تقارير

الصهاينة في مصر 1903.. من تأسيس شركة”هرزل”لاحتلال سيناء إلى حفر ترعة السلام

ترعة السلام
ترعة السلام

كتب: هيثم خيري  

نعيد نشر تقرير مؤسس حركة الصهيونية في لندن: تسخير الفلاحين في حفر ترعة وزراعة المحاصيل وصناعة النبيذ

العام هو 1902، وهي سنة سوداء بالمناسبة..

يخطط تيودور هرزل، مؤسس الحركة الصهيونية في لندن، لوضع أول بذور الاحتلال الإسرائيلي في مصر

ستدور مفاوضات جدية في العام التالي للاستيلاء على سيناء بالكامل وتحويلها إلى مستوطنة يهودية تجمع شتات يهود العالم.. سيكتب الصهاينة تقريرا مهما جدا لتحويل شبه جزيرة سيناء إلى جنة.. في هذا التقرير سنقرأ التاريخ الحي لسيناء، من وجهة نظر الصهاينة وإنجلترا، وكيف كان ـ ولا يزال ـ ممكنا تحويل الصحاري والجبال إلى مناطق مستصلحة بالكامل، تزرع بالعدس والفول والمحاصيل الحقلية والفواكه والخضروات.

شتات اليهود في أوروبا وروسيا

في أوائل شهر يونية من هذا العام، يتوجه الرجل المتعصب ـ هرزل ـ لشعبه إلى لندن، ويعرض هناك على الحكومة البريطانية الدخول في مفاوضات من أجل الحصول على أرض يتجمع فيها اليهود المضطهدون في أوروبا الوسطى وروسيا.

وكان هرزل يعلم أن حكومة المحافظين في إنجلترا في مأزق.. فأمامها أفواج ضخمة من اللاجئين اليهود القادمين من بريطانيا، وعليها أن ترضخ لحل من اثنين: إما إيقاف الهجرة، وهو ما يتعارض مع السياسية الليبرالية التي تقوم عليها تقاليد الإمبراطورية البريطانية، أو مساندة هرزل في مساعيه.

اقترح الرجل في أول الأمر التنازل عن جزيرة قبرص لليهود، لكنه فشل، ثم اقترح أحد اللوردات الإنجليز ـ واسمه ريتشايلد من رجال الحكم هناك ـ أن يأخذ اليهود مستعمرة “أوغندا” وطنا لهم، فاعترض هرزل، وكتب على ورقة صغيرة العبارة التي سيكون لها في المستقبل أثر استعماري بالغ العتمة السواد مصر وفلسطين.. كتب الرجل: “شبه جزيرة سيناء ـ فلسطين المصرية ـ قبرص”.. فوافقت إنجلترا، بعد وساطة أحد الصحفيين الإنجليز اليهود واسمه “جاكوب جرينبرج”.

وكان الصحفي على اتصال بوزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلن المشهور بنزعته الاستعمارية..

ونجح الصحفي في ترتيب لقاء بين تشمبرلن وهرزل، حيث قال الأخير في الاجتماع: “إذا استطاعت شركة يهودية وضع أقدامها في سيناء والعريش فلا شك أن القبارصة أنفسهم سيبهرهم الذهب السائل الذي سيتدفق على المنطقة، وقد يغادر المسيحيون إلى كريت واليونان، والمسلمون إلى تركيا، ويكونون سعداء إذا ما باعوا أراضيهم بأسعار سخية”.

وما يدلنا على أن هرزل كان يخطط من قبل هذا التاريخ للحصول على سيناء كملاذ ووطن لليهود، هو المحادثات التي جرت عام 1898 مع بعض أركان الحكومة الإنجليزية على منح امتيار باستعمار شبه جزيرة سيناء، وجرت وقتها مفاوضات مع اللورد كرومر والحكومة المصرية في مصر، وحدث فيما بعد أن أرسلت بعثة مؤلفة من الفريقين سنة 1903 للكشف على الأراضي السيناوية.

ومالت الحكومة المصرية آنذاك لإعطاء امتياز بأراضي العريش، لولا أنها رأت أن قلة المياه في تلك البلاد تضطرها إلى تخصيص قسم من مياه النيل لري تلك الأراضي، ما جعلها تتكاسل عن القيام بهذا الأمر، بحسب ما أفادنا به الكاتب نجيب نصار في كتابه “الصهيونية.. ملخص تاريخها، غايتها وامتدادها حتى سنة 1905”.

الصهاينة في قلب مصر

الآن نقف أمام السؤال الجوهري، الخاص ببعثة الصهاينة في مصر، والسبب الرئيسي الذي جعلهم يحلمون بالاستيلاء على شبه جزيرة سيناء.

وصلت بعثة فنية من الصهاينة في آخر يناير عام 1903، وتكونت من مهندس مناجم وأركان حرب الجيش البريطاني، وملقب بالكولونيل البيرت جولدسميث، وجورج ستيفنس، وهو مهندس سبق له القيام بأعمال هندسية في مصر، وبروفيسور يدعى “سوسكين”، وهو مهندس زراعي ومدير مزارع في فلسطين، وهيلل يوف، رئيس أطباء المستشفى اليهودي بحيفا، وأوسكار ماموريك، وهو مهندس معماري بجامعة فيينا وخريج مدرسة الفنون الجميلة في باريس.

استقرت البعثة في مصر أسبوعا تقريبا، ثم توجهت إلى شبه جزيرة سيناء، ومكثت هناك نحو الشهر.

وفي يوم 26 مارس من السنة نفسها انتهت من إعداد تقريرها، بعد أن كتبته في مدينة الإسماعيلية.

المؤرخ إبراهيم أمين غالي، صاحب كتاب “سيناء عبر العصور”، يدلنا على تفاصيل تقرير البعثة، ويقول إن هرزل قسم سيناء إلى 5 مناطق، هي وادي الفرما والمنطقة الرملية الواقعة جنوب بحيرة البردويل بين وادي الفرما والعريش، ثم وادي العريش وصحراء التيه (وسط سيناء)، ثم جبال التيه ومناطق مساقط المياه، وأخيرا الجبال والأودية الواقعة بين المنطقة السابقة والسويس (تضم راس سدر وأبو رديس).

مبدئيا، قلل التقرير بشدة من أعداد السكان والقبائل المتواجدة في المناطقة الخمس، حتى يسهل التفاوض مع مصر فيما بعد على استغلال الأراضي في استيطان المنطقة “المفرغة من السكان”. قدر التقرير عدد السكان بنحو 16 ألف نسمة، وقال إن قلة عدد الرجال في المنطقة تعود إلى قلة الأمطار، ما يضطرهم إلى التوغل في فلسطين بحثا عن الأرض الخضراء والغذاء لهم ولأسرهم.

لكن المؤرخ نعوم شقير، صاحب كتاب “تاريخ سيناء“، ذكر في تعداد المنطقة أن بلاد الطور وحدها تضم 10 آلاف و980 من أهالي قبائل العليقات ومزينة والعوادة والقرارشة وأولاد سعيد والجبالية، وتضم بلاد التيه 12 ألف و900 نسمة من السواركة والرميلات وعربان برقطية، ونحو 8 آلاف نسمة من سكان الحضر في المدن، وبخاصة العريش.

نعود لتقرير بعثة هرزل، حيث ذكر أن الثروة الحيوانية في تلك المناطق قليل جدا، وكذلك الحال بالنسبة للزراعات، فهي قليلة لا تكاد تذكر، ولو تمكن أهل سيناء من الوصول لمصادر المياه لزرعوا الشمام والقمح والذرة والشعير.

وبالنسبة للتربة، قال التقرير إن المنطقة رقم 1 مغطاة بطبقة من الأملاح يمكن إزالتها بغسل التربة قبل استصلاحها، والمنطقة رقم 2 رملية لا تصلح للزراعة إلا في المنطقة الواقعة جنوب بحيرة البردويل والعريش، والمنطقة رقم 3 فقيرة، لكنها تتمتع بمناخ جيد، ومن الممكن زراعتها بمحاصيل مجزية.

نصل الآن لأهم جزء في تقرير البعثة، وهو ذكره لطرق توفير المياه في المنطقة، حيث قال التقرير أن “المنطقة في ظروفها الحالية غير صالحة لاستيطان الأوروبيين إلا أن في استطاعة أعضاء البعثة أن يقرروا من تجاربهم أن الزراعة ممكنة في المناطق التي يتوفر فيها المياه“.

توصيل النيل لسيناء.. أو ترعة السلام

واقترح التقرير بالنسبة للمنطقة الأولى إزالة الطبقة المالحة بإيصال مياه النيل وتعديتها من تحت قناة السويس بسحارات، وهي المنطقة التي تبدأ من مدينة القنطرة الآن، باتجاه العريش مرورا بمحمية وادي الزرانيق.

بعد نحو 90 عاما من حلم الصهاينة، حققت مصر مشروع ترعة السلام، بشق مسار لمياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء، وكان المخطط له أن يفي المشروع باستصلاح وزراعة 620 ألف فدان تقريبا، عن طريق مياه النيل بعد خلطها بنسبة 2 إلى 1 بمياه الصرف الزراعي.

المشروع الآن قيد التعطل والشلل، وأصبحت المشاكل تحاصره من كل جانب، ولم يفلح القائمون عليه في استصلاح وزراعة أكثر من 30 ألف فدان، وأصبح معلقا بين السماء والأرض، وصارت أراضي المشروع نهبا لتجار الأراضي من البدو وأبناء الوادي والدلتا والسماسرة، حيث تخضع مساحات كبيرة من المشروع للتعديات، مع توقف شبه كامل من وزارات الزراعة والري والداخلية لإزالة التعديات، أو البدء في طرح أراضي المشروع على أهالي سيناء.

تقرير هرزل أفاد أيضا بالاستفادة من المنطقة الثانية بإنشاء الآبار فيها، والمنطقة الثالثة باستغلال المياه الجوفية بالإضافة إلى بناء الخزانات التي تحفظ مياه الأمطار المنحدرة من الجبال قبل أن تصب في البحر المتوسط.

ارزعوا القمح واصنعوا النبيذ

واقترح التقرير استغلال سيناء بزراعة القمح والذرة والشعير والبقول كالعدس والفول والفاصوليا، والفواكه كالبلح والتين والبرتقال والليمون والزيتون والخروب والخضروات وبعض الأشجار الخشبية كالكافور والجزورينا.

كما يمكن إنشاء بعض الصناعات الزراعية كالزيتون وسكر القصب والفواكه المجففة والنبيذ والكحول المستخرجة من النشويات.

ووضع التقرير الحدود والمناطق الملائمة التي يجب على الحكومة المصرية التنازل عنها لصالح “اليهود المضطهدين”، وهي البحر المتوسط شمالا، ومساقط مياه وادي العريش ومنطقة التيه جنوبا، وقناة السويس وخليجها غربا.

وذكر التقرير أن هذه المناطق ستكون ملائما بعد اتخاذ الإجراءات لتنفيذ مشروع تحويل مجرى مياه النيل إلى وادي الفرما وإنشاء الترع والمصارف الملائمة، ولتحقيق ذلك يرى التقرير ضرورة الحصول من الحكومة المصرية على السلطة التي تمكن الشركة المنفذة من العمل ومد المرافق العامة إليها.

ويأتي دور الفلاحين في هذا الشق من ختام التقرير، حيث طلب أن يبدأ أعمال الحفر الفلاحون المصريون، لأنهم أكثر تأقلما على المناخ.

ويبدو أن واضعى التقرير كانت تلتمع في أعينهم قناة السويس وتاريخ إنشائها القائم على سخرة الفلاحين، ورأوا أن يعيد التاريخ نفسه بجلب الفلاحين مجددا لحفر القناة الجديدة.

وكان يقضي مشروع الاتفاق مع الحكومة المصرية، بأن تمنح الحكومة المصرية هرزل أو الشركة التي سيؤسسها “حق احتلال الأرض الكائنة شرق قناة السويس واستعمارها”.

هذه هي مطامع الحركة الصهيونية العالمية في بداياتها في ذلك التوقيت، لكن كيف كان الرد المصري عليها؟

بطرس غالي “يتلاءم” على هرزل

تدلنا المكاتبات التي جرت فيما بعد بين الصهاينة ومصر، أن الحكومة المصرية التي كانت تخضع للاستعمار الإنجليزي وقتها، اتخذت موقفا وطنيا يثير الدهشة.

بطرس باشا غالي، رئيس الوزراء المصري، سبق أن وافق من قبل على تمديد عقد امتياز قناة السويس من 1968 إلى 2008، نظير 4 ملايين جنيه تدفع على أربع أقساط، وهو نفسه الذي بعث بخطاب مهم لهرزل، اتخذ فيه من كل نقاط الضعف التي حاول التقرير الصهيوني إبرازها للتقليل من شأن الأراضي السيناوية، ذريعة لعدم الموافقة على المشروع.

قال بطرس غالي في الخطاب الذي حمل توقعيه: جاء في التقرير أن المنطقة على حالتها الراهنة غير صالحة لاستعمار أوروبي، وأن أكثر المناطق ملاءمة للغرض هي وادي الفرما إذا ما وصلت إليه مياه النيل عن طريق سحارات ممتدة من تحت قناة السويس، وقد تلقت الحكومة المصرية رأي مصلحة الري، وإني أرفق مع هذا صورة منه، يتبين لكم من قراءته أن النتيجة التي وصل إليها هي أن العروض التي تقدمتم بها غير مقبولة إطلاقا للأسباب التي فصلها (تقرير مصلحة الري).

ولذا فلا يسع الحكومة المصرية إلا أن تؤيد هذا الرأي، أما بخصوص المناطق الأخرى المعروض إصلاحها فقد ذكر التقرير نفسه أن إنشاء المرافق العامة بها لا يبدو أمرا غير عملي فقط بل مستحيلا، ولذا تكون الحكومة المصرية مخطئة إذا ما أظهرت أي تشجيع على مشروع من هذا القبيل”.

واختتم بطرس باشا غالي الخطاب بقوله: “لتلك الأسباب آسف لعدم استطاعة الحكومة المصرية الرد بالإيجاب على اقتراحاتهم التي تعتبر مرفوضة بصفة قاطعة ونهائية”.

تلقف المعتمد البريطاني اللورد كرومر (أمضى عشرين عاما في مصر) هذا الخطاب من رئيس الحكومة المصرية، وبعث بدوره خطابا إلى وزير الخارجية البريطانية أكد فيه أن المعارضة المصرية، التي تكن شعورا معاديا لليهود لن تسمح بالمشروع، فضلا عن أن الحكومة المصرية ترى أن المشروع الاستعماري سيفشل، وهي لا تود أن تشترك في مشروع فاشل.

لم يهدأ بال هرزل، صاحب أكبر مشروع استعماري يهودي في تاريخ البشرية، ولم يقتنع بما قالته الحكومة المصرية واللورد كرومر نفسه، ظل على مدار العام يبعث بمخاطبات مع الحكومة البريطانية، وكان الرد الأخير عليه في هذا العام بخطاب من وكيل وزارة الخارجية البريطانية قال فيه: “يؤسف لورد لاندنسداون (وزير الخارجية البريطاني) لعدم استطاعته التوصية بالضغط أكثر من ذلك على الحكومة المصرية لحملها على تغيير موقفها في هذا الخصوص”.

انتهت المفاوضات الثلاثية بين مصر وبريطانيا والصهاينة إلى هذا الحد تقريبا.

لكن يظهر التاريخ أن أطماع الصهاينة استمرت حتى احتلال مصر في عام 1967.. فكانت النكسة، التي انتهت باستيلاء إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية وسيناء بالكامل وهضبة الجولان.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى