السياسات الزراعية في زمن الكوارث: أين الحكومات من دعم الفلاحين؟

بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
في زمنٍ تتوالى فيه الكوارث بلا استئذان، وتُطوى فيه الفصول الزراعية كما تُطوى صفحات الجرائد القديمة، ينهض سؤال ملحٌّ من بين غبار الحقول المنكوبة: أين الحكومات من دعم الفلاحين؟ ليس سؤالًا عابرًا، بل صرخة تختزنها أكفٌّ متشققة من الشقاء، وعيونٌ تترقب الغيث لا من السماء وحدها، بل من مكاتب القرار، ومن ميزانيات الوطن التي كثيرًا ما تنسى أن أول خطوط الدفاع عن الأمن الغذائي يبدأ من فأسٍ بسيطة وعرقٍ على جبين فلاحٍ لا يملك غير الأرض حليفًا.
الكوارث حين تحل لا تفرّق بين أرضٍ وأخرى، لكنها تكشف كم هو هشٌّ ظهر الفقير، وكم هي رخوة تلك السياسات التي تدّعي حماية الريف. فكلما عصفت عاصفة أو جفّ نهر أو شبّ حريق، نجد أنفسنا أمام مشهد يتكرر بمرارة: المزارع يُترك وحيدًا، يرمم خسائره بإرادة منهكة، بينما تختبئ الخطط الزراعية خلف كلماتٍ رنّانة لا تسمن ولا تغني من جوع.
السياسات الزراعية في كثير من الدول لم تعد تُبنى من قلب الحقول، بل من خلف المكاتب، وغالبًا ما تنسجها أقلام لا تعرف الفرق بين ترابٍ جاف وشتلة تحتضر. السياسات تتحرك بردود أفعال متأخرة، لا تستبق الأزمة بل تلهث خلفها، وغالبًا ما تأتي بعد فوات الأوان، محمّلة بوعود مؤقتة وبرامج طارئة لا تُعيد لمزارعٍ محصوله، ولا تُصلح ما أفسدته نكبة.
في هذا السياق المضطرب، يصبح من الضروري التوقف أمام خريطة الدعم الحكومي للفلاحين، لنطرح تساؤلات مشروعة حول عدالة توزيع التمويلات، وفعالية الخطط الوطنية في احتواء الأزمات الزراعية، ومصير صغار المزارعين الذين يجدون أنفسهم دائمًا خارج حسابات الدولة إلا حين تحتاج إليهم في بيانات الإحصاء أو الحملات الدعائية. من هنا تبدأ رحلة هذا المقال، التي لن تكتفي بوصف الحال، بل ستحفر في عمق السياسات، وتفكك خطابها، وتحاكم وعودها، لتكشف إن كانت الحماية المعلنة مجرد حبر على ورق، أم مظلة حقيقية تقف بين الفلاح وسيف الكارثة.
هذه ليست مجرد مناقشة تحليلية، بل محاولة لرد الاعتبار لشريحة ظُلِمت طويلًا، ومساءلة صارخة في وجه من يملكون القرار: هل لا تزال الأرض في قلب الدولة؟ أم أن صغار المزارعين خُلعوا من معادلة التنمية كما تُخلع الأعشاب اليابسة من بين الزروع؟
أولاً: مقدمة تمهيدية
حين تضيق السماء ولا تهطل، وحين تغرق الحقول في طوفان أو تحترق تحت شمس لا ترحم، لا يُسأل الطقس عن جرائمه، بل يُسأل من كان عليه أن يستعد. في مواسم الكوارث، لا تكفي النوايا الطيبة، ولا تصلح الشعارات لتضميد شقوق الأرض، فالمزارع البسيط لا يملك ترف الانتظار، ولا يمتلك وسيلة للنجاة سوى وعود الدولة التي كثيرًا ما تتأخر، أو لا تأتي أبدًا. هنا، في لحظة يعلو فيها أنين الحقول وتخفت فيها أصوات الدعم، يفرض السؤال نفسه دون رتوش: أين الحكومات من دعم الفلاحين؟ وهل تحضر السياسات حين تغيب السماء؟ إن ما نراه من عجزٍ وتجاهل، يدفعنا إلى أن نفتح هذه الملفات المنسية، ونبحث في عمق السياسات الزراعية عن أثرٍ حقيقي لحماية صغار المزارعين، وعن دور الدولة في التمويل الطارئ لا باعتباره منّة، بل واجبًا وعدلاً.
واقع الكوارث الطبيعية والمناخية اليوم وتأثيرها المباشر على الزراعة.
لم تعد الكوارث الطبيعية في زماننا هذا أحداثًا عابرة تُسجَّل في ذاكرة الأرشيف وتُطوى، بل أصبحت ملامح ثابتة في تقويم كل مزارع. المطر لم يعد وعدًا بالخصب، بل صار أحيانًا لعنة تغمر السنابل قبل أن تنضج. الرياح لا تحمل بذور الحياة فحسب، بل تصحب معها رياحًا ساخنة تلفح الزرع والضرع معًا. الفصول لم تعد كما كانت، والصيف يزحف على الربيع، والشتاء حين يأتي لا يحمل ملامحه القديمة، بل يفيض أو يجفّ، فلا التوقيت توقيت، ولا المواسم مواسم.
في هذا الواقع المربك، تتعرض الزراعة لضربات متتالية، ليست بفعل تقصير الإنسان وحده، بل نتيجة لما زرعه من اختلالات في موازين الطبيعة. الجفاف بات مزمنًا في أماكن كانت تنضح بالماء، والتصحر يزحف كالثعبان، يبتلع الأخضر ويخلّف وراءه أرضًا خرساء. السيول تأتي كأنها جيوش هاربة من عقل الغضب، تجرف معها تعب شهور، وتُهلك البذور والثمار والآمال. الحرارة تشتد إلى مستويات لم تعهدها التربة من قبل، والنباتات تنكمش كما ينكمش الإنسان عند الخوف، تذبل وهي واقفة، وتشتكي بلسان لا نسمعه.
أما الأمراض النباتية، فقد باتت تتنقل مع الطقس المتقلب كما تتنقل العدوى بين الأجساد، فبذور الأمس الآمنة أصبحت مهددة بآفات جديدة لا تعرفها كتب الإرشاد الزراعي، وكأن الكارثة لا تأتي وحدها، بل تصحب معها جوقة من المفاجآت الموجعة.
كل هذا لا يُقرأ في كتب الجغرافيا فقط، بل يُرى في وجوه الفلاحين، في الحقول التي صارت تُروى بالحسرة بدل الماء، في الأسواق التي تفقد تنوعها، وفي الموائد التي بدأت تفقد أمنها الغذائي شيئًا فشيئًا. فحين تهوي الطبيعة من توازنها، تكون الزراعة أول الضحايا، ويكون المزارع البسيط آخر من تُسمع صرخته.
هذا هو واقع الكوارث اليوم، لا يرحم الضعفاء، ولا يترك للزراعة فرصة لالتقاط أنفاسها. إنه واقعٌ يطرق بابنا كل يوم، لا ليحذّر، بل ليختبر من يملك خطة، ومن لا يملك سوى الدعاء.
لماذا يعد صغار المزارعين الحلقة الأضعف؟
لأنهم يقفون وحدهم في مواجهة السماء والأرض، بلا مظلة تحميهم من غدر الأولى، ولا سند يعينهم على قسوة الثانية. صغار المزارعين ليسوا مجرد فئة مهمّشة في سجلات التنمية، بل هم القلب النابض للريف، والحلقة الأولى في سلسلة الغذاء، ومع ذلك يُتركون في العراء، يواجهون المخاطر بأدوات بالية، وأملٍ معلّق في السماء أكثر مما هو معقود على السياسات.
هم الحلقة الأضعف لأنهم لا يملكون القدرة على الصمود أمام خسارة واحدة، فإن جرفت السيول محصولهم، أو أهلك الجفاف بذرهم، فلن يجدوا من يعوّضهم ولا من يحتضن نكبتهم. خزائنهم خاوية، وقروضهم محدودة أو مستحيلة، وسوقهم لا ترحم، تُملَى عليهم شروطها كما تُملَى أوامر الجندي على الجندي الأضعف في الميدان. هم الحلقة الأضعف لأنهم يزرعون في أرضٍ لا تحمل أوراق ملكية أحيانًا، أو لأنهم لا يملكون أدوات الرش الحديثة، ولا شبكات الري المتطورة، ولا تقنيات التنبؤ ولا خرائط الإنذار المبكر، يزرعون بحدسهم، ويسقون بحذر، ويحصدون بتوتر، وكأن الزراعة عندهم مقامرة يومية مع المجهول.
هم الحلقة الأضعف لأنهم لا يملكون صوتًا في غرف القرار، ولا ناطقًا باسمهم حين تُوضع السياسات، ولا اتحادًا يحميهم حين تُسن القوانين. كل ما لديهم هو تراث الأجداد، ووجوه مشققة بالشمس، وقلوب مؤمنة بالأرض رغم خياناتها المتكررة. وإن استنجدوا، سُمعت أصواتهم في أطراف الأرياف، لا في قاعات المؤتمرات. وإن خسروا، لا تُكتب خسارتهم في الصحف، بل تُدفن تحت التراب مع ما تبقى من المحصول.
هم الحلقة الأضعف لأنهم لا يملكون رفاهية الانتظار، فإن لم يُزرع الموسم، جاع الأطفال. وإن لم يُحصد الزرع، تراكمت الديون. وإن لم تهطل السماء، توارى الأمل. كل موسم لديهم هو معركة وجود، وكل فجرٍ هو بداية اختبار جديد، ومع ذلك، ينهضون كل صباح، يحرثون الأرض بأيديهم العارية، وكأنهم يعلنون بصمتٍ عن تمسّكهم بالحياة، رغم أن العالم كله تركهم في منتصف الحقل.
أهمية السياسات الزراعية في الأزمات: هل تستبق الكارثة أم تكتفي بردود الأفعال؟
في الأزمات، لا تُقاس فعالية السياسات بكثرة الخطابات ولا بكمّ الوثائق المخزّنة في الأدراج، بل بقدرتها على الحضور قبل أن تسقط الضربة، على أن تكون كالسقف الذي يُبنى في أيام الصفاء، لا كمظلّة تُفتح على عجل وسط العاصفة. وهنا يُطرح السؤال الفاصل: هل وُجدت السياسات الزراعية لتحمي الفلاح من الكارثة قبل وقوعها، أم أنها لا تستيقظ إلا حين يُردم الحقل ويُذبح الموسم؟
في أغلب التجارب، تبدو السياسات الزراعية كمن يتأمل السماء ولا يحمل مظلّته، يقرأ مؤشرات الجفاف ولا يحرك ساكنًا، يتابع حرائق الحقول على الشاشات دون أن يضع خطة إنقاذ، وكأنها سياسات وُضعت لتُحاكي الماضي، لا لتواجه المستقبل. الكارثة، حين تأتي، لا تستأذن، ولا تنتظر أن تُشكّل لجنة طارئة، أو يُعقد مؤتمر صحفي، أو يُصدر وزير تصريحًا مطمئنًا. الكارثة تهجم كذئبٍ جائع، فإما أن يجد الفلاح بينه وبينها حائطًا من دعم ورؤية، وإما أن يُترك فريسة تنهشه من جهة الطبيعة، ومن جهة الإهمال.
السياسات التي تُبنى على ردود الأفعال، تشبه من يحاول بناء جسرٍ بعد أن غرق الناس في النهر. تأتي دائمًا متأخرة، بطيئة، مترددة، متشظية بين الإدارات. وإن وصلت، تصل مجتزأة، مشروطة، مثقلة بالروتين، فتفقد معناها قبل أن تبلغ هدفها. أما السياسات التي تستبق الكارثة، فهي التي تُقرأ فيها تقارير التغير المناخي لا كأدب إنشائي، بل كنداءات إنذار. تُعد فيها خطط الريّ قبل أن تجف السدود، وتُوفّر فيها أصناف البذور المقاومة قبل أن تذبل الحقول، ويُجهّز فيها التمويل قبل أن يُحاصر الفلاح بالعجز.
أهمية السياسات الزراعية في الأزمات لا تكمن في وجودها الشكلي، بل في توقيتها، في قدرتها على التنبؤ، على التحرك قبل أن تُقرع أجراس الخطر. هي امتحان الدولة في لحظة الحقيقة: هل تملك خريطة نجاة للفلاح أم تكتفي برثاءه بعد فوات الأوان؟ وهل تعتبر الزراعة شأنًا استراتيجيًا أم عبئًا موسميًا يُوضع على الرف لحين الحاجة؟ في لحظات المحن، وحدها السياسات التي تفكر بمنطق الحصاد لا بمنطق الردّ، هي التي تصنع الفرق بين دولة تحمي أرضها، ودولة تتركها تتفتت بين الكوارث والغياب.
ثانيًا: السياسات الزراعية في زمن الأزمات والكوارث
حين تشتد الأزمات، لا تعود الزراعة مجرد نشاط اقتصادي، بل تتحول إلى معركة بقاء. وفي هذه المعركة، لا يكفي الفلاح أن يحمل فأسه ويواجه وحده، بل يحتاج إلى سياسة تسنده، وخطة تسبق خطاه، لا تتأخر عنه حين يسقط. السياسات الزراعية في زمن الكوارث ليست رفاهية إدارية ولا أوراقًا تزيّن الرفوف، بل هي طوق النجاة حين تغرق الأرض، وسقف الأمان حين تنفتح السماء على مصائبها. هنا تتعرى الشعارات، ويُختبر صدق الدولة في دعم من يزرع لها الحياة.
محور 1: غياب الرؤية الاستباقية
في الزراعة كما في الأزمات، لا يُغفر لمن تأخر. والرؤية الاستباقية ليست ترفًا فكريًا، بل شرطًا للنجاة في زمن أصبحت فيه الكوارث أكثر انتظامًا من المواسم نفسها. حين تغيب هذه الرؤية، تصبح السياسات كمن يمشي خلف العاصفة بمكنسة، لا يرى الخطر إلا بعد أن يحل، ولا يتحرك إلا حين تصبح الخسائر واقعًا لا رجعة فيه. وفي كل مرة تُفاجأ الدولة بكارثة زراعية، لا تكون المفاجأة في الحدث ذاته، بل في استمرار الغياب، في تكرار الدهشة، وكأن الزمن لا يعلّم، وكأن الأرض لا تُنذر.
هل توجد خطط زراعية وطنية تستعد لمواجهة الكوارث (جفاف، فيضانات، أوبئة نباتية…إلخ)؟
حين تهبّ العاصفة، يبحث الجميع عن خريطة طريق، عن خطة تُضيء عتمة الطوارئ، عن إجراء واضح لا يُكتب في خضم الذعر، بل يُبنى في أوقات الرخاء استعدادًا ليوم الشدة. لكن السؤال الموجع الذي يصر على الحضور: هل لدينا فعلاً خطط زراعية وطنية قادرة على مواجهة الكوارث قبل أن تقع؟ أم أننا نعيش في حالة دائمة من الارتجال والدهشة، كما لو أن الجفاف حدث نادر، أو أن الفيضانات مفاجأة كونية لم تخبرنا بها الطبيعة مسبقًا؟
في كثير من الحالات، لا تُبنى الخطط الزراعية كحصون دفاعية، بل كإجراءات تجميلية تُعلّق على الجدران، أو تُحشى بها تقارير المؤتمرات. تغيب الخطط طويلة الأمد، وتضيع الاستراتيجيات بين الأدراج والسياسات المتغيرة، وكأن الزراعة لا تحتاج إلى بوصلة ثابتة، بل إلى قرارات موسمية تتحرك ببطء لا يليق بسرعة الكارثة. وإن وُجدت الخطط، غالبًا ما تكون معزولة عن الواقع، لا تنبني على قاعدة بيانات حقيقية، ولا تُشارك فيها المجتمعات المحلية، وكأن المزارع لا يحق له أن يكون شاهدًا أو مشاركًا في كتابة مصيره.
الجفاف، مثلاً، لم يعد احتمالًا، بل صار واقعًا زاحفًا يطرق أبواب المزارعين عامًا بعد عام، ومع ذلك، نادراً ما نرى خطة متكاملة لإدارة المياه، أو توسيع تقنيات الري الحديث، أو حتى توعية مجتمعية حول سلوك الزراعة في أوقات الشحّ. الفيضانات، التي تبتلع الحقول فجأة، تواجهها الحكومات بمؤتمرات لاحقة بدل مصدات سابقة، ولا تُخصص لها مسارات طوارئ مدروسة تنقذ ما يمكن إنقاذه. أما الأوبئة النباتية، فتُكتشف متأخرة، وتُحاصر بإجراءات مرتجفة، فيما تكون قد التهمت الأخضر واليابس قبل أن تصل إليها فرق الوقاية.
الخطة الزراعية التي تستحق هذا الاسم يجب أن تتنفس الواقع، وتقرأ الطقس والسياسة والاقتصاد معًا، أن تكون ديناميكية لا جامدة، ميدانية لا مكتبية، منفتحة على التحديث لا أسيرة الإجراءات التقليدية. إنها الخطة التي تعرف أن الكارثة ليست احتمالًا بل قادمة، وأن حماية الأرض لا تكون بملصقات تحذيرية بل بخطوات فعلية تسبق الكارثة بخطوتين لا تتبعها بعشر صرخات.
فهل من دولة تسمع نبض الفلاح قبل أن يسمع هو دويّ العاصفة؟ وهل من خطة تُكتب بالحبر والنية معًا، لا تنتظر الأسوأ كي تبدأ؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات غالبًا ما تتأخر، تمامًا كما تتأخر السياسات حين ينكسر ظهر الأرض.
الفجوة بين الدراسات المناخية والقرارات السياسية.
ثمة هوّة تتسع بصمت بين ما يقوله العلم وما تفعله السياسة، بين ما تكشفه النماذج المناخية من احتمالات خطيرة، وبين ما تصدره الجهات المسؤولة من قرارات خجولة أو مؤجلة. الفجوة بين الدراسات المناخية والقرارات السياسية ليست فقط فجوة في التوقيت، بل هي فجوة في الوعي، في الإرادة، في فهم معنى أن تُكتب الحقائق في تقارير بحثية ثم تُترك معلّقة في الهواء، بينما الأرض تنزف تحت أقدامنا.
الدراسات المناخية اليوم لا تترك مجالًا للشك، فهي ترسم خرائط واضحة لمناطق الخطر، وتحذر من ارتفاع درجات الحرارة، من تغيّر أنماط الأمطار، من زحف التصحر، من موجات جفاف لا تعرف الرحمة، ومن فيضانات ستضرب حيث لا نتوقع. لكنها تبقى، في كثير من البلدان، محصورة في المراكز البحثية، تقتصر على النخب العلمية، لا تترجم إلى سياسات ميدانية، ولا تُدرج ضمن أولويات وزارات الزراعة أو التخطيط. وكأن ما يُكتب في مختبرات المناخ لا يعني أصحاب القرار، أو أن الأرقام التي تنذر بانهيار موسمين قادمين لا تستحق جلسة طارئة في البرلمان.
إنها فجوة تتغذى من البيروقراطية، من انفصال صانع القرار عن المعاناة اليومية للفلاح، من غياب الجسور بين العلماء والمخططين، ومن ثقافة سياسية لا تؤمن بالتحرك إلا عند اشتعال الحريق. وكأن على الأرض أن تحترق أولًا، كي يُفتح الدرج وتُخرج الخطة من سباتها. هناك تقارير تُنذر منذ سنوات بأن مناطق معينة ستفقد خصوبتها، لكن الزراعة فيها مستمرة بنفس الأسلوب القديم، كأننا نزرع في أملٍ بلا جذور. وهناك إنذارات بأن منابع المياه ستنضب تدريجيًا، لكن لا أحد يعيد التفكير في أنماط الري أو في إدارة السدود.
السياسي، في كثير من الأحيان، يُجيد التعامل مع الآنيّ، مع ما يراه أمام الكاميرا، بينما المناخ يُجيد التخطيط للمستقبل بصمت، ويُفاجئ الجميع بعد أن أرسل مئات الإشارات. فحين يضرب الجفاف، تُصاب السياسات بالذهول، وتبدأ الاجتماعات الطارئة، بينما كانت الدراسات قد توقّعت كل ذلك، وتنبأت بتوقيته وأبعاده. لكنّ ما لم يُؤخذ في الحسبان هو هذا الغياب العجيب للترجمة، وكأن لغة العلم لا تصلح للاستهلاك السياسي.
إن ردم هذه الفجوة لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية. لا بد من أن تتحول الأبحاث إلى بوصلة، وأن يُلزم صانع القرار نفسه بأن ينصت لا إلى صوته الانتخابي، بل إلى صوت الأرض، إلى همس المناخ، إلى خرائط التحذير التي لا تكذب. لأن ما لا تدركه السياسات اليوم، ستُجبَر على دفع ثمنه مضاعفًا في الغد، وحينها لن تجدي الخطابات ولا الوعود، لأن الحقول حين تنكسر، لا تُصلحها المؤتمرات.
الاعتماد المفرط على المعونات الخارجية بدلًا من بناء خطط ذاتية.
في كل مرة تشتد فيها أزمة زراعية، وتضرب كارثةٌ جديدة قلب الريف، تتجه الأبصار فورًا إلى الخارج، وكأن الحل لا يُولد إلا من وراء البحار. المعونات تُطلب، والوفود تُستقبل، والوعود تُعقد، ثم تُقام المؤتمرات ويُلتقط معها الأمل في صورةٍ جماعية، لكن خلف هذه الواجهة البراقة، يقف الفلاح في الصف الأخير، لا يعرف إن كان ما ينتظرونه سيصله حقًا، أم أن حصته ستذوب في طرقات البيروقراطية كما يذوب المطر في الأرض المتشققة. الاعتماد المفرط على المعونات الخارجية بات نمطًا، بل أصبح بديلاً زائفًا عن التفكير الجاد في بناء خطط ذاتية، مستقلة، نابعة من واقع الأرض وهموم الناس.
الاعتماد على الخارج يريح السياسي داخليًا، فهو يسند ظهره إلى صندوق دولي أو وكالة مانحة، يلوّح بالمنح كدليل على “التحرك”، لكنّه يغفل أن المعونة مهما بلغت، لا تصنع سياسة زراعية راسخة، ولا تبني قدرة وطنية على الصمود. المعونة تُسعف، نعم، ولكنها لا تُنقذ على المدى البعيد. وشتان بين من يُداوي جرحًا بضمادة أجنبية، ومن يُحصّن جسده ليقاوم المرض قبل أن يأتي.
لقد تحول الدعم الخارجي إلى طوق نجاة مؤقت، يُرمى كلما غرق المركب، لكنه لا يمنع الغرق في المرة التالية. فبدلاً من أن تُبنى بنى تحتية مرنة، وقوانين زراعية متجددة، وشبكات إنذار مبكر، وتجهيزات لمخازن الطوارئ، تكتفي الحكومات في كثير من الأحيان بانتظار المساعدات، حتى في أدق التفاصيل: بذور، أسمدة، معدات، وورش توعوية تأتي كلها من الخارج، في مشهد يكشف هشاشة المنظومة لا قوتها.
الأخطر من ذلك، أن هذا النمط من الاعتماد يصيب المجتمعات الزراعية بنوع من التبلد، ويغرس فيها لا شعوريًا قناعة بأن الحلول لا تأتي من الداخل، وأن البقاء مرهون بمن يدفع أكثر، لا بمن يزرع أفضل. تتآكل روح المبادرة، وتذبل أفكار الاكتفاء الذاتي، ويصبح المزارع نفسه أسيرًا لمنطق الانتظار، لا التفكير.
في المقابل، نجد بعض الدول التي اختارت أن تتعلّم من أزماتها، فاستثمرت في المعرفة، في البحث الزراعي، في تأهيل مزارعيها، في إنتاج أصناف مقاومة، في ترشيد المياه، في تخزين الغذاء، حتى صارت الأزمات تمرّ عليها مرور العابر، لا العاصف. ليس لأن الطبيعة أشفقت عليها، بل لأنها تدرّبت على الصمود، وأدركت أن السيادة الزراعية لا تُمنح، بل تُبنى شقفة شقفة، وقرارًا بعد آخر.
المعونة ليست عيبًا، لكن تحويلها إلى استراتيجية، هو ما يجعلها عبئًا. فالأوطان لا تقف بثقة على عكازات الغير، بل على أقدام رؤاها، ومتى أدركت الدول أن الزراعة ليست قضية موسمية بل قضية أمن قومي، ستبدأ حينها بكتابة خريطة جديدة، تكون فيها الأرض شريكة، والفلاح قائدًا لا متلقيًا، والخطط نابعة من الطين لا من الورق.
محور 2: دعم الفلاحين أم دعم الصورة؟
حين تُذكر كلمة “دعم” في الخطاب الرسمي، تُفتح الأبواب للكلمات البراقة، وتُرصّ الصور في نشرات الأخبار، ويُستعرض الفلاح كما تُستعرض رموز التراث في المهرجانات. لكن خلف الكاميرات، تختفي التفاصيل، ويظهر السؤال الحقيقي كجرسٍ يقرع بصمت: هل ما يُقدّم حقًا هو دعمٌ للفلاح، أم دعمٌ لصورة الدولة؟ هل يُراد به إنقاذ من يزرع، أم تلميع من يُصرّح؟ بين الوعود التي تُقال في موسم الانتخابات، والواقع الذي يعيشه من يحفر الأرض بأظافره، تتكشف فجوة ليست في المال وحده، بل في النية، في الأولوية، في موقع الفلاح من جدول الدولة.
تركز السياسات غالبًا على المزارع الكبير أو المستثمر لا على الفلاح البسيط.
في خريطة الدعم الزراعي، كثيرًا ما يُرسم الفلاح الصغير على الهامش، بينما يتصدّر المزارع الكبير أو المستثمر واجهة المشهد، ليس لأنه الأجدر بالضرورة، بل لأنه الأقرب إلى دائرة القرار، والأقدر على مخاطبة لغة المشاريع والميزانيات. السياسات حين تُسن، غالبًا ما تُفصّل كما تُفصّل البدلات الرسمية: لتليق بالكبار، ولتُعرض في واجهات الاقتصاد، لا لتُلامس قميصًا مبللًا بعرق فلاحٍ يزرع دون تأمين، ويحصد دون ضمان، ويُحاور الأرض بلغة لا يفهمها من يملكون آلاف الهكتارات.
الفلاح البسيط لا يملك صوتًا في الاجتماعات الرسمية، ولا مندوبًا يتحدث باسمه في لجان السياسات، ولا شركة تسوّق له حلمه في البقاء. هو يعمل في الظل، في بقعة صغيرة من الأرض، يراعيها كما يُراعي الأب أبناءه، لكنها في نظر الدولة “غير مجدية اقتصاديًا”، فلا تُمنح له قروض ميسّرة، ولا يصل إليه الدعم اللوجستي، ولا تُراعى خصوصيته في التسعير أو التسويق. أما المستثمر، فيُستقبل بالمرافق المعبّدة، وبالتسهيلات الإدارية، ويُمنح الأرض والماء والدعم وكأن الزراعة لا تبدأ إلا من ميزانية ضخمة، متناسين أن القمح الأول لم يُزرع في شركات، بل في أيادٍ صغيرة وآمنة.
تركّز السياسات على الكبار لأنهم يشكّلون “رقمًا” في دفاتر النمو، أما الفلاح الصغير، فيُعامل كأن وجوده استثناء، أو عبء يجب تجاوزه مع الزمن. الدعم يُصاغ بأحجام كبيرة، القوانين تُكتَب بلغة لا تُترجم إلى واقع الفلاح البسيط، والمشاريع القومية كثيرًا ما تتحوّل إلى استعراضات تنموية لا تسري حرارتها إلى عمق القرى. يُقال إن الدولة تدعم الزراعة، لكن الحقيقة أن من يُدعَم هو نموذج معيّن، محدد، محسوب، يصلح أن يُرفق بصور الافتتاحات الرسمية، لا أن يُروى على لسان من لم يغادر حقلًا منذ ثلاثين عامًا.
في هذا الواقع المختل، يجد الفلاح البسيط نفسه مهددًا لا بالكوارث الطبيعية وحدها، بل بسياسات تنظر إليه من علٍ، تراه قديمًا، بطيئًا، لا يتقن لغة الجدوى الاقتصادية كما يجب، فتغيب عنه البرامج التدريبية، وتستثنى أرضه من مبادرات التحديث، وكأن على الزراعة أن تتخلى عن جذورها كي ترضي التقارير السنوية.
لكن ما لا تدركه السياسات أحيانًا، أن بقاء الفلاح البسيط ليس عبئًا على التنمية، بل شرط لاستمرارها. فالأرض لا تُحب المستثمر وحده، بل تحتاج إلى من يحاورها بالعِشرة، من يعرف كيف يُمسّد جرحها دون انتظار مكسب فوري. وفي كل أزمة غذائية تهز العالم، يتبيّن أن الأمن الغذائي لا يصنعه الكبار وحدهم، بل يُنسَج بصبر أولئك الصغار الذين لا يُذكرون في نشرات الأخبار، لكنهم يروون الأرض كما تُروى القصص القديمة: بإخلاص، وبلا مقابل.
وجود دعم موسمي مؤقت مرتبط بالكوارث دون خطط طويلة الأمد.
يشبه الدعم الموسمي في كثير من بلداننا مسكنًا مؤقتًا يُعطى لمريضٍ مزمن: يُهدئ الوجع لحظة، لكنه لا يشفي الداء. حين تقع الكارثة، تتسابق الجهات لإعلان التدخل، تُرسَل شحنات المساعدة، تُوزَّع بعض القروض الطارئة، تُقام المؤتمرات الصحفية بحضور المسؤولين، وتُكتب التصريحات بلهجةٍ مطمئنة. لكن سرعان ما تنحسر الأضواء، ويعود الفلاح إلى حقله المحروق أو أرضه الجافة، ليواجه وحده آثار ما بعد العاصفة، دون خطة تُرشده، أو منظومة تواكب تعافيه.
الدعم الموسمي، في جوهره، يشبه من يأتي ليطفئ النار دون أن يسأل عن سبب اشتعالها. لا يسأل لماذا تكررت الكارثة، ولا كيف يمكن منعها، بل يركّز فقط على تهدئة الوجع الآني، على امتصاص الصدمة السياسية والإعلامية، دون أن يلتفت إلى الجذور التي تظل مكشوفة، تنتظر كارثة قادمة لتنكشف من جديد. هو دعم يُعطى تحت ضغط الضرورة، لا بدافع الرؤية، يُقاس بكمّ ما تم توزيعه من أكياس بذور أو أعلاف، لا بمدى ما تم ترميمه من قدرة الفلاح على الاستمرار.
لا توجد خطط طويلة الأمد لأنها ببساطة لا تُدرُّ نتائج سريعة تصلح للعرض السياسي. هي تتطلب صبرًا، استثمارًا، إصغاءً لاحتياجات المزارعين، ربطًا بين البحث العلمي والممارسة، بين المناخ والسياسة، بين الأرض والمستقبل. هي خطط لا تبني موسمية المجد، بل تزرع ببطء، وتثمر بثبات، وتقي من الكوارث بدل أن تلاحق آثارها. لكنها لا تُفضّل لأنها تتطلّب قرارات جريئة، وموازنات مستقرّة، وتخطيطًا لا يليق بمن لا يرى أبعد من موسم أو دورة انتخابية.
والفلاح، في خضم هذا التناقض، يعتاد لعبة الانتظار. ينتظر أن تأتي الكارثة حتى يسمعه أحد، ثم ينتظر وعودًا تُنسج على عجل، ثم ينتظر أن تُنفَّذ تلك الوعود، وغالبًا ما تنتهي المهلة قبل أن يصل إليه شيء. وحين تبدأ الأرض بالتعافي، يكون الدعم قد غادر، والسياسات قد استدارت نحو ملفٍ آخر، فيبقى هو وحيدًا، يعيد البناء من نقطة الصفر، مرةً تلو الأخرى، كمن يرمم بيتًا كل شتاء ويعلم أنه سينهار في الشتاء القادم.
إن السياسات التي تُبنى على الدعم الموسمي هي سياسات تخاف من المستقبل، تُؤجل التفكير الجذري، وتستبدل الوقاية بالاسترضاء. لكنها لا تدرك أن الزراعة لا تُنهضها هبات عابرة، بل أنظمة قادرة على التوقع والتأقلم والتحديث. وأن الفلاح لا يحتاج إلى من يمد له الحبل حين يغرق، بل إلى من يُعلّمه كيف يصنع قاربًا قبل أن تأتيه الموجة.
مدى فاعلية برامج التأمين الزراعي (إن وجدت) وحجم تغطيتها لصغار المنتجين.
برامج التأمين الزراعي، حين تُذكر في سياق الأزمات، يُفترض أن تكون مظلة الأمان التي تقي الفلاح من الانكسار، وصمام الأمل الذي يعيده إلى الحقل بعد العاصفة. لكن الواقع كثيرًا ما يفاجئنا بحقيقة مغايرة: تلك المظلة، إن وُجدت، إما أنها صغيرة لا تتسع للجميع، أو مثقوبة لا تصمد أمام أول قطرة كارثة. فالحديث عن التأمين الزراعي يبدو أحيانًا كترف لغوي في مؤتمرات التنمية، أكثر مما هو شبكة إنقاذ حقيقية لقلوب تزرع بالأمل وتعيش على الهامش.
في العديد من الدول، توجد برامج تأمين زراعي، لكنّها غالبًا ما تأتي مصمّمة لواقع غير الواقع، ولمنتج لا يشبه الفلاح الصغير بشيء. تُبنى على شروط معقدة، ونماذج طويلة، ولغة بيروقراطية لا يفهمها من يكتب اسمه على دفاتر الطين لا على الأوراق الرسمية. التغطية محدودة، والتعويضات بطيئة، وكأن على الفلاح أن ينتظر بيروقراطية الزمن ذاته الذي خسر فيه موسمه، فتجده ينام على خسارته، ويصحو على تعويض لا يكفي لشراء البذور من جديد.
أما صغار المنتجين، فهم عادة خارج هذه اللعبة من الأساس. إما لأنهم لا يملكون سندات ملكية رسمية للأرض، أو لأن مساحاتهم لا “تستحق” التأمين حسب معايير الشركات أو الهيئات الحكومية، أو لأنهم ببساطة لم يُدرجوا في قواعد البيانات. فيُتركون عُراة أمام الخطر، لا تأمين يحميهم من الجفاف، ولا ضمان ينقذهم من سطوة الآفات، وكأن الخسارة قدرٌ طبيعي لا اعتراض عليه.
بعض التجارب في دول متقدمة أو حتى نامية أثبتت أن التأمين الزراعي يمكن أن يكون ثورة صامتة في حياة الفلاح، حين يُصمَّم بعناية، ويُديرُه من يفهم الأرض لا من يُحصي الأرقام فقط. حين يُربط بنظم إنذار مبكر، وببرامج تيسير للتمويل، وبوعيٍ مجتمعي يجعل الفلاح شريكًا لا مجرد متلقٍ. حينها يصبح التأمين أكثر من ورقة، يصبح وعدًا حقيقيًا بأن الزراعة ليست لعبة حظ، بل مشروعًا يمكن حمايته، يمكن التعويض عنه، يمكن النهوض به حتى بعد الانكسار. لكن في غياب هذه الرؤية، يبقى التأمين الزراعي مجرّد فكرة جميلة على الورق، أو خدمة مقتصرة على كبار المنتجين، أو برنامجًا تجريبيًا لا يطال إلا حفنة من المحظوظين. ويبقى الفلاح البسيط خارج المعادلة، يدفع الثمن وحده، ويتحمّل المخاطر بصدره العاري، ويُكمل رحلته مع الأرض كما بدأها: على بركة الله، لا على وثيقة تأمين.
إن الزراعة، بما فيها من مغامرة دائمة مع المناخ والتقلبات، لا يمكن أن تستقيم بلا منظومة تأمين عادلة وشاملة. منظومة لا تفرّق بين من يملك ألف فدان ومن يملك فدانًا واحدًا. لأن الأمن الغذائي الحقيقي يبدأ من الفلاح البسيط، ومن الشعور بالطمأنينة الذي يدفعه إلى الزرع حتى في وجه السماء الغاضبة، مدفوعًا لا بالحظ، بل بيقين أن هناك من لن يتركه يسقط وحيدًا إذا ما هبّت العاصفة.
محور 3: التمويل الطارئ والأموال المهدورة
في لحظات الأزمات، تُفتح خزائن الدول تحت عنوان التمويل الطارئ، وتُعلن الأرقام الكبيرة كما لو أنها طوق نجاة ينقذ الأرض والناس معًا. لكن ما أن ينقشع الغبار، حتى يتبين أن كثيرًا من هذه الأموال لم تصل إلى من يستحق، وأن ما وُعد به الفلاح ظل حبيس التصريحات أو تاه في دهاليز الإجراءات. التمويل الطارئ، حين يُدار بلا شفافية أو رؤية، يتحول من أداة إنقاذ إلى قصة مالٍ مهدور، ومن فرصة للنجاة إلى حلقة جديدة من الإحباط. وبين الإعلان والمآل، تضيع أحلام من راهن على دعمٍ لم يأتِ، أو جاء متأخرًا، أو اختُزل في أرقام لا تسقي حقلًا ولا تُحيي موسمًا.
هل تصل المساعدات الطارئة إلى من يستحقها فعلًا؟
حين تُقرع أجراس الكارثة، وتُفتح صناديق التمويل الطارئ، يُفترض أن تكون الأولوية واضحة لا لبس فيها: أن تصل المساعدات إلى من كان في قلب العاصفة، من خسر موسمه، من احترق محصوله أو جرفته السيول. لكن الواقع، في كثير من الحالات، يرسم مشهدًا آخر أكثر تعقيدًا ومرارة. فالسؤال الذي يصرّ على الطرح وسط أكوام الأرقام والتقارير: هل تصل المساعدات فعلًا إلى من يستحقها؟ أم أن بين الفلاح والخيمة التي تُنصب باسمه ألف حاجز وبوابة ومصطلح إداري؟
كثيرًا ما تُكتب المساعدات الطارئة بلغة نيّرة، في أوراق تبدو مشبعة بالعدالة والنية الحسنة، لكن حين تنزل إلى أرض الواقع، تجد طريقها محفوفًا بالتأخير، بالفساد، بالمحسوبية، وباختلال الأولويات. تُوزَّع على من “لديهم أوراق سليمة”، لا على من احترق موسمه بالفعل. تُعطى لمن يعرف الطريق إلى المكتب لا لمن يعرف الطريق إلى الحقل. فتجد أن الدعم قد وصل إلى أصحاب النفوذ أو المزارع المسجَّلة بدقة، بينما فُقِدَ أثره عند أبواب القرى المنسية التي ابتلعها الطين أو الجفاف.
الفلاح الذي يستحق المساعدة لا ينتظرها تفضّلًا، بل ينتظرها كحقّ طبيعي، كثمن لصموده، لسنواته التي قضاها في الزرع رغم الغياب، في مواسمه التي واجهت الرياح بلا درع، في محصوله الذي كان يؤمّن غذاء البلد بأكمله. لكنه، حين تتوزع القروض الطارئة، يجد نفسه آخر من يُسأل، وآخر من تُراجع أوراقه، وآخر من يُمنح الثقة. في حين أن من لم يتضرر إلا جزئيًا قد يحصل على أكثر مما فقد، فقط لأنه عرف من أين تؤكل البيروقراطية.
وقد يحدث أن تصل المساعدة أخيرًا، لكنها تصل متأخرة، بعد أن يكون الفلاح قد باع أرضه، أو رهن معداته، أو ترك الزراعة كليًا. تصل وقد تغيرت أولوياته من إعادة الزرع إلى دفع الديون، أو من استئناف الموسم إلى تدبير لقمة العيش. وما كان من المفترض أن يكون دعمًا للعودة، يتحوّل إلى تعويض باهت لا يعيد ما انكسر، ولا يعالج ما تفتت.
ثمّة حاجة ماسة لإعادة النظر لا فقط في كَمّ المساعدات، بل في كيف تُدار، ومن يُشرف عليها، وما الأدوات التي تضمن وصولها إلى من يحتاجها فعلًا. نحتاج إلى آليات تستند إلى بيانات واقعية، إلى لجان ميدانية نزيهة، إلى تواصل مباشر مع المجتمعات الزراعية لا عبر وسطاء المصالح. لأن الدعم، حين يُمنح في غير موضعه، لا يُصبح فقط مالًا مهدورًا، بل يتحول إلى ظلم مضاعف، يُطفئ في قلب الفلاح آخر بصيص أمل في العدالة.
المساعدات الطارئة ليست هبة، بل مسؤولية. وإن لم تُمنَح بصدق وشفافية، فإنها لا تعالج الكارثة، بل تعيد إنتاجها في شكل آخر: في شكل إحباط، في شكل هجرة من الأرض، في شكل فقدان الثقة بين المواطن والدولة. وحين يحدث ذلك، لا تعود الكارثة طبيعية فحسب، بل تصبح سياسية أيضًا، ويصبح السؤال عن عدالة الدعم سؤالًا عن جوهر الدولة وموقع الفلاح في وجدانها.
البيروقراطية والفساد في توزيع التمويلات والدعم.
في عالم الورق والختم والتوقيع، كثيرًا ما تُختنق أحلام الفلاحين قبل أن تولد. لا لأن الأرض شحّت، ولا لأن السماء بخلت بالمطر، بل لأن البيروقراطية، تلك المتاهة التي لا تنتهي، وقفت حاجزًا بين الفلاح والدعم، بين الحاجة والاستحقاق، بين الألم والدواء. كل شيء يبدأ بنموذج يُملأ، ثم طلب يُقدّم، ثم استمارة تُراجع، ثم توقيع ينتظر التوقيع الذي فوقه، وسلسلة طويلة من الإجراءات التي تتكدس على مكاتب مثقلة، لا ترى في الفلاح وجهًا، بل رقمًا ناقصًا في خانة ما.
وحين يدخل الفساد على الخط، يتحول المسار من متاهة إلى متاهة أشدّ ظلمًا، حيث لا تُفتح الأبواب إلا لمن يملك مفتاح العلاقات، ولا يُنظر في الملف إلا إن حمل معه وساطة، أو تلميحًا بوعدٍ ما. الدعم، الذي كان يجب أن يكون حقًا، يُصبح غنيمة، تُقسَّم لا حسب الحاجة، بل حسب القرب، حسب الاسم، حسب من يعرف من، ومن يُرضي من. تُمنح الأموال لمن يجيد اللعب بالقوانين، لا لمن انكسر موسمه مرتين، مرة بالعاصفة، ومرة بالتجاهل.
الفلاح الصادق، الذي لا يعرف سوى طريق الحقل، يقف في الصف الطويل، يحمل أوراقه المبتلّة بالأمل، ينتظر دوره، ولا يأتي. يسمع عن أموال خُصصت، عن برامج تمويل، عن منح عاجلة، لكنه لا يراها، لا تصل إلى قريته، لا تمرّ بقرب أمله. يشاهد أسماء تتكرر في دفاتر الدعم، ذات الوجوه، ذات المزارع، ذات الامتيازات، بينما هو يُقصى بصمت، كما لو أن فقره جريمة، أو أن جهله بأساليب المجاملة سببٌ كافٍ لحرمانه من النجاة.
البيروقراطية تُبرَّر بأنها نظام، لكنها كثيرًا ما تُستخدم كذريعة لتأخير العدالة، وكستار يُخفي وراءه المحاباة. لا أحد يحاسب موظفًا عطّل معاملة فلاح بسيط لأن ورقة ما كانت ناقصة، ولا أحد يسأل عن أين ذهبت أموال الدعم حين تُصرف لأشخاص لم يطأوا أرضًا قط. كل شيء يُغلف بمصطلحات “الإجراءات” و”الضوابط” و”المراجعات”، بينما الحقيقة أن الأرض تبكي، وأن القمح لم يُزرع، وأن المزارع خسر الموسم واحتمل، ثم خسر ما بعده ورضي، لكن حين يخسر ثقته، لا يعود شيء كما كان.
في كل أزمة، يُعاد الحديث عن الشفافية، عن الحوكمة، عن ضرورة وصول الدعم إلى مستحقيه، ثم تعود العجلة إلى الدوران كما كانت. ولا يتغير شيء سوى خطاب جديد بلغة قديمة. لكن الفلاح الحقيقي لا ينتظر الخطب، هو ينتظر أن تُختصر المسافات، أن يُعامل بكرامة، أن تُفتح له أبواب الدعم لا أن تُقفل بوجهه كلما اقترب. يريد نظامًا لا يُكافئ القرب، بل يُنصف من زرع. يريد مؤسسات لا تُدار بالهاتف، بل بالحق. يريد وطنًا لا يرى فيه الدعم رفاهًا أو فضلًا، بل وعدًا مستحقًا لأصغر يد زرعت وأكبر قلب صبر.
نماذج ناجحة عالميًا (مثل الهند أو بعض دول أمريكا اللاتينية) يمكن الاستفادة منها.
في خضم الأزمات، حين يضيق الأفق وتتعثر الخطى، لا بد من رفع الرأس والنظر إلى تجارب نجحت رغم الفقر، رغم التحديات، رغم الكوارث المتكررة. تجارب لم تُصنع في مراكز القرار وحدها، بل في الحقول، في القرى النائية، في تعاونيات صغار الفلاحين الذين وجدوا في الأرض حليفًا، وفي الدولة شريكًا حقيقيًا. ولعل أبرز تلك النماذج تُطل علينا من قلب الجنوب العالمي، من أماكن لم تكن ثرية بالمال، لكنها كانت غنية بالإرادة والرؤية.
في الهند، ذلك البلد الذي يضج بالتنوع والتناقضات، نجحت برامج زراعية نوعية في أن تُحدث تحولًا حقيقيًا في حياة الملايين من صغار المزارعين. لم يكن السر في الدعم المالي فقط، بل في كيفية وصوله. أطلقت الهند نظام “كيسان كريديت كارد” الذي أتاح للفلاح الحصول على قروض موسمية بسهولة وشفافية، دون أن يمر عبر بوابات البيروقراطية التقليدية. ربطت الحكومة بيانات الفلاحين بمنصات إلكترونية شفافة، فصار بإمكانهم التقدم للحصول على التمويل بضغطة زر، كما أُنشئت برامج تأمين زراعي فعالة، تعتمد على الأقمار الصناعية في تقدير حجم الضرر، لتصل التعويضات بسرعة ودقة.
وفي ريف أمريكا اللاتينية، وتحديدًا في البرازيل والمكسيك، نُفذت مشاريع ثورية لتقوية الفلاح لا لإرضائه مؤقتًا. أنشئت بنوك زراعية مخصصة لصغار المزارعين، تُديرها المجتمعات المحلية نفسها، وتُمنح فيها القروض وفقًا لحاجات الموسم، لا بناءً على حسابات الربح البحت. في هذه النماذج، أصبح الفلاح جزءًا من المعادلة، شريكًا في اتخاذ القرار، لا مجرد متلقٍ سلبي للمعونة.
وفي بيرو، أنشأت الحكومة شبكة وطنية للإنذار المبكر، تربط بين التغيرات المناخية والاستجابة الزراعية، فبات المزارعون يتلقون تنبيهات عبر هواتفهم المحمولة حول التوقعات المناخية وخطط الزراعة البديلة، ما مكنهم من تقليل الخسائر وزيادة الإنتاجية حتى في فصول الجفاف.
هذه النماذج لم تكن مجرد مصادفات ناجحة، بل سياسات بُنيت على الإصغاء للمزارعين، على إشراكهم، على احترام تجربتهم. لم تُكتب من مكاتب بعيدة، بل من نبض الأرض. هي تجارب أثبتت أن التغيير لا يحتاج بالضرورة إلى وفرة الموارد، بل إلى وضوح الرؤية، وإلى جرأة في كسر النماذج التقليدية التي تعطي الفلاح الفُتات وتطالبه أن يُنتج المعجزات.
إن هذه التجارب العالمية ليست حكايات للاحتفاء، بل دعوات للتأمل والتطبيق. تُعلّمنا أن الدعم لا يجب أن يكون موسميًا، ولا أن يُساق عبر نوافذ الفساد، ولا أن يُوزّع كجوائز ترضية، بل أن يُبنى كنظام، أن يُسند بالقانون، أن يُراقب بالشفافية، وأن يُوجّه للذين يعرفون كيف يزرعون الحياة من رماد القحط.
فهل نملك الشجاعة لننقل الدرس، لا كمعلومة في ورقة، بل كخطة وطنية جادة، تعيد للفلاح مكانته، وللزراعة دورها، وللأرض ابتسامتها؟
ثالثًا: آثار السياسات الحالية على المزارعين
في ظل السياسات الزراعية الراهنة، لا يُقاس الأثر بعدد القوانين الصادرة ولا بنشرات الدعم المعلنة، بل يُقاس في وجوه المزارعين حين يقفون على أطراف حقولهم يتأملون ما تبقى من موسم لم يكتمل، وما ضاع من تعب لا يُعوّض. السياسات، حين تُفصَّل دون وعي بواقع الأرض ومن يفلحها، تترك آثارًا عميقة لا تُرى في الأوراق، بل تُلمَس في انكماش المساحات المزروعة، في هجرة الفلاحين، في انطفاء الأمل من أعين من كانوا يومًا حراس الأمن الغذائي. إن ما تزرعه السياسات من تجاهل أو عبث، تحصده الأرض في شكل عزوف، وانكسار، وتراجع صامت لكنه جارح، وكأن الفلاح يُعاقَب على اختياره أن يبقى في الحقل بدل أن يُهاجر نحو المدينة أو النسيان.
محور 4: النزوح الريفي وتراجع الإنتاج
حين تضيق الأرض بما رحبت، لا لأن تربتها بخلت، بل لأن السياسات جارت، تبدأ القرى بالنزيف الصامت. يرحل الفلاح، لا لأنه ملّ الزراعة، بل لأنه سئم الإهمال، وسئم أن يزرع دون أن يجد من يحمي موسمه أو يسمع صوته. تتآكل الحقول من أطرافها، ويتحول الحقل إلى ذكرى، والقرية إلى محطة مؤقتة في طريق النزوح نحو المدينة. ومع كل خطوة يغادرها فلاح، يتراجع الإنتاج، وتخسر البلاد جزءًا من أمنها الغذائي. النزوح الريفي ليس مجرد حركة بشرية، بل إنذار بخسارة منظومة، وانطفاء جذر كان يومًا يُمسك بتربة الوطن حين تهب العواصف.
كيف تدفع السياسات الخاطئة الفلاحين نحو الهجرة من أراضيهم؟
لا أحد يترك أرضه طواعية، ولا فلاح يغادر الحقل الذي نشأ فيه إلا وقد ضاقت به السبل حدّ الاختناق.
حين تُدار السياسات الزراعية بظهرٍ بارد، لا يسمع أنين التربة ولا يرى وجوه الفلاحين حين تنكسر، فإنها تتحوّل، ببطء قاتل، إلى آلة طرد لا إلى شبكة دعم. السياسات الخاطئة لا تطرد الفلاح دفعة واحدة، بل تُرهقه خطوةً خطوة، تبدأ بحرمانه من القروض الميسّرة، ثم بتجاهل خسائره عند كل موسم فاشل، ثم تُغلق أمامه أبواب الدعم، وتُثقل كاهله بالضرائب والديون، وتتركه يواجه الكوارث وحده كما لو أن صبره لا ينفد، وكأن انتماءه للأرض كافٍ للبقاء.
وحين لا يجد الفلاح من يقف إلى جانبه في الأزمات، ولا من يُقدّر عمله كركيزة للأمن الغذائي، يتسلل الإحباط إلى قلبه كما يتسلل الجفاف إلى التربة المتعبة. يرى بأم عينه كيف يُدعَم المستثمر الكبير، وكيف تُفتح له الطرق، وتُقدَّم له الأرض والماء، بينما يُترك هو في العراء بلا مظلة. يسمع الوعود في موسم الانتخابات، ثم ينتظر سنوات فلا يزوره أحد. يُعِدّ أوراقه للحصول على تعويض، ثم يُقال له إن اسمه ليس ضمن القوائم، أو إن الضرر لم يكن كبيرًا بما يكفي، رغم أن عينيه وحدها تكفيان لتوثيق حجم الخسارة.
وحين تتكرّر هذه الإهانات الصامتة، لا يبقى للفلاح سوى أن يلملم كرامته ويغادر. يبيع أرضه بثمن بخس، أو يؤجرها، أو يهجرها، ويشد الرحال نحو المدينة، ظنًا أن فيها نجاة ما، أو على الأقل وجعًا من نوعٍ مختلف. فيترك خلفه تربة تعرفه، وأشجارًا اعتادت صوته، وسماءً كانت تحنو عليه وإن قلّ المطر. ومع كل فلاح يغادر، لا تخسر الأرض مجرد يدٍ تعرف كيف تُفلح، بل تخسر الذاكرة، والخبرة، وروحًا زرعت الصبر في وجه القسوة.
الهجرة من الريف ليست قرارًا فرديًا فحسب، بل نتيجة جماعية لسياسات عمياء لم ترَ في الفلاح إلا رقمًا في معادلة لا تُحسن الحساب. هي احتجاج صامت على نظام لا يثق بمن يزرع، ولا يُنصف من ينتج، ولا يُصغي لمن يعيش على هامش الضوء لكنه في عمق الوطن. فحين يغادر الفلاح، لا يذهب باحثًا عن الرفاهية، بل هاربًا من الإهمال، من الانكسار، من خيبة الأمل التي تراكمت عامًا بعد عام حتى صارت حائطًا لا يمكن تجاوزه.
ولو كانت السياسات عادلة، تُحسن الإصغاء وتُتقن الإنصاف، لما هجر الفلاح أرضه. ولو وُجدت خطط طويلة الأمد تحميه في موسم الجفاف، وتُؤمن له سبل التسويق والتخزين والتمويل، لما سكن المدينة في هامش العشوائيات، ولما اندثر جيله دون أن يُورث الأرض لمن بعده. إن الفلاح لا يحتاج إلى من يمنّ عليه بالدعم، بل إلى من يعترف بحقه في البقاء، وبأن الأرض لا تُثمر وحدها، بل تحتاج إلى من يراها أكثر من مجرد مساحة على الخريطة، تحتاج إلى قلبٍ يُحبها، وصوتٍ يُدافع عنها، وسياسةٍ تُنصف من زرع عمره فيها.
تدهور سبل العيش وصعوبة تأمين مستلزمات الإنتاج (بذور، سماد، ماء…).
في القرى التي تنام على حوافّ الأمل، وتستفيق كل صباح على وقع المعاول، لا تبدأ الحكاية من الحصاد، بل من البذرة الأولى، من السماد الذي لم يعد متوفرًا، من المياه التي تتقلص يومًا بعد يوم كأنها تنسحب من الحياة رويدًا رويدًا. تدهور سبل العيش لم يعد مجرّد عنوانٍ في تقارير التنمية، بل أصبح وجعًا يوميًا في صدر الفلاح، يتكاثر مع كل موسم، ويتحول إلى صراع وجود لا مع الطبيعة فحسب، بل مع منظومة لا تمنحه إلا الوعود.
البذور، التي كانت في الماضي تُخزن في الجرار الطينية وتُورث من جيلٍ إلى جيل، باتت اليوم سلعة نادرة، أسعارها ترتفع بلا ضوابط، وجودتها متذبذبة، والوصول إليها محكومٌ بوسيط أو شبكة توزيع غير عادلة. الفلاح البسيط، الذي لا يجيد اقتحام أبواب الشركات، يضطر إلى استخدام بذور قديمة أو رديئة، فيبدأ موسمه بخسارةٍ محتملة حتى قبل أن يلامس التراب. أما السماد، فقد أصبح عبئًا ثقيلًا على كاهله، إما مغشوشًا يضعف الأرض، أو أصليًا يُباع بسعرٍ لا يقدر عليه إلا من يملك رأس مال كبير. وحتى إن توفّر، فإن الحصول عليه يخضع لمواسم غير عادلة، أو لقوائم انتظارٍ طويلة، أو لنظام توزيع يفتقر إلى النزاهة.
ثم تأتي أزمة المياه، التي تتجاوز في فصول الجفاف حدود المعقول، فيغدو الفلاح كمن يُكلّف بزراعة الأمل وسط صحراء. مشاريع الري الحديثة لا تصل إلا إلى الأراضي “المؤهلة”، والسدود تفيض في مناطق بينما تجفّ القنوات في أخرى، والمياه، تلك الروح التي لا حياة للزرع بدونها، باتت مشروطة ومحدودة، يتوسلها الفلاح كما يتوسل المطر في عزّ القحط. ومع تغير المناخ وتراجع الأمطار، لم تُبنَ سياسات إدارة مياه عادلة وشاملة، بل تُركت الأرض تتقاسم ما تبقّى من الموارد بطرق بدائية، فتتحول الزراعة إلى مخاطرة، لا ضمان فيها ولا سند.
هذه الصعوبات لا تُسجل في دفاتر الحكومات بالشكل الكافي، لكنها تُطبع على جبين الفلاح الذي يحاول أن يُنتج رغيفًا من تربة منهكة. تدهور سبل العيش لا يعني فقط نقص الموارد، بل انهيار دائرة كاملة من الثقة: الفلاح لم يعد يثق في الأسواق التي تبتزّه، ولا في الجهات التي لا توفر له دعمًا حقيقيًا، ولا في مستقبل الزراعة الذي بات ملبدًا بغموض لا يُحتمل. والنتيجة أن كثيرين بدأوا يتخلون عن الحرفة التي ورثوها، وعن الأرض التي أحبوها، لأنهم لم يعودوا قادرين على تأمين أبسط متطلبات البقاء فوقها.
تدهور سبل العيش يعني أن الزراعة لم تعد طريقًا للحياة، بل صارت طريقًا للمجهول. وأن الفلاح، الذي كان يفتخر بمهنته، بات يراها عبئًا ثقيلًا لا يُكافَأ عليه سوى بالتجاهل. وبين الحلم القديم بالحياة من خير الأرض، والواقع الجديد المليء بالعجز والخذلان، تتآكل الإرادة وتذبل الحقول، ويغدو الفلاح في كثير من الأحيان آخر من يأكل مما زرع، وأول من يدفع ثمن السياسات العرجاء.
فهل يُعقل أن يُطلب من الفلاح أن ينتج بلا أدوات، أن يصبر بلا دعم، أن يُقاوم بلا سلاح؟ وهل يمكن أن نؤمّن غذاءً مستدامًا من أرضٍ لا تُروى، ومن فلاح لا يُحترم، ومن منظومة تتركه وحيدًا في مواجهة الجفاف وغلاء السوق وتآكل التربة؟ إن الجواب الحقيقي لا يكون في المؤتمرات، بل في الحقول… هناك فقط تُكتب الحقيقة، على صفحة التراب، حيث تذبل الحياة إن لم تُروَ بعدالة.
محور 5: فقدان الثقة بين الفلاح والدولة
في العلاقة بين الفلاح والدولة، كان من المفترض أن تنمو الثقة كما ينمو الزرع: بالتعهد، والرعاية، والوفاء بالوعد. لكن حين تتكرّر الخيبات، وتتأخر النجدة، ويتحدث المسؤولون بلغة لا يفهمها من يقف في قلب الحقل، تبدأ تلك الثقة بالتآكل. لم يعد الفلاح يصدّق التصريحات، ولا ينتظر المساعدات، ولا يعوّل على الخطط المعلنة في نشرات الأخبار. ما عاد يرى في الدولة حاضنًا، بل غائبًا حين يحتاج، وحاضرًا فقط عند الجباية أو التوجيهات الفوقية. هكذا يتسلل الفتور إلى العلاقة، وتتحوّل الثقة من جسر تعاون إلى جدار من الصمت، يقف بين من يزرع، ومن يُفترض به أن يحمي الزرع وأهله.
تراجع انخراط الفلاح في الجمعيات والتعاونيات الزراعية بسبب الإحباط.
في سنوات مضت، كانت الجمعيات والتعاونيات الزراعية أشبه بمظلة يتفيأ تحتها الفلاح حين تشتد شمس الخسارة، وكانت تشكّل له متنفسًا يُشبه الأسرة الكبيرة التي تتقاسم الهم وتنسج من الشراكة درعًا في وجه السوق وتقلباته. كانت الاجتماعات تدور بين ضحكات الأصدقاء، تُناقش فيها طرق الزراعة، وتُوَزّع البذور، وتُوَضع خطط البيع والتخزين، وكانت روح الجماعة تُغني الفقير وتشدّ أزر المتعب، وتمنح المزارع البسيط شعورًا بأنه ليس وحيدًا في الحقل. لكن شيئًا فشيئًا، خفت ذلك النبض، وتسلل الإحباط كدخانٍ لا يُرى.
لم يكن تراجع الفلاح عن الانخراط في التعاونيات قرارًا عابرًا، بل نتيجة تراكمات طحنت ثقته، وجعلته يحدّق طويلًا في أبواب الجمعيات المغلقة دون أن يطرقها. كثير منها باتت تُدار كأنها مؤسسات شكلية، لا يرى فيها الفلاح إلا الوجوه ذاتها، تُعيد توزيع الفرص والمساعدات على ذات الأسماء. تُدار أحيانًا وفق منطق الولاء لا الكفاءة، وتُقيّد بقوانين جامدة أو أشخاص يحتكرون القرار باسم التنظيم. فيغدو الحضور لا جدوى منه، والمشاركة مجرد توقيع في دفتر، لا تعني شيئًا أمام مشكلات الإنتاج والتسويق وتكاليف المدخلات التي تنهك الجيوب.
أضف إلى ذلك الخيبات المتكررة، حين يتقدم الفلاح بطلب إلى الجمعية ولا يجد الرد، أو حين تُوزّع الأسمدة فلا يُدرج اسمه، أو حين تنظم الدورات التدريبية دون إشراكه. يجد نفسه على الهامش، يُنادى باسمه فقط عند جمع الاشتراكات أو حضور الزيارات الرسمية. ومع كل موقفٍ كهذا، تُنتزع لبنة من جدار الثقة، ويزداد الإحساس بأن التعاونيات لم تعد تعبّر عنه، بل تحوّلت إلى أطر جامدة تنقل تقاريرها إلى الجهات العليا دون أن تلمس جذور الأرض.
ولأن الفلاح بطبيعته لا يُحب الصراخ في الفراغ، ولا يُجيد القتال في معارك غير متكافئة، انسحب بهدوء. لم يُعلن التمرّد، لكنه اختار أن يعود إلى حقلِه وحده، يزرع بصمت، يبيع بصعوبة، ويتحمّل كل شيء دون أن ينتظر سندًا من جمعية فقدت معناها في عينه. تراجع انخراطه ليس نكرانًا للجماعة، بل لأن الجماعة نفسها لم تعد تُشبهه، ولا تُصغي إلى صوته.
وإذا لم يتم استدراك الأمر، وإذا لم تُعد الحياة إلى التعاونيات من خلال ضخ دماء جديدة، وتفعيل آليات شفافة لإشراك الجميع، فإن تلك البنية الجماعية التي كانت تُشكّل ظهرًا للفلاح ستنهار بالكامل. والأخطر من انهيارها هو أن يُصبح المزارع نهبًا لاحتكار السوق، دون أداة تنظم صوته، ولا منصة تعبر عن حاجته، ولا مجتمع يُعيد إليه شعور الانتماء.
إن التعاونيات الزراعية ليست خيارًا هامشيًا، بل ضرورة وجودية في زمن الأزمات. وعودة الفلاح إليها لن تكون بالنداء أو بالشعار، بل بإعادة الاعتبار له كعنصر فاعل، وبإعادة صياغة تلك المنصات لتخدم من يفلح الأرض، لا من يحرث المناصب.
ضعف صوت الفلاح في السياسات العامة نتيجة تهميشه المتراكم
في صخب السياسات العامة، تختفي الأصوات الخافتة، ويعلو ضجيج النخب، وتُنسى الحكايات التي تبدأ من حقل صغير وتنتهي بصحن طعام على مائدة المدينة. وبين تلك الأصوات الغائبة، يظل صوت الفلاح هو الأضعف، لا لأنه لا يريد أن يتكلم، بل لأنه طُمر تحت طبقات من التهميش المتراكم، حتى بات حضوره في النقاشات الكبرى كظلٍ يُذكر حين تُذكر “التنمية الريفية” في المناسبات، ثم يُطوى مع نهاية البيان.
الفلاح الذي أفنى عمره بين جذور القمح وأغصان الزيتون، لا تُدعى نقاباته لمؤتمرات السياسات الزراعية، ولا يُستشار حين تُوضع استراتيجيات الأمن الغذائي، ولا يُستمع له حين يكتب بيده عريضة مطالب. مقترحاته تُعدّ بدائية، ورأيه يُعامل وكأنه انطباعي، وحين يطالب بالعدالة يُتهم بالجهل أو بعدم الفهم. وبهذا، تُصاغ السياسات بلغة لا يفهمها، وتُنفّذ بخطط لا تمرّ بحاجاته، وتُقاس نتائجها دون أن يُسأل عن أثرها الحقيقي عليه.
سنوات من الإقصاء جعلت الفلاح يرى السياسة وكأنها حقل آخر لا يخصه، أرضًا لا يُسمح له بالاقتراب منها. فحين يرى المقاعد تُملأ بأشخاص لم يعرفوا حرّ الشمس، ولم يغرزوا أيديهم في التراب، يُدرك أن صوته لا يُحسب ضمن المعادلة. حتى النقابات والاتحادات التي يُفترض أنها تمثله، غالبًا ما تُدار من مكاتب بعيدة عن الحقول، بلغة بيروقراطية، وبرؤية لا تُلامس انكساراته اليومية.
ولأن التهميش لا يولّد سوى مزيد من الصمت، بدأ الفلاح ينسحب من الحوارات، لا يرفع صوته إلا بين صفوف الذرة، لا يشتكي إلا للأرض التي تعرفه. يتقبل القرارات كقدر، لا لأنّه راضٍ، بل لأنه يأس من التغيير. وما أخطر أن يتحوّل الحلم بالعدالة إلى عادة على التحمّل، وأن تُصبح السياسة شأنًا خاصًا بـ”من هم فوق”، لا بـمن يزرعون الوطن من تحته.
وإذا بقي صوت الفلاح مهمّشًا، فإن السياسات الزراعية ستبقى عرجاء، تتخبّط في قرارات لا تسندها معرفة الواقع. ذلك أن الفلاح لا يطلب من الدولة أن تكتب له الخطب، بل أن تستمع إليه قبل أن تقرر، أن تحاوره لا أن تُعلّمه، أن تعترف بأن صوته ليس مجرد صدى في وادٍ بعيد، بل حجر الأساس في بناء أي أمن غذائي حقيقي. لأنه إن لم يكن شريكًا في القرار، فلن يكون شريكًا في النهوض، وستبقى السياسات معلّقة في الهواء، تبحث عن جدوى في أرض لم يُؤخذ رأي فلاحها منذ زمن طويل..
رابعًا: البدائل والحلول المقترحة
بعد كل هذا العصف الذي ضرب قلب الحقول وأضعف جذور الثقة بين الفلاح والدولة، لا يكفي أن نرثي الواقع أو نُمعن في وصف جراحه. آن أوان البناء لا البكاء، وآن أن تتحوّل الأسئلة إلى خطط، والتوجّس إلى رؤية، واليأس إلى تصميم. إن البدائل ليست بعيدة المنال، والحلول لا تحتاج لمعجزة، بل لإرادة تفهم أن بقاء الفلاح ليس مسألة فردية بل ركيزة وجودية. نحن لا نعيد التوازن لقطاع مهمل فقط، بل نعيد الأمل إلى أولئك الذين كانوا دائمًا في الصف الأول حين زرع الجميع، ثم تُركوا في الصف الأخير حين اقتسمت المكاسب. فليكن هذا المحور مساحة اقتراح، لا شعارات؛ ومجالًا لتخطيط الغد انطلاقًا من جراح اليوم.
محور 6: نحو سياسات زراعية عادلة وذكية
حين تُحاصرنا الأزمات وتضيق السبل، لا يكون الخلاص في المزيد من الارتجال، بل في الانحياز للعقل وللعدالة. آن للسياسات الزراعية أن تخلع عباءة التكرار، وأن تتجاوز لغة الخطب والموازنات الجافة نحو نماذج أكثر ذكاءً، أكثر إنصافًا، تُبنى على فهم عميق لنبض الأرض واحتياجات من يفلحها. سياسات لا تنظر إلى الفلاح كرقم في سجل الدعم، بل كشريك في القرار، كحارس على بوابة الأمن الغذائي، كصوتٍ ينبغي أن يُصغى إليه حين يُراد للأرض أن تُثمر بحق. الزراعة الذكية ليست مجرد تقنيات، بل رؤية تُنصف، وتُشرك، وتُجدد.
الحاجة إلى إشراك الفلاحين أنفسهم في صياغة السياسات.
لا أحد يعرف الأرض مثل من يمشي على ترابها كل صباح، ولا يفهم موسم الغلة ومزاج المطر من يكتفي بمشاهدته من خلف زجاج المكتب أو عبر تقارير باردة. الفلاح لا يحتاج لمن يعلّمه كيف يزرع، بل من يصغي له حين يتكلم، ويمنحه حقّ الجلوس إلى طاولة القرار لا أن يُكتفى منه بالصمت والتنفيذ. ومن هنا، تنبع الحاجة الحقيقية إلى إشراك الفلاحين أنفسهم في صياغة السياسات الزراعية، لا بوصفهم مستفيدين، بل باعتبارهم صنّاعًا للواقع، شهودًا على التحولات، وحرّاسًا لأمل يُزرع في الأرض قبل أن يُكتب في الوثائق.
حين تُبنى السياسات من أعلى دون استشارة من هم في الأسفل، تأتي مشوّهة، منبتّة الجذور، كأنها خريطة لمكان لم يُزر يوماً. الفلاح يعرف ما يحتاجه: يعرف أن البذور الجيدة لا تُفيد دون سوق منصف، وأن التقنيات الحديثة لا تعني شيئاً إذا لم ترافقها تدريبات وماء، وأن موسم الزرع ليس مجرد تواريخ على ورق بل إيقاع حياة تتغيّر بتغير المناخ والتربة والدورة الزراعية. هو الأدرى بالمخاطر، بالتحولات، بالثغرات الصغيرة التي قد تُسقط موسمًا بأكمله، بينما لا تُلاحظها عين الموظف.
لكن إشراك الفلاح لا يعني استدعاءه لمرة واحدة في ورشة استماع تُلتقط فيها الصور وينتهي كل شيء. يعني أن يكون له ممثلون حقيقيون، يُنتخبون من بين صفوفه، يشاركون في صياغة السياسات لا في التصفيق لها بعد صدورها. يعني أن تفتح أبواب النقاش أمام أهل الحقل قبل أن تُغلق قرارات الدعم أو التسعير أو توزيع الموارد. أن يُسأل الفلاح عمّا يحتاج، لا أن يُفرض عليه ما ظنه آخرون مناسباً من بعيد.
والمفارقة أن هذا الإشراك ليس فقط عدلاً، بل ذكاءً. فالفلاح حين يُستمع إليه، يتحمّس أكثر، يُبدع أكثر، يشعر أن الأرض ملكٌ له بحق، لا مجرد مساحة يعمل فيها لحساب منظومة لا يعرف كيف تُدار. تصبح العلاقة مع الدولة علاقة ثقة لا شكّ، تعاون لا تجنٍّ، وتصبح السياسة انعكاساً لحقيقة الأرض لا لطموحات بعيدة.
من دون صوت الفلاح، تبقى السياسات الزراعية كأنها قصيدة بلا قافية، تُكتب بلغة لا يفهمها من يُفترض أن تحفظ له كرامة العيش. أما حين يكون شريكاً في رسم السياسات، فإننا لا نحمي الزراعة فحسب، بل نعيد الاعتبار لإنسانٍ ما زال رغم كل شيء، يوقظ الفجر كل يوم وهو يحمل الأمل بين كفيه وينثره في التراب.
التحول نحو دعم ذكي موجه (أدوات، تدريب، تقنيات مبسطة).
لم يعد الدعم الزراعي اليوم يقاس فقط بكمّيته، بل بذكائه، بقدرته على أن يصيب هدفه بدقة، أن يصل إلى يد الفلاح لا إلى جيوب المتنفذين، أن يُزرع في عقل المزارع قبل أن يُسكب على التربة. لقد ولى زمن الدعم العشوائي الذي يتساقط كالمطر بلا تمييز، ويجب أن يبدأ زمن الدعم الذكي، ذاك الذي يُبنى على فهم دقيق لحاجات الأرض ومن يفلحها، دعم لا يتّكئ فقط على الأرقام، بل على التفاصيل الصغيرة التي تُحدث الفرق الكبير في حياة الفلاح.
الدعم الذكي لا يعني ضخ الأموال بلا حدود، بل توجيه الموارد نحو ما ينفع فعلاً: أدوات زراعية حديثة ولكن مبسطة، لا تُرهب الفلاح ولا تحتاج شهادات عليا لتشغيلها. آلات صغيرة الحجم لكنها عظيمة الأثر، تُقلل الجهد وتوفّر الماء وتُحسن الإنتاج، وتُباع بسعر مُدعّم لا يقتل ميزانية المزارع الصغير. هذا الدعم لا ينتهي عند المعدات، بل يبدأ من هناك ليمتد إلى المعرفة نفسها، إلى تدريب الفلاحين على أساليب الزراعة الذكية، على مقاومة الآفات بطرق عضوية، على إدارة الموارد الطبيعية باقتصاد ووعي.
الدعم الذكي يُترجم أيضًا إلى إرشاد دائم، لا إلى منشورات موسمية. مهندسون زراعيون ينزلون إلى الحقول لا إلى القاعات، يتحدثون لغة الفلاح لا لغة النماذج الجاهزة، ويقيمون جسور ثقة بين العلم والتجربة. ومن بين تلك الجسور، يُمكن نقل التقنيات بطريقة مبسطة لا تجعل الفلاح يشعر بأنه أمام علم غريب، بل أمام أدوات يمكنه فهمها، استخدامها، وتطويرها بطريقته.
وما أحوج الفلاح اليوم إلى دعم يُعالج العطب قبل أن يتحوّل إلى كارثة. تدريب على كيفية مواجهة الجفاف بأساليب ري حديثة، أو على إدارة التربة بحيث لا تُنهكها الزراعة المتكررة. دعم تقني يُرشده إلى أسواق بديلة، أو إلى طرق تخزين تُطيل عمر المنتج وتحسن قيمته. حتى الهاتف المحمول يمكن أن يكون أداة دعم ذكية، حين يُستخدم لتلقي إشعارات الطقس أو أسعار السوق أو توصيات السماد، وحين يُكسر حاجز الأمية التكنولوجية بتدريب ميداني بسيط يُشبه الحوار لا المحاضرة.
والأهم من ذلك، أن الدعم الذكي لا يُقدَّم للفلاح على أنه منّة، بل كحق أصيل. لأنه في معادلة الأمن الغذائي، هو الجندي الذي يقف على خط المواجهة الأول. فهل يُعقل أن نخوض حربًا ضد الجوع والاحتباس الحراري والندرة دون أن نسلّح هذا الجندي بما يحتاجه؟ لا سلاح أشد فتكًا من المعرفة، ولا درع أصدق من التكنولوجيا التي تُبسَّط للفلاح لا تُعقّد عليه، ولا زاد أقوى من الشعور بأن الدولة لا تتركه في الميدان وحده.
الدعم الذكي ليس ترفًا، بل ضرورة. هو طريق الخروج من أزماتنا الزراعية المزمنة، ونافذتنا نحو مستقبل لا يكون فيه الفلاح الحلقة الأضعف، بل محور التحول. فقط عندما يُصاغ الدعم بعين الفلاح وعقله، ويُوجه إلى قلب مشكلاته اليومية، يمكننا أن نرى الزراعة تنهض من كبوتها، ونرى الحقول تنطق بالخير من جديد.
تعزيز البنية التحتية الزراعية (مخازن، تسويق، طرق، مياه…).
في عالم الزراعة، لا يكفي أن تُزرع البذرة وتُصلح التربة وتُروى الحقول، إن لم تجد تلك الثمرة طريقها إلى السوق بكرامة، وإن لم يجد الفلاح ما يحفظ غلته حين تتقلب الأسعار أو تعاند المواسم. فالبنية التحتية الزراعية ليست مجرد هياكل صامتة من طرق ومستودعات، بل هي شرايين الحياة التي تربط الأرض بالمدينة، والمزرعة بالمائدة، والأمل بالاستمرار.
الفلاح، مهما كانت مهارته عظيمة، يقف عاجزًا إذا افتقر إلى مخزن يحفظ إنتاجه من التلف، أو إلى برّاد يحمي ثمراته من حرارة الصيف، أو إلى شبكة طرق تمكّنه من إيصال محصوله دون أن يُهدر نصفه على عتبات الحفر أو في زحام النقل البدائي. حين تغيب البنية التحتية، يُصبح الإنتاج نقمة بدل أن يكون نعمة، ويضطر الفلاح أحيانًا لبيع محصوله بأبخس الأثمان فقط لأنه لا يستطيع تخزينه، أو لأن الوصول إلى السوق يكلفه أكثر من العائد ذاته. وتلك الخسارة لا تضرّه وحده، بل تُسقِط حلقة كاملة من الأمن الغذائي في فخ الضعف والهشاشة.
تخيلوا فلاحًا ينتج بجهد، ولا يجد مكانًا يخزن فيه قمحًا يكفي أسرة كاملة، أو عنبًا لا يحتمل يومًا من الشمس الزائدة، أو طماطم تُسحق تحت وطأة الوقت لأن لا معمل لتحويلها، ولا مصنع لتعليبها. هذا ليس مشهدًا من مأساة فردية، بل من منظومة تُبنى دون أساس، وتُحمّل الفلاح ما لا يحتمله. وهنا، تبرز أهمية الاستثمار في بنية تحتية متكاملة تُرافق الزراعة من البذرة إلى السوق، لا تتوقف عند الحصاد بل تبدأ منه.
نحن بحاجة إلى شبكات مياه تُغذي الحقول لا أن تُتلفها بتقادم الأنابيب وتسربها، إلى قنوات ري ذكية تُحاكي تغيّر المناخ وشحّ الموارد. بحاجة إلى طرق زراعية حقيقية لا تُبنى فقط في مواسم الانتخابات، بل تظلّ سالكة في الشتاء كما الصيف، تصل الحقل بالمركز، والمزرعة بالميناء. بحاجة إلى مراكز تجميع صغيرة في القرى، مزودة بتقنيات التبريد والفرز والتوضيب، تُخفف الضغط على الفلاح وتفتح له أبواب التفاوض بقوة لا بانكسار.
ثم يأتي التسويق، وهو الندبة العميقة في جسد الزراعة. لا يكفي أن ينتج الفلاح أجود ما في الأرض، إن لم يكن هناك من يصله بالمستهلك، أو من يدافع عنه أمام سماسرة يفرضون أسعارهم دون رحمة. وهنا تكون البنية التحتية التسويقية حلاً لا مفر منه: أسواق منظمة، منصات رقمية، دعم لوجستي يربط الإنتاج بالحاجة، لا يترك الفلاح رهينة مزاج التجار ولا رهينة صمته.
تعزيز البنية التحتية الزراعية لا يجب أن يكون مشروعًا مؤقتًا أو رفاهية تُقرّرها الموازنات، بل رؤية استراتيجية تعترف أن الأمن الغذائي يبدأ من الإسمنت والحديد كما من البذور والرياح. هو وعدٌ طويل الأمد، يُشبه الجسر الذي إن اكتمل، عبرت عليه القرى إلى مستقبل لا يكون فيه الفلاح مقاتلًا منفردًا، بل جزءًا من منظومة تحميه وتحمله وتحترم جهده.
هكذا وحدها تُثمر الأرض عن طيب خاطر، لا لأنها خُصبت فقط، بل لأنها عوملت بالعدل من الجذر حتى السوق.
محور 7: دعم متكامل لا موسمي
الدعم الذي يأتي كالمطر العابر لا يُنبت أمنًا غذائيًا، ولا يُقيم زراعة متماسكة. فالفلاح لا يعيش موسمًا واحدًا، بل سلسلة من التحديات التي تبدأ مع البذور ولا تنتهي إلا حين تصل الثمرة إلى السوق. ومن هنا، تصبح الحاجة إلى دعم متكامل لا موسمي أمرًا وجوديًا لا خيارًا مؤقتًا. دعم لا يُقدَّم كردّ فعل على كارثة، بل يُبنى كمسار دائم، يُرافق الفلاح في كل خطوة، ويؤسس لشراكة حقيقية لا علاقة مشروطة بلحظة عجز. وحده الدعم المتكامل هو من يزرع الثقة قبل الحصاد، ويُعيد للزراعة معناها كقضية بقاء لا مجرد إنتاج.
تأسيس صناديق طوارئ زراعية وطنية دائمة.
في عالمٍ تتسارع فيه الكوارث وتتشابك فيه الأزمات، لم يعد بوسع الزراعة أن تعتمد على الحظ، ولا على الانتظار المرهق لإعلان حالة الطوارئ من خلف المكاتب البعيدة. حين تضرب العاصفة، لا تُمهل الفلاح لتعبئة استمارة، وحين يجف المطر، لا تُنذر الأرض قبل أن تنكسر. لذلك فإن تأسيس صناديق طوارئ زراعية وطنية دائمة لم يعد ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة مثلها مثل حبة القمح ومصدر الماء.
هذه الصناديق ليست مجرد خزائن مالية، بل شبكات أمان تُمدّ حين تنقطع كل السبل، تُزرع بين الفلاح والأرض كحبل نجاة حين يتهدد الموسم، أو تنقلب الطبيعة. وجودها يختصر المسافة بين الخسارة والتعافي، ويمنح المزارع قوة على الصمود، ليس لأنه لا يُصاب، بل لأنه حين يُصاب لا يُترك وحده.
حين يجتاح الجراد الحقول أو يتسلل مرض غامض إلى المحاصيل، لا وقت حينها للبحث عن تمويل أو انتظار موافقات بيروقراطية. الصندوق يجب أن يكون حاضرًا، جاهزًا، فعّالًا، يُفعّل فورًا بقرارات شفافة وإجراءات بسيطة. لا يحتاج الفلاح لأن يتوسّل دعمه، بل يكفي أن تكون الكارثة واضحة ليبدأ التدخل، مباشرة، بكرامة، دون مماطلة أو إذلال أو قوائم انتظار تُطيل الألم.
ومن المهم ألا تكون هذه الصناديق رهينة المزاج أو الموسمية، بل يُرصد لها جزء ثابت من الميزانية العامة، وتُدار بعين استراتيجية ترى الكارثة قبل وقوعها، وتستعد لها. هي شكل من أشكال العدالة الزراعية، تُعادل بين من يزرع على أطراف الصحراء ومن يزرع في السهول، بين من يمتلك ألف فدان ومن يملك قوت يومه. فالكارثة لا تفرّق، والدعم لا يجب أن يُفرّق.
ولأن الثقة في المؤسسات لا تُبنى بالشعارات، بل بالمواقف، فإن وجود صندوق طوارئ زراعي يُحسَن إدارته، ويصل إلى أصحابه بسرعة وشفافية، من شأنه أن يُعيد الاعتبار للعلاقة بين الفلاح والدولة. يصبح الفلاح واثقًا أنه إذا ما ضربه الجفاف، أو جرفته السيول، أو خسر محصوله، فإن الدولة لا تراقبه من بعيد، بل تواسيه بالفعل، وتدعمه لا بالكلام، وتُعوضه لا بالوعود، بل بالأرقام.
صناديق الطوارئ الزراعية ليست فقط حلاً للأزمات، بل صمام أمان لاستمرار الإنتاج، واستقرار السوق، وحماية الأمن الغذائي. هي الجسر الصامت بين الدولة ومزارعيها، وإذا ما بُني بإتقان، فلن ينهار تحت أول كارثة، بل سيكون أوّل من يتقدّم حين تتألم الأرض ويُصاب الزارع.
توفير مظلة تأمين زراعي حقيقية وشاملة.
لا شيء أكثر قسوة على الفلاح من أن يرى جهده يضيع في لحظة، أن يمضي شهورًا بين التربة والعرق والرجاء، ثم يأتي بردٌ قاسٍ أو حريقٌ مفاجئ أو وباء صامت ليبتلع كل شيء دون سابق إنذار. الزراعة ليست مجرد مهنة، بل مخاطرة يومية، مقامرة معلنة مع الطبيعة ومزاجها، ومع السوق وتقلباته. ولذلك، فإن غياب مظلة تأمين زراعي حقيقية لا يعني فقط افتقارًا لخدمة، بل تخلّيًا عن الفلاح في لحظة الانهيار، وتركه مكشوف الظهر أمام ضربات لا طاقة له بها.
توفير تأمين زراعي شامل ليس مسألة تعويض مالي فحسب، بل هو اعتراف ضمني بأن الزراعة مثل أي قطاع منتج آخر، تستحق الحماية والرعاية والدعم المنتظم. هو عقد شراكة بين الفلاح والدولة، بين الجهد الفردي والمساندة المؤسسية. تأمين لا يُفرّق بين صغير وكبير، لا يتحول إلى امتياز للنخب ولا يُغلق أبوابه أمام من لا يجيد ملء الاستمارات، بل يُبنى على البساطة والعدالة والوصول الفوري.
ولكي يكون هذا التأمين فعّالًا بحق، لا بد أن يتجاوز النمط الورقي والبيروقراطي، ليصبح خدمة رقمية ميسرة، وإجراءً سريعًا يراعي ظروف المزارع لا يُرهقه بملاحقة التعويض. أن يكون مبنيًا على تقييم حقيقي للمخاطر المناخية والزراعية، لا على افتراضات مكتبية، وأن يضمن تعويضًا فعليًا يُغطي الخسائر لا يرممها بالكاد. أن يشمل المحصول والمعدات والمواشي ومصادر الري، ويمنح الفلاح الثقة في أن العاصفة قد تقتلع الأشجار، لكنها لن تقتلع كرامته أو مستقبله.
ومظلة التأمين لا تكتمل إلا حين تُربط بالتدريب والتوعية. أن يعرف الفلاح حقوقه، وكيف يطالب بها، وكيف يُبلّغ عن الضرر، وكيف يُشارك في تطوير منظومة التأمين نفسها. أن تكون هناك قنوات واضحة للشكاوى، ومتابعة حقيقية لحالات الضرر، ولجان نزيهة تقيّم الخسائر بلا وساطات ولا محسوبية. أن يشعر الفلاح أن خلفه مؤسسة لا تكتفي بالاستماع له، بل تقف بجانبه حين ينهار كل شيء. ولأن التحديات المناخية تتفاقم، فإن مظلة التأمين لم تعد ترفًا، بل ضرورة وطنية. حماية الفلاح تعني حماية أمن غذائي كامل، حماية سلسلة إمداد لا يحتمل أن تنكسر عند أول مطر غزير أو موسم جفاف. وبهذه الحماية، يصبح الفلاح أكثر جرأة على المغامرة، أكثر استعدادًا لزراعة جديدة، أكثر إيمانًا بأن تعبه لن يكون رهينة المصادفة، بل مؤمّنًا عليه في حضن دولة تعرف أن الأرض لا تُثمر إلا إذا حمت من يزرعها.
تشبيك بين القطاعين العام والخاص لدعم الفلاحين تقنيًا وتمويليًا.
لم تعد الزراعة اليوم شأنًا حكوميًا صرفًا، ولا حقلًا خاصًا يُدار بمنطق السوق فقط. في زمن الأزمات المتلاحقة والتقنيات المتسارعة، بات من الضروري كسر الجدران التقليدية بين القطاعين العام والخاص، وبناء جسور حقيقية، متينة، وفاعلة، يكون هدفها الأسمى دعم الفلاح لا مراكمة الأرباح ولا حصد الإعجاب السياسي. الفلاح لا يطلب معجزة، بل يطلب أن تتكاتف الجهود حوله، أن يشعر أن المؤسسات العامة والشركات الخاصة لم تعد تتعامل معه كمجرد مستهلك أو متلقٍ، بل كشريك يستحق الاستثمار فيه، لأنه ببساطة يحمل على كتفيه الأمن الغذائي لأمة بأكملها.
التشبيك بين القطاعين لا يعني فقط تنسيق اجتماعات ومذكرات تفاهم، بل خلق منظومة تكاملية على الأرض، حيث تتولى الدولة توفير البيئة التشريعية والرقابية والبنية التحتية، بينما يتقدّم القطاع الخاص بالمبادرات، بالتمويل، بالتقنيات، بالتدريب. شركات التكنولوجيا الزراعية يمكنها أن توفّر للفلاح أدوات ذكية للري والرصد والتخزين، لكن من دون دعم حكومي لتوفيرها بأسعار معقولة وتسهيلات مالية، تبقى هذه الأدوات حبيسة المعارض والندوات. البنوك يمكن أن تمنح قروضًا ميسرة، لكن من دون ضمانات حكومية أو خطط تأمين، لن يجرؤ الفلاح على الاقتراب منها.
وحين تتكاتف الجهود فعلًا، يصبح الحقل ورشةً للإبداع لا ساحةً للنجاة فقط. يمكن للشركات أن تتبنّى مزارعين نموذجيين، وتوفر لهم تقنيات حديثة مقابل شراكات تسويقية عادلة، ويمكن للدولة أن تربط هذا التعاون بإعفاءات ضريبية لمن يساهم في تنمية الريف وتمكين صغار المزارعين. وهكذا نخلق ديناميكية جديدة: الفلاح يربح دعمًا وتقنيات، الدولة تربح استقرارًا وتنمية ريفية، والقطاع الخاص يربح سوقًا أكثر استقرارًا وربحية مستدامة.
ولا يقل التشبيك المعرفي أهمية عن المالي. حين تفتح الجامعات الزراعية أبوابها أمام الشركات والمزارعين معًا، تتولد منصات لتبادل الخبرة، للأبحاث التطبيقية، للتجريب والتطوير. وعندما يُعاد تصميم السياسات الزراعية بناءً على مقترحات من الفلاحين أنفسهم، بالتعاون مع خبراء من القطاعين، تصبح السياسات أكثر واقعية، وأكثر قدرة على الصمود في وجه التحولات.
إن الفلاح لا ينتظر صدقة من الدولة، ولا مكرمة من الشركات، بل شراكة عادلة تُخرجه من عزلته، وتمنحه الأدوات ليكون فاعلًا لا مفعولًا به. ومن دون هذه الشراكة، سيظلّ وحده في الميدان، يواجه الأمطار والحرائق والأسعار، بينما الآخرون يكتفون بالمراقبة. أما حين تتشابك الأيدي، وتُنسج علاقات متينة بين الدولة والسوق والحقول، فحينها فقط، تزهر الزراعة من جديد، وتنهض القرى على أقدامها، وتُبنى أوطانٌ لا تجوع.
خامسًا: تساؤلات مفتوحة لفتح النقاش
وحين تنتهي الأوراق الرسمية وتغلق التقارير أبوابها، يبقى السؤال معلقًا في الهواء كغيمة تنتظر الريح: هل ما نزرعه من سياسات يكفي لأن نحصد به أمانًا غذائيًا واستقرارًا ريفيًا؟ أم أننا ما زلنا نُدير الزراعة بعقل المدينة ونحمي الفلاح بورق التصريحات لا بأفعال الميدان؟ هي لحظة تأمل لا تحتاج إلى إجابات جاهزة، بل إلى شجاعة في الطرح وجرأة في المراجعة. فما زال في الحقول ما يستحق الإنقاذ، وما زال في صدور الفلاحين نبض لم يُخذل بعد، فقط إن صغنا الأسئلة بعين القلب لا بلغة الإدارات.
هل السياسات الزراعية الحالية قائمة لحماية الإنسان أم لحماية السوق فقط؟
في عمق هذا السؤال يتكسر وهم التنمية حين تُقاس بمنطق الأرباح لا بكرامة من يزرع. هل السياسات الزراعية التي تُصاغ في صالات الاجتماعات المكيّفة جاءت فعلًا لحماية الإنسان، ذلك الفلاح الذي يوقظ الأرض بيده ويزرع الخبز في فم الوطن؟ أم أنها، في الحقيقة، تُدار لحماية السوق، لضبط التوازنات، لطمأنة المستثمرين، ولو على حساب من يحرثون الصبح وهم لا يملكون حتى ثمن الحصاد؟
إن تأملنا شكل السياسات الزراعية في كثير من البلدان، سنكتشف أن الإنسان – وتحديدًا الفلاح البسيط – ليس هو القلب الذي تنبض له القرارات، بل مجرد هامش يُستدعى في الخطابات ويُنسى في التوزيع. يُطلب منه أن يُنتج، أن يصبر، أن يتحمّل الجفاف والغرق والاحتباس، لكن حين تقع الكارثة، يُسارع الجميع لإنقاذ السوق، لا لإنقاذ من سقط من ارتفاع الأمل. الأسعار تُضبط حمايةً للمستهلك، لا تعويضًا للمنتج، والدعم يُبرمج غالبًا لخدمة التاجر قبل أن يصل إلى يد الفلاح.
المفارقة المؤلمة أن الإنسان، وهو بداية الزراعة ونهايتها، كثيرًا ما يُترك يتألم بصمت على حواف السياسات. حين يُستورد الغذاء بدل دعم إنتاجه محليًا، حين تُغلق الأسواق أمامه بسبب شروط قاسية لا تطبق على الكبار، حين يُحمّل ثمن الفشل المناخي أو فساد التوزيع، ولا يُعامل كعنصر حيوي بل كرقم زائد في المعادلة. في المقابل، السوق يُدَلل، تُراعى حساسيته، تُنقذ أرباحه من الخسارة، كأنه كائن حي يجب ألا يُصاب، ولو مات من أجله آلاف الفلاحين في صمت.
لكن الزراعة لا تقوى على المضي بالسوق وحده، ولا تنمو بالإحصاءات إن لم تُروَ بعرق الناس. فلا سوق بلا أرض خضراء، ولا تصدير بلا من يزرع، ولا أمن غذائي بلا أمان نفسي للفلاح. وإذا ما استمرت السياسات في التعامل مع الزراعة كمجرد سلعة، لا كقضية إنسانية واجتماعية واقتصادية شاملة، فإن الخسارة لن تُقاس بالمال، بل بفراغ الحقول، وبالقرى التي تذبل، وبالأجيال التي تهجر الفأس وتلعن الذاكرة.
هل نملك الشجاعة لنقول: كفى إدارة من بعيد؟ كفى وضع السوق في مركز الصورة وترك الإنسان في الظل؟ الزراعة التي لا تحمي الفلاح أولًا، لا تحمي أحدًا في النهاية. والسياسات التي لا تُكتب من قلب الحقل، ستظل أوراقًا عمياء لا تُثمر مهما حُمّرت بالحبر.
من يُمثل الفلاح في طاولات القرار؟ ومن يدافع عن أرضه؟
على طاولات القرار اللامعة، حيث تُحسم السياسات وتُرسم معالم المستقبل، يغيب صوت الفلاح كما تغيب النجوم في ضوء النهار. لا كرسي يُترك له في الاجتماعات الكبرى، ولا منبر يُمنح له ليحكي عن التربة التي تتعب، عن المواسم التي تخذله، عن القرارات التي تصدر باسمه دون أن يُستشار، وتُطبَّق عليه دون أن يُسأل إن كانت عادلة أو قابلة للتنفيذ.
من يُمثل الفلاح فعلًا؟ هل هو الموظف الذي لم تطأ قدماه الحقل يومًا؟ أم ذاك المسؤول الذي يخلط بين معنى الأرض ومعنى الممتلكات؟ أم هو المستثمر الذي جاء للزراعة كفرصة تجارية، لا كقضية حياة؟ تمثيل الفلاح، في كثير من الأحيان، مجرّد واجهة سياسية تُملأ بالأسماء وتُفرغ من الجوهر، صوتٌ لا يُنطق به إلا حين يحين موسم التجميل الإعلامي، أو عند كتابة تقارير الإنجاز.
أما الفلاح الحقيقي، ذاك الذي يعرف شكل البذور من ملمسها، ورائحة المطر من أنينه، فلا يجد من يدافع عنه حين تغرق حقوله أو تسرقها القوانين، حين يُحاصر بالدَّين، ويُخذل في التسويق، ويُتّهم بالتقصير وهو الضحية لا السبب. لا نقابات فاعلة تحميه، ولا جمعيات مستقلة قادرة على إيصال معاناته، ولا إعلام ينقله إلا إن كانت صورته تصلح لعناوين الشفقة أو إثارة الجدل.
في ظل هذا التهميش، تصبح أرض الفلاح بلا حامٍ، وتُفتح الأبواب أمام المصالح الكبرى لتغزو المساحات، وتحول الزراعة من فعل بقاء إلى نشاط رأسمالي بحت. وتضيع بين تلك المعادلات الأرض الصغيرة التي يزرعها الجد بحب، وتحملها الأسرة كإرث، لا كصفقة.
المفارقة أن الجميع يتحدث باسم الفلاح، لكن لا أحد يستمع له. تُكتب السياسات نيابة عنه، وتُصرف الأموال دون علمه، وتُصاغ برامج الدعم وكأنه غير موجود. وإن احتج، ورفع صوته، يُقابل بالتجاهل أو يُتهم بأنه لا يفهم التطوير، كأن البساطة في يده نقيصة، لا خبرة متوارثة تستحق الاحترام.
فمن يدافع عن الفلاح؟ من يُعيد له مكانه في طاولات النقاش؟ من يمنحه حق التعبير دون أن يُختزل أو يُجمَّل؟ الجواب يبدأ بإعادة الاعتبار للفلاح كمواطن كامل لا كصورة موسمية، بتمكينه من أدوات التنظيم، من النقابات الحرة، من الجمعيات التعاونية الحقيقية، من الإعلام الذي يُنصت لا يُلقّن. يبدأ بتعديل ميزان القوى داخل المؤسسات، بحيث يُصبح للفلاح تمثيل لا يساوي عددًا فقط، بل يؤثّر، ويُقرّر، ويُحاسب. لأن من لا صوت له في القرار، لا نصيب له في العدالة. ومن لا يدافع عن أرضه اليوم، لن يجد ما يدافع عنه غدًا.
هل نستفيق فقط حين تحترق الأرض أو تغرق؟ أم نبني أنظمة مرنة ومستمرة؟
كأننا لا نفتح أعيننا إلا حين تتصاعد الأدخنة من الحقول، أو تتقافز المياه في الطرقات، أو تختنق الأرض تحت وطأة العطش، أو تموت السنابل واقفة كأنها جثث لا تجد من يدفنها. كأن صوت الإنذار لا يُسمع إلا إذا جاء على هيئة كارثة تطرق الأبواب بعنف، فتفزعنا لساعات، وننهمك في المؤتمرات والتصريحات، ثم لا نلبث أن نعود إلى سباتنا الإداري الطويل، نطوي الأزمة كما نطوي أوراقها في الأرشيف، وننتظر المأساة القادمة كي نُعيد طقوس التفاعل نفسها، بنفس الردود الباهتة، بنفس الغياب العميق عن جوهر المشكلة.
هل خُلقنا لنتعامل مع الزراعة كقصة حزينة تُروى بعد الكارثة؟ أم آن الأوان أن ننتقل من رد الفعل إلى بناء الفعل؟ من انتظار الكارثة إلى مواجهتها بالاستعداد لا بالرثاء؟ حين تُبنى السياسات على لحظات الارتباك، تظل حلولها مؤقتة، متأخرة، تائهة بين العجلة وسوء التقدير. أما حين تُبنى على رؤية بعيدة المدى، على وعي بالتغيرات المناخية، وعلى قراءة ذكية لسلوك الطبيعة، فإننا نؤسس حينها أنظمة مرنة، لا تهتز حين تشتد الرياح، ولا تنهار حين يعلو منسوب الماء أو ينخفض المطر.
المرونة ليست شعارًا إنشائيًا، بل خطة. خطة تبدأ من فهم أن الكوارث المناخية لم تعد استثناءً، بل أصبحت قاعدة جديدة تحكم علاقة الإنسان بالأرض. المرونة تعني أن يكون لدينا نظام زراعي قادر على امتصاص الصدمة لا الانهيار منها، أن تكون لدينا شبكات دعم تتفعّل تلقائيًا، ومخازن احتياطية لا تُبنى على الأمل، وبنى تحتية تستبق الغرق لا توثّقه فقط بعد حدوثه.
المرونة تعني أيضًا أن نُشرك الفلاح في تخطيط مستقبله، أن نمكنه بالأدوات والمعرفة والقرارات التي تضعه في قلب النظام، لا على هامشه. أن نربط الزراعة بالبحث العلمي، بالتمويل الموجه، بالتدريب الدائم، لا بالدعم الموسمي. أن نعيد تصميم الخريطة الزراعية على أسس بيئية ومناخية لا فقط سياسية أو تجارية.
هل نستفيق فقط حين تشتعل النيران وتفقد الأرض لغتها الخضراء؟ أم نبني يقظتنا بشكل دائم؟ لا يمكن أن ننتظر السماء لتُعيد التوازن، ولا أن نعوّل على المصادفات. لقد آن الأوان لنفهم أن الزراعة لا تحتمل التأجيل، وأن الأرض لا تصبر إلى الأبد. فإما أن نُخطط لنتفادى المصائب، أو نبقى نُعيد كتابة المراثي كل موسم ونعدها دروسًا، بينما نحن نُكرّر الأخطاء بحذافيرها.
الزراعة تحتاج إلى وعي لا يُطفئه المطر، وإرادة لا تستيقظ فقط على صرخة الفقد. تحتاج إلى أنظمة تُبنى كما تُبنى الجسور: ببطء، بإتقان، لكنها حين تكتمل… لا تنهار.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



