رأى

«السيادة الغذائية» والإنتاج الغذائي العائلي والزراعة

بقلم: د.ريم سعد

أنا هأتكلم في جزئية معينة من موضوع دراسات الطعام. هاتكلم بمعنى واسع عن “العلاقة بين الأكل والزراعة”. هي علاقة بديهية تماما بس مليانة تفاصيل. الأكل بييجي من المطعم مثلا، قبل ما ييجي من المطعم كان جي منين؟ شوية وبناخد بالنا إن فيه مُزارع، أو صورة المكن الزراعي.. المهم بنوصل إن الأكل جي من الزراعة. هي علاقة مباشرة بين الأكل والزراعة، وياللغرابة ومع الوقت بدأت تفقد بديهيتها، ومن خصائص موضوع الغذاء دلوقت التباعد بين المُنتج والمستهلك. ودي من أهم الحاجات اللي بتدخل في مجال السيادة الغذائية.

محتاجين نفكر طول الوقت في العلاقة بين الأكل والزراعة، وهي بتوصلنا لموضوع السياسة الزراعية، وأقصد بها السياسة الزراعية بتاعت دولة من الدول. ممكن قرار يظهر بخصوص الزراعة تظهر آثاره بعدها بشوية.

فيه حاجات تخص تغيير هازرع إيه ومحصول إيه هيبقى بكام، بعد كام سنة بنشوف أنواع من الفقر أو أنواع من سوء التغذية، سببها سياسات محددة. وده المشكلة في سياسات زراعية معينة، خصوصا إنها مش بتصنف على إنها مواضيع نارية وسياسية وكده. فيه تفاصيل فنية في القوانين الزراعية مثلا والقرارات الخاصة بـالزراعة. نعمل إيه في الجوانب التقنية للقرارات والقوانين دي؟

السياسة الزراعية في مصر المرحلة الفاصلة فيها كانت في منتصف التمانينات تقريبً وفي ظل سياسة التحرر الاقتصادي والتكييف الهيكلي وسياسات النيوليبرالية.. بدأت في القطاع الزراعي قبل القطاعات الأخرى.

وكان التوجه من منتصف التمانينات إننا هنعمل “أمن غذائي” بإننا هنشتري الأكل. عندنا ميزة تنافسية والجو عندنا يسمح نزرع فراولة وورد، نصدرهم ونجيب الفلوس نشتري بها المحاصيل التانية.

المشكلة مكانتش في التجارة وسياسة التصدير إلخ، المشكلة إن الدولة دعمت سياسة التصدير الزراعية.. الاستثمار الزراعي، حطت في الموضوع ده موارد ومياه وأراضي جديدة كتير، وحولت مياه من الوادي للصحراء.. كل ده على حساب الإنتاج العائلي اللي هو المُنتج الأساسي للغذاء. وظهرت أسطورة إن الإنتاج الزراعي العائلي ده متخلف وعقبة للاستثمار.. ممكن تبقى فيه ملكيات صغيرة لكن بتُدار كحتة كبيرة.

الخطوط العريضة للسياسة الزراعية في التمانينات هي اللي بنتكلم عنها. المستثمرين استفادوا من السياسة دي، لكن مكنش عندنا طريقة نعرف بها البلد استفادت من السياسة دي ولا لأ. لكن على أي حال الوضع أصبح كالتالي: الناس بقوا على كف عفريت من ناحية الأمن الغذائي.

الفرق بين الأمن الغذائي والسيادة الغذائية

الأمن الغذائي فكرة محترمة لكن لها تعريفات كتيرة، لكن في النهاية بيتكلم المفهوم عن “الغذاء”: كمياته ونوعياته، إلخ، وهنأكل الناس إزاي وكده، وإن مفيش مشكلة استورد أكل.

فكرة السيادة الغذائية بنركز فيها على منتجي الغذاء مش بس على المُنتج نفسه اللي هو الغذاء. والأساس في فكرة السيادة الغذائية إن “نظام إنتاج الغذاء يكون في إيدين المنتجين المباشرين مش الشركات”. الفكرة دي ظهرت سنة 1996 أو 1997 على إيد منظمة “فيا كامباسينا” منظمة الفلاحة العالمية اللي ظهرت في أمريكا اللاتينية كرد فعل على احتكار الشركات على نظم إنتاج الغذاء هناك، وإزاي ده أثر سلبا على المزارعين والمجتمعات وتنظيم الزراعة كصناعة إنتاج كبير.

وقتها المنتجين المباشرين بقوا تحت ضغط إنهم مش عارفين يزرعوا، وكان بيتبص لهم على إنهم “لا دول مزارعين صغيرين مش هينفع نعتمد عليهم في الأمن الغذائي”. مفهوم “السيادة الغذائية” ظهر كإطار سياساتي، لإعادة منظومة إنتاج الغذاء لأيدي المنتجين، وهو مصطلح “ضد الشركات”.. فيه خناقة. هي فكرة راديكالية، مش فكرة نعتمد على نفسنا وناكل اللي نزرعه وكده. هي فكرة أقوى.

الأساس في السيادة الغذائية فيه مجموعة مبادئ منها مثلا إن “الزراعة وإنتاج الغذاء مش مهنة زي أي مهنة”.. لازم تتشاف على إنها شغلانة مختلفة وخاصة. وفكرة “تجسير الهوة بين المنتج والمستهلك” وإعادة العلاقة وتقريب المسافة بين الطرفين.

والسيادة الغذائية فكرة مطروحة في إطار بيئي كبير. ضمن فكرة “الأجرو-إيكولوجي” الزراعة البيئية المطروحة كبديل للسياسة الاستثمارية في الزراعة (هو الاستثمار مش حاجة وحشة بالضرورة في الزراعة لكنه المنظور السائد).

التنوع الحيوي.. البذور والمرأة.. السيادة الغذائية

ومهم كمان في السيادة الغذائية فكرة التنوع الحيوي، ومسألة “البذور”. ومسألة البذور هي صلب الموضوع. هاتكلم عن التنوع الحيوي شوية في المجال الزراعي وعلاقته بـالسيادة الغذائية.

الفكرة إن الزراعة لما تبقى متصلة بالوضع المحلي، وإن الزراعة تكون مناسبة للبيئة. وهنا برضه أهم حاجة هي البذور: إن الناس تنتج البذور اللي بتزرعها بنفسها من محاصيلها وأراضيها مش تعتمد على الشركات العالمية المنتجة للبذور. وطبعا الشركات في مجال البذور، هي من أقوى الكيانات في العالم، الشركات دي ممكن تكون أقوى من شركات السلاح، وأجهزتها وعلاقاتها وطريقة عملها خاصة جدا.

عايزة أتكلم عن بحث عملته مع زميلي الباحث حبيب عايد. جالنا طلب بعمل بحث عن علاقة الحيازات الزراعية للستات والفقر بـالتنوع الحيوي. في الزراعة التنوع الحيوي معناه وجود سلالات متنوعة من النباتات: 30 نوع قمح مثلا و10 أنواع خيار. لما نزلنا نعمل البحث الميداني اتخضينا شوية. كان بقى لي عشرين سنة شغالة في الريف ولا كان عندي فكرة عن وضع التنوع الحيوي.

سألنا أيه الأنواع الموجودة من السلالات الزراعية؟ على مدار عشرين سنة الأصناف المحلية اختفت تماماً، ولا يُزرع غير البذور اللي بتبيعها الشركات. البذور دي هجين، وإنتاجيتها أعلى، ع الأٌقل في الأول بتكون إنتاجيتها أعلى. الناس أٌقبلت عليها. والفلاح بياخدها من الجمعية الزراعية، مش بيروح ينقي بذور من السوبر ماركت. والجمعية هي اللي بتسوق البذور. الفكرة إن البذور دي عقيمة، لا يُعاد إنتاجها، فبالتالي الفلاح معتمد على شراها بشكل متكرر. كل سنة. على ما بيعمل كده البذور البلدي تكون ماتت، والإنتاج الزراعي يعتمد على السوق، يبقى تابع له. ممكن الشركة بتاعت البذور تزود سعرها في أي وقت.

لكن الأماكن اللي لسه فيها إعادة إنتاج للبذور البلدي، تبين من البحث إنها الأراضي اللي الستات بتزرعها، أو لها كلمة على اللي بيزرعها. عادة بتكون الأرض باسم الراجل لكن الست هي اللي بتقوم بدور مهم فيها، دي الأراضي اللي بأتكلم عنها. كتير بتكون فيه رقعة من الأرض الست تقول دي للبيت.. يعني مثلا الأرض هتنتج بنجر لكن فيه حتة صغيرة مخصوص لاستهلاك البيت، فيها خط بصل وخط توم وخط جرجير، إلخ..

بالنسبة لتقسيم العمل في الزراعة طبعا فيه اختلافات بحسب بحري وقبلي، لكن عموماً الستات بيقوموا بمعظم العمليات الزراعية، ما عدا الري شوية مثلا، يفضل متعملوش إلا لو مضطرة. الحاجات اللي فيها مكن زراعي برضه بيقوم بها الرجل، إلخ. المهم الستات مسؤولات عن عملية تخزين المحصول وتخزين البذور وتنقية البذور: الـseed selection. إنها تختار البذور اللي تصلح كتقاوي للسنة الجاية. وبتخزن البذور، وتحط معاها مواد معينة عشان ميحصلش تسوس، إلخ، وهي معارف متوارثة.

يُقال الستات مش بتشتغل في الزراعة، لكن لأن كتير من الشغل ده بيكون في عمليات ما بعد الحصاد اللي بتتم في فضاء المنزل فده بيتصنف مثلا بصفته شغل بيت. في مناطق بعينها، عيب الراجل يبني صومعة تخزين الأغذية. الستات مسؤولة كمان عن الأكل، مش بس إنتاج الغذاء، لكن كمان تأكيل البيت. مسألة الطعم والأكل يبقى مضمون ونفسه حلو، دي حصرا مهمة الستات.

وفيه مشكلة إننا بنتكلم عن المزارعات وكأنهم مستضعفات.. ده بيحصل كتير. المزارعات بيحموا نفسهم من تقلبات السوق عن طريق تخزين التقاوي، والموضوع برضه متصل بالحفاظ على التنوع الحيوي. طيب فيه إشكالية: عشان أستعيد البذور وأحافظ على التنوع الحيوي نفضل فقراء مع الممارسات البيئية الجميلة دي؟ لأ، ده سؤال غلط: المنتجات البيتية لازم تُثمن وتبقى قيمتها عالية بصفتها “بلدي”، ودي مش حكاية الأكل “الأروجانيك”، لأ، بنتكلم عن الأكل البلدي: الفراولة البلدي مثلا، والطماطم البلدي، إلخ. فكرة تثمين المنتج الزراعي البلدي، وإنه يتسوق كمنتج خاص. حصلت مبادرات من النوع ده وحصلت مشاكل. اتباعت مثلا كحاجات شيك وغالية قوي والناس اللي بتزرعها مبقتش قادرة تشتريها. دي إشكالية: نفكر فيها.. هل فعلا ممكن تحصل مشكلات بسبب تثمين المنتجات البلدية؟ فيه مشكلتين: مشكلة الفقر، ومشكلة اختفاء البذور.

المشكلة العاجلة هنا، مشكلة استعادة البذور اللي بتختفي. تاني مشكلة: ممكن الناس اللي بتزرع أصناف بلدي أو تشتغل بـالزراعة العائلية تفتقر أو تفضل فقيرة؟ أه ولأ، لأن فيه حلول، زي مثلا وجود تعاونيات زراعية، اللي هي مش مُستبعد خالص يكون لها دور كبير في دعم التنوع الحيوي وحل مشكلة البذور مع الحفاظ على الزراعة العائلية.

*كاتبة المقال: أستاذة الانثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى