هذا تصرفًا غير مسؤول من الجانب الإثيوبي

وتعتمد الآثار المترتبة على السد على الكيفية التي سيجري تشغيل السد بها، وعلى ماهية الاتفاقات المزمع عقدها، ودون وجود اتفاقات بين إثيوبيا ودولتى المصب، لا ضمانات لتوفر الماء. ويجمع الخبراء على أن إدارة مياه النيل لا بد أن تتم بموافقة جميع الدول التي يجري فيها النهر، وأن احتياجات الدول لابد أن توضع في الاعتبار. مستقبلا من المحتمل، فى حالة غياب هذا التوافق، أن تتسبب المياه في قيام نزاعات عنيفة بين الدول، خاصة مع تضخم ظاهرة التغير المناخي وازدياد عدد السكان.

خطط ونوايا إثيوبيا وطموحات إثيوبيا فى السيطرة الإقليمية والصراع التاريخى بين إثيوبيا ومصر

إثيوبيا إحدى دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وتنتمى إلى مجموعة الدول منخفضة الدخل، وبها مقر الاتحاد الأفريقى بالعاصمة أديس أبابا، ويبلغ عدد سكانها نحو 85 مليون نسمة، حيث يبلغ نصيب الفرد من الدخل 330 دولار سنويا. ويحقق الاقتصاد الإثيوبى معدل نمو مرتفع يصل إلى 11% سنويا، ويعد ثالث أسرع المعدلات بعد الصين والهند على مستوى العالم.

ويرى الإثيوبيون أن بلدهم جاذب للاستثمار الزراعى فى ضوء ما تتمتع به من موارد زراعية من أراض قابلة للزراعة ومياه الأمطار والأنهار فضلا عن الأيدى العاملة الرخيصة، وتبلغ جملة الأراضى القابلة للزراعة فى إثيوبيا نحو 75 مليون هكتار يزرع منها نحو 15 مليون هكتار.

وتتمتع إثيوبيا بتنوع شديد فى التربة والمناخ بما يسمح بزراعة أكثر من 150 نوعا من النباتات، ويرون أن عليهم تأمين المتطلبات من الكهرباء من خلال الاستفادة من مواردها الطبيعية لتوليد طاقة نظيفة ومتجددة كالطاقة الهيدروليكية المولدة من السدود. إلى جانب السيطرة على الفيضانات وزيادة رقعة الأراضي المزروعة بالرى.

ويأتى بناء سد النهضة فى هذا السياق، إذ يمكنهم من إنتاج طاقة كهربية تقدر بـ6000 ميجاوات سنويا يباع الجزء الأكبر منها إلى دول أخرى، ويمكنهم كذلك من تحويل مساحات كبيرة من الزراعة المطرية إلى الزراعة المروية، وقد يتمكنون مستقبلا من إقامة بنك للمياه حيث يبيعون المياه للدول الأخرى بما فيها مصر.

فعلى مدى جلسات التفاوض لم ينجح المفاوض المصرى فى الحصول على أى تنازل من قبل المفاوض الإثيوبى أو حتى حلحلته عن موقفه المتعنت. إثيوبيا لديها من الآن حق التحكم الاستراتيجى الكامل فى مياه النيل الأزرق بعد نقل تخزين المياه من بحيرة السد العالى إلى الهضبة الإثيوبية. والغاية النهائية للمفاوض الإثيوبى من وراء تشبثه بهذا الموقف المتعسف هو أن ترضخ مصر للتفاوض على أرضية جديدة تماما مؤداها أن مياه النيل الأزرق هى ملك لإثيوبيا ولها الحق فى التصرف فيها كيفما تشاء وعلى النحو الذى يعظم مصالحها منفردة.

السيناريوهات المحتملة لحصة مصر المائية فى ظل السد

رغم المفاوضات التى تجرى بين الدول الثلاث على مدى السنوات السابقة ومد يد التعاون من جانب مصر يبدو الموقف الإثيوبى متعسفا لا يبدى أى قدر من المرونة، بل على العكس يستغل الموقف المصرى المرن فى تثبيت مكتسبات تفاوضية لصالحه. واقرب مثال على ذلك اعتباره وثيقة الخرطوم اعترافا بـالسد بسعته الكبرى من جانب دولتى المصب، ويؤيد ذلك أحدث تصريحات لوزير الرى والكهرباء الإثيوبى الذى يؤكد فيها أن مسالة ملء وتشغيل السد هى جزء لا يتجزأ من إجراءات بناء السد الذى تعترف به الوثيقة، ومن ثم فلا مجال للتفاوض حولها مع دولتى المصب. ويلقى هذا الموقف ظلالا كثيفة من الشك على مدى التزام إثيوبيا بنتائج الدراسات الفنية التى من المفترض أن تبدا فى أول فبراير 2016 وتنتهى فى يناير 2017، وهى غير ملزمة أصلا.

ومن ناحية أخرى، إثيوبيا لم تعترف مطلقا بحصة مصر المائية التاريخية، مما يعطى انطباعاً واضحاً وصريحاً بأن إثيوبيا لا تقر بكمية المياه التى تستخدمها مصر حالياً ومنذ أكثر من خمسين عاماً، والتى تبلغ 55,5 مليار متر مكعب سنوياً. ويترتب على هذا الموقف أن مصر تتعرض لسيناريوهات مفتوحة فيما يتعلق بإيراد النهر عند السد العالى وكلها تتوقف على المزاج الإثيوبى فضلا عن التغيرات المناخية بالنسبة للفيضان والجفاف.

وتعتبر فترة ملء خزان السد من أخطر الفترات تأثيرا على إيراد النهر وخاصة عدد سنواتها، فبعد الانتهاء من تشييد السد، سيكون من المهم تحديد فترة ملء الخزان، فكلما كانت فترة الملء أقصر سارع ذلك من توليد الكهرباء وهو ما تريده إثيوبيا، ولكن في المقابل سيخفض ذلك من سريان المياه لدول المصب بشكل كبير وستعانى مصر من الجفاف بشدة أثناء فترة الملء.

وبصرف النظر عن الموقف التفاوضى الحالى الذى يمكن أن يتغير خلال الجلسات المكثفة القادمة، فإن السيناريوهات المحتملة للتغير فى الموقف يمكن تقسيمها إلى مجموعتين، الأولى يمكن أن يطلق عليها، سيناريوهات التعاون ،الثانية سيناريوهات الصراع (او اللا تعاون)، ويمكن توضيحهم فيما يلى:

1ـ سيناريوهات التعاون

تقوم سيناريوهات التعاون بين دول حوض النيل الشرقى على استراتيجية “الجميع رابحون” Win-win strategy. وتنطوى على تعظيم استغلال الموارد المائية المتاحة بـالهضبة الإثيوبية البالغة 1600 مليار متر مكعب سنويا والتى يقل ما يستغل منها فى دول الحوض 100 مليار متر مكعب سنويا تمثل نسبة 6%.ويتم ذلك من خلال مشروعات “استقطاب الفواقد” من مستنقعات البارو أكوبى التى يفقد فيها من 12 إلى 14 مليار متر مكعب سنوياً.

أما بالنسبة لـسد النهضة فتنطوى سيناريوهات “الجميع رابحون” على الحفاظ على الحصص المائية لدولتى المصب مع توليد الكهرباء بالكميات التى ترغب فيها إثيوبيا. وفى ظلها تتحقق شعارات لا مساس بـالأمن المائى لمصر والسودان، ولا ضرر ولا ضرار. بل يعتقد وزير الرى السودانى إلى احتمال زيادة حصة مصر المائية بنحو 3,5 مليار متر مكعب سنويا نتيجة لفروق الفاقد بالبخر فى بحيرتى سد النهضة والسد العالى.

ولو أن هذه يمكن أن تكون نقطة خلافية لأن التسرب من بحيرة سد النهضة قد يكون أعلى منه فى بحيرة السد العالى. ويقتضى هذا النوع من السيناريوهات مرونة أكبر فى الموقف الإثيوبى نحو إشراك دولتى المصب فى إدارة وتشغيل السد طبقا لقواعد ملىء وتشغيل يتفق عليها وتلتزم بها الدول الثلاث التزاما صارما. كما تقتضى أن توافق إثيوبيا على تمديد فترة الملء إلى فترة طويلة تصل إلى 15 سنة وخاصة فى سنوات الجفاف.

2ـ سيناريوهات الصراع

تنشا سيناريوهات الصراع نتيجة للموقف الإثيوبى المتعنت الذى يرفض حتى الآن الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل أو الاتفاق على الإدارة المشتركة للسد أو الاتفاق على مبدأ التعاون أصلا.وعلى عكس سيناريوهات “الجميع رابحون”، تتسبب سيناريوهات الصراع فى إيقاع أضرار بالغة بـالأمن المائى لدولتى المصب مصر والسودان, وإن كان بدرجة أقل بالنسبة للسودان.

وتشير مواقف إثيوبيا العديدة السابقة إلى ترجيح سيناريوهات الصراع على سيناريوهات التعاوان ابتداء من اتفاقية عنتيبى ورفضها مبدأ الإخطار المسبق وعدم اعترافها بالحصة المائية لمصر ولا بالاتفاقيات السابقة المتعلقة بنهر النيل ،وتبنيها للمصطلح المراوغ “الاستخدامات المائية” بدلا من الحصص المائية، وموقفها الانتهازى فى البدء فى تشييد سد النهضة فى غمرة انشغال مصر بأحداث ثورة يناير دون إخطار دولتى المصب، بل وتكبير السد من سد سعته 14 مليار متر مكعب إلى سد ضخم سعته 74 مليار متر مكعب بارتفاع 145 متر يقوم بتوليد نفس الكمية من الكهرباء التى يولدها السد الأصغر أى 6000 ميجاوات سنويا. وفى آخر جلسات التفاوض طلبت مصر من إثيوبيا إضافة بوابتين إلى بوابتى السد الأصليتين لزيادة تصريف المياه إلى مصر، ووعدت إثيوبيا بدراسة الطلب، وهكذا تسجل إثيوبيا قاعدة جديدة فى التعامل مع مصر تمسك فيها بزمام أمور السد بعيدا عن مبدأ الإدارة المشتركة للسد.

آثار السد على الموارد الزراعية المائية والأرضية المصرية فى ظل سيناريوهات الصراع

1ـ أثر السد على المياه الواردة لمصر

هنا لا نستخدم لفظ “حصة مصر المائية” لأنه لن تكون هناك حصة محددة وثابتة على النحو الذى استمر العمل به على مدى خمسين عاما، وإنه سيكون هناك كمية من المياه متغيرة تختلف من سنة إلى اخرى أو حتى من شهر لآخر طالما ظلت لإثيوبيا ترفض الإلتزام بحصة محددة. وتختلف الكمية الواردة سنويا لمصر أثناء فترة ملء بحيرة السد عنها فيما بعد الملء.

أ. المياه الواردة لمصر فى فترة الملء: تتحدد كمية الواردة لمصر أثناء فترة الملء فى ضوء عدد سنوات التى تقررها إثيوبيا للملء. وتقترح الدراسات الإثيوبية أن يتم الملء في فترة 6 سنوات “بغض النظر عن إيراد نهر النيل. وعلى ذلك، وبناء على الحجم الكلى للتخزين المحدد بـ74 مليار متر مكعب، يقدر التخزين السنوى بـ12 مليار متر مكعب. وطبيعى أن هذه الكمية سوف تخصم من إيراد النهر لدولتى المصب السودان ومصر مقسمة بينهما 25% و75% أى 3 و9 مليارات على الترتيب.

وفى ظل هذه التقديرات تبلغ كمية المياه الواردة لمصر 46.5 مليار متر مكعب، أى ما يقل بنسبة 16,2% عن الحصة الحالية. وطبيعى أن الخصم يمكن أن يزيد عن ذلك فى سنوات الجفاف أو الفيضان المنخفض، وقد يزيد بالنسبة لمصر إى 16 مليار متر مكعب سنويا فى فترات الجفاف. ويلاحظ أن هذه الحسابات لم تأخذ فى الاعتبار معدلات البخر فى البحيرة. أما إذا قررت إثيوبيا أن تختصر فترة الملء إلى 3 سنوات فقط، وهو أجدى لها اقتصاديا من الفترة الأطول، فسوف تقل الكمية الواردة لمصر من المياه بـ18,5 مليار متر مكعب سنويا، أى ينخفض الإيراد النهرى لمصر إلى 37 مليار متر مكعب سنويا بنسبة انخفاض 33,3% عن الحصة الحالية.

ب. المياه الواردة لمصر فيما بعد الملء: بعد امتلاء بحيرة السد، لن تعود الأمور إلى مجراها الطبيعى كما كانت قبل السد.فهناك الفاقد المائى نتيجة البخر من البحيرة، وهناك مشاريع التوسع فى الزراعة المروية والتى تخطط لها إثيوبيا والتى تقدر كمرحلة أولى بعد إتمام السد بنحو 2 مليون فدان. فإذا قدر الفاقد بالبخر ب 10 مليارات متر مكعب واحتياجات الرى للمساحة المذكورة ب 10 مليارات أخرى، فيكون إجمالى الخصم من ايراد دولتى المصب 20 مليار متر مكعب سنويا نصيب مصر منها 15 مليار ، أى بنسبة انخفاض 27% عن الحصة الحالية.

2ـ أثر السد على المساحة المزروعة وتوزيعها الجغرافى

سوف يؤدى العجز المائى المتزايد إلى تقلص الرقعة الزراعية فى مصر بدرجات تتفاوت حسب السيناريوهات المتوقعة فيما يتعلق بالكميات المائية الواردة إلى مصر فى فترتى التخزين وما بعده.كما يتوقع أن يتغير التوزيع الجغرافى للرقعة الزراعية حسب المناطق المتضررة من نقص المياه.

وللحصول على تقدير مبدئى للمساحة الزراعية المعرضة للفقد أثناء فترة الملء يؤخذ فى الاعتبار أن الزراعة تستهلك حاليا نحو 50 مليار متر مكعب سنويا، وأن الرقعة الزراعية الإجمالية 9 مليون فدان، فيكون متوسط ما يستهلكه الفدان من المياه 5500 متر مكعب سنويا.

وعلى ذلك ففى حالة السيناريو الأول (فترة ملء 6 سنوات وحجز 9 مليار م م سنويا) تبلغ المساحة الزراعية المعرضة للفقد 1,6 مليون فدان (تمثل 17% من إحمالى المساحة)، وفى حالة السيناريو الثانى (الملء فى ظل فيضان تحت المتوسط او ضعيف) الذى ينخفض فى ظله الإيراد المائى لمصر ب 16 مليار م م سنويا تزيد المساحة الزراعية المفقودة إلى 2,9 مليون فدان (تمثل 32% من إجمالى المساحة).

أما السيناريو الأسوأ على الإطلاق فيحدث إذا ما قررت إثيوبيا أن تملأ بحيرة السد فى ثلاث سنوات فقط إذ ترتفع الكمية المحجوزة سنويا إلى 24,7 مليار م م نصيب مصر منها 18,5 مليار م م سنويا ترتفع إلى 25,5 مليار م م سنويا فى حالة الفيضان الضعيف. الأمر الذى يعنى تبوير 4,6 مليون فدان أى أكثر من 51,5% من الرقعة الزراعية الحالية.

أما بالنسبة للتوزيع الجغرافى للمساحة الزراعية المفقودة فيتوقف على أى المناطق أكثر تضررا من غيرها نتيجة لنقص المياه سواء فى الأراضى القديمة أو الجديدة. ومن المتوقع أنه سيكون لوزارة الموارد المائية دور فى إعادة توزيع الكميات الواردة على مختلف المناطق آخذة فى الاعتبار العجز الإضافى فى الموارد. ومن حيث المبدأ قد يحدث الفقد بصورة رئيسية فى أراضى محافظات شمال الدلتا. وسوف تتضرر الأراضى القديمة بشكل أكبر من الأراضى الجديدة، نظرا لأن الأولى تستخدم طريقة الرى بالغمر والثانية تستخدم طرق الرى الحديثة.

وجدير بالملاحظة، أن الضرر الناشىء عن نقص المياه فى منطقة معينة إما يأخذ صورة تبوير كامل للأرض الزراعية وهذا يمكن أن يحدث فى حالة الانقطاع الكامل للمياه، أو يأخذ صورة تبوير جزئى للأرض الزراعية كأن تزرع شتاء ولا تزرع صيفا. وهناك صورة ثالثة أن تتم زراعة الأرض زراعة كاملة ولكن المحاصيل لا تحصل على كامل احتياجاتها المائية مما يؤثر سلبا على الإنتاجية الفدانية. وفى جميع هذه الصور يصبح تجريف الأراضى الزراعية والتغول العمرانى عليها أمرا واقعا. ومن الصعب حينئذ استعادة خصوبة الأراضى إلى ما كانت عليه.

3ـ الآثار البيئية للسد وتداخلها مع أثر التغيرات المناخية

من المعروف أن مصر تنتمى جغرافيا إلى أكثر المناطق جفافا على مستوى العالم.كما أن الدراسات البيئية العالمية توضح أن مصر ستكون إحدى الدول القليلة التى ستضرر من ارتفاع سطح البحر فضلا عن الآثار الناشئة عن الاحتباس الحرارى. فمن المتوقع أن تتعرض أجزاء كبيرة من منطقة الدلتا إلى الغرق بمياه البحر المتوسط فى حالة ارتفاع سطح البحربما يتراوح بين نصف متر إلى متر بحلول عام 2050.

هذا بخلاف ظاهرة تسرب مياه البحر تحت أراضى الدلتا مخلفة ظاهرة تملح التربة وتدهور خصاتصها وانخفاض إنتاجيتها. ولهذا السبب تعمل الدولة على وجود مساحات مزروعة بالأرز لا تقل عن 700 ألف فدان فى شمال الدلتا للحد من هذه الظاهرة.

ولاشك أن نقص الموارد المائية بسبب السد بما يتراوح بين 9-18.5 مليار متر مكعب سنويا سوف يجعل من الصعب الحفاظ على زراعات الأرز كما هى عليه الآن، ومن ثم يتوقع أن تضرب مياه البحر بالتملح أكثر من مليونى فدان فى منطقة الدلتا.

أما السيناريو الكارثى حقا هو أن يتواكب مع السد ظاهرة الجفاف فى الهضبة الإثيوبية مع ظاهرة ارتفاع مياه البحر متزامنا ذلك كله مع ظاهرة الاحتباس الحرارى. هذا فضلا عن توقعات بزيادة معدلات التصحر والتجريف والتملح فى الأراضى الزراعية نتيجة لنقص المياه فى ظل السد. وستزداد ظاهرة تملح الأراضى نتيجة لزيادة درجة الملوحة فى المياه. ومن الآثار البيئية أيضا انخفاض موارد المياه الجوفية المتجددة المعتمدة على التسرب من مياه النيل.

4ـ أثر السد على الإنتاج الزراعى والفجوة الغذائية

يلقى سد النهضة بظلال كثيفة على الإنتاج الزراعى فى مصر حيث يتعرض إلى نقص جوهرى نتيجة لفقد هذا الكم الهائل من الموارد المائية والأرضية. ولا يعزى النقص إلى الفقد الكلى أو الجزئى فى المساحة الزراعية فقط بل يتقرر كمحصلة للفقد فى المساحة والتوزيع الجغرافى لها والتغير فى التركيب المحصولى والفقد فى الإنتاجية الزراعية.

فالتركيب المحصولى فى ظل عجز المياه يتجه إلى زراعة المحاصيل الأقل احتياجا للمياه على حساب المحاصل كثيفة استخدام المياه. أما بالنسبة للإنتاجية الزراعية فيتوقع أن تنخفض لأكثر من سبب، الأول نتيجة لقصور المياه عن استيفاء الاحتياجات المائية للمحاصيل، والثانى هو تدهور نوعية المياه بسبب زيادة درجة الملوحة، وزيادة معدل تدوير المياه.

فى المجمل إذا كان الناتج المحلى الإجمالى حاليا يبلغ 250 مليار جنيه، فإن قيمة الفقد فى الإنتاج الزراعى تتراوح بين 42 و80 مليار جنيه فى السيناريوهين الأفضل والأسوأ على الترتيب. أما فى ظل السيناريو الأكثر سوءا على الإطلاق فينخفض الناتج الزراعى إلى النصف.

ويتوقع أن تتفاقم الفجوة الغذائية وتتجه إلى الاتساع بشكل جوهرى نظرا لأن محاصيل الحبوب وهى عصب الأمن الغذائى سوف تتأثر سلبا بدرجة أكبر بالمقارنة للزروع البستانية، وتتركز محاصيل الحبوب فى منطقة الدلتا التى ستضرر أكثر من غيرها من المناطق الزراعية.

5ـ الآثار الإجتماعية والأضرار الواقعة على السكان الزراعيين ومعدلات الفقر الريفى

سوف ينشىء السد ظروفا غاية فى الصعوبة لقطاعات عريضة من السكان الريفيين خاصة فى المناطق المتضررة بنقص الموارد المائية. وبصفة عامة يمكن تقدير عدد السكان الزراعيين المضارين بشكل تقريبى .وذلك على اساس أن العدد الكلى للسكان الزراعيين 40 مليون نسمة يتعيشون على المساحة الزراعية الإجمالية البالغة 9 مليون فدان، فتكون حمولة الفدان من السكان 4,4 فرد، أى أن كل مليون فدان يعول 4,4 مليون نسمة. وفى حالة السيناريو الأول (فقد 1.6 مليون فدان) يفقد 7 مليون نسمة مصدر دخلهم الرئيسى، اما فى حالة السيناريو الثانى فيزيد عدد السكان الزراعيين الذين يفقدون مصدر دخلهم إلى 12,8 مليون نسمة. وفى السيناريو الثالث يزيد عدد السكان المتضررين الفاقدين لدخولهم 20,2 مليون نسمة أى نصف عدد السكان الزراعيين. وسينشأ عن هذه السيناريوهات مشاكل خطيرة تتعلق بالهجرة الريفية المتزايدة إلى المدن وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة قد تكون سببا فى خلق قلاقل اجتماعية على نطاق واسع.

السياسات الزراعية وتحديات ما بعد السد

اتسمت السياسات الاقتصادية المصرية بالتحيز التاريخى ضد الزراعة على مدى العقود الستة الماضية وإن تفاوتت درجة التحيز بين فترتى ما قبل التحرر وما بعد التحرر. فقبل التحرر وبخاصة خلال عقود الستينات والسبعينات ومعظم الثمانينات حيث كانت الحكومة تقتطع جزءا جوهريا من الأسعار الحقيقية للمحاصيل الزراعية، وبعد التحرر أصبح المزارعون يحصلون على أسعارهم الحقيقية إلا أن الزراعة تم تهميشها فيما يتعلق بنصيبها فى الاستثمارات العامة (3% فقط) وتخفيض مخصصات البحوث والإرشاد الزراعى إلى ادنى حد.

والآن تستقبل الزراعة المصرية متغيرا جديدا يقلب أمورها رأسا على عقب.فعلى مدى الخمسين عاما الماضية كانت الزراعة تستقبل حصة مائية سنوية ثابتة (55.5 مليار م م)، أما بعد السد وبالتحديد اعتبارا من 2017 أى مع بداية التخزين، تصبح الموارد المائية عنصرا متغيرا يتم تحديده خارجيا فى دولة أخرى هى إثيوبيا. ويزيد الأمر ضبابية أن إثيوبيا – كما سبقت الإشارة- عازفة عن الإقرار لمصر بحصة مائية معينة وفى نفس الوقت ترفض إشراك مصر والسودان فى إدارة عمليات الملء والتشغيل،بل ترفض أن تحدد هى ومن جانب واحد قواعد للملء والتشغيل تلتزم بها وتتسم بالشفافية وتكون معروفة لدى دولتى المصب. وفى ظل هذه الظروف، تواجه السياسات الزراعية المصرية تحديا مزدوجا. فمن ناحية، ينبغى إحداث إصلاحات جذرية فى السياسة فى مجالات الاستثمار والمؤسسات والبحوث والخدمات الإرشادية، ومن ناحية أخرى ينبغى اتخاذ الإجراءات الضرورية والاحترازية لمواجهة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الناشئة عن العجز الهائل فى الموارد المائية الناشىء عن السد.

الخلاصة

ينشىء سد النهضة الإثيوبى ظروفا عصيبة تماما بالنسبة للزراعة المصرية والسكان الزراعيين والريفيين، تواجه فيها احتمالات متزايدة للتدمير الكلى والجزئى للموارد المائية والأرضية وما يستتبع ذلك من آثار بالنسبة للفجوة الغذائية والأمن المائى والغذائى وارتفاع مستويات الفقر والمجاعات والقلاقل الاجتماعية.

وقد يتواكب مع السد تغيرات مناخية غير مواتية فيما يتعلق بمستوى الفيضان وسنوات الجفاف فى الهضبة الإثيوبية بشكل يصل بـالموارد المائية المقتطعة من حصة مصر المائية إلى 18,5 مليار متر مكعب سنويا يتم اقتطاعها كلها من نصيب الزراعة من المياه البالغ 50 مليار متر مكعب سنويا.

وقد يتواكب مع كل ذلك الآثار البيئية المتعلقة بارتفاع سطح البحر وسيناريوهات غرق الدلتا.

وبينما تواجه الزراعة هذه الظروف الاستثنائية تماما تصطدم بسياسات اقتصادية تهمشها وتتحيز ضدها وتتعامل معها كقطاع يستدف الكفاءة وليس كقطاع اجتماعى إعاشى يعول نصف السكان المصريين.الأمر يستلزم تغييرات جذرية فى هذه السياسات تتواءم مع الضربات الساحقة التى يتوقع أن تتلقاها الزراعة المصرية فى المستقبل القريب والبعيد.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى