رأى

الزراعة المصرية بين الألم والأمل

د.حسان محمد النبوي حجازي

بقلم: د.حسان محمد النبوي حجازي

قديماً أطلق عليها الرومان “سلة غذاء العالم” إنها مصر التاريخية التي أبدعت فأقلعت بجناحي العنقاء لتحلق فوق ممالك وإمبراطوريات العالم القديم. زارها هيرودوت فأطلق عبارته الشهيرة “مصر هبة النيل” وحقاً صدق في مقولته؛ فلولا النيل لما كانت مصر فالوادي الضيق ومثلث الدلتا مثلا واحةً خضراء وسط جدب الصحراء الكبرى، وبحسب تعبير جمال حمدان “أن الوادي والصحراء تجاورا كما تتجاور الحياة والموت”.

وبحسب قوله في شخصية مصر “أن الذي لا شك فيه أن الزراعة إن لم تكن ولدت في تربة النيل وأحضانه وعمدت لأول مرة بمياهه، فإن مصر بأي مقياس من البلاد الرائدة السابقة إلى تأصيل الثورة الزراعية وإقامة أسس حضارة العصور القديمة، لقد أعطت مصر العالم دولته الأولى بالقطع، وثورته الزراعية الأولى وثورته المدنية”. وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان فتحها فتح خير على دولة الإسلام الوليدة، وحمل خراجها إلى مكة والمدينة في عام الرمادة فأنقذت أهل الحرمين من المجاعة.

والآن تعاني الزراعة في مصر من مشكلات جمة أثقلت كاهلها وأمرضتها بأمراض مزمنة نخرت في جسدها فعان الجسد المصري كله. فمساحة زراعية محدودة مفتتة تتقلص يوماُ بعد يوم، ومُزارع يئن تحت وطأة الفقر وسياسات قد تجاوزته وتركته لمُعاناته، وموارد مائية جلها ينبع من بلدان بعيدة بحصة مائية محدودة مهددة بالنقصان، ومجاري مائية جزء لا يستهان منها يغلب عليها التلوث سواء بـالمبيدات والأسمدة أو بـالصرف الزراعي والصحي حتى صار الأمر مرضاً مزمناً يحار الخبراء في علاجه.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هل الأمر مرض عضال أصاب قطاع الزراعة المصرية يستعصي علاجه؟ والجواب أن كل من لمس بيديه وعقله قضية الزراعة في مصر وقام بتوصيف مرضها وأعراضه، قد طرح حلولاً ومعالجات للحالة الراهنة إلا أن الأمر في رأي الكثير يحتاج إلى إرادة لحل أزمة قطاع الزراعة أكثر من البحث عن الحلول؛ فآلاف الدراسات والرسائل العلمية قد أعدت وخرجت بنتائج وتوصلت إلى توصيات بشأن كل جزئية في قطاع الزراعة سواء النباتية والحيوانية؟، وكل ما يتعلق به من موارد طبيعية ومستلزمات انتاج ومشكلات تستوجب التدخل والحل ولكن كل ذلك يتوقف على الإرادة. فلابد من اعادة الاعتبار إلى قطاع الزراعة، ووضعه في سلم أولويات التنمية الاقتصادية. فنحن نبحث عن جذب استثمارات وتوفير موارد اقتصادية لعلها تحل الأزمات التي تمر بها البلاد، ونتغاضى عن مواردنا الزراعية المتوفرة والتي لا تحتاج منا إلا الاهتمام بها وصيانتها والشروع في حل مشكلاتها.

إنه من الجيد أن نبحث عن استصلاح مساحات أرضية جديدة ونبحث لها عن موارد مائية تفي بمتطلبات زراعتها. ولكن ما حال الوادي والدلتا الآن لماذا الإصرار على إهماله، وهل استصلاح أرض جديدة أمر سهل ميسور، أم المحافظة على ما بقى من أراضي الدلتا والوادي ووقف اغتيالها على يد الكتل الإسمنتية الصماء التي تضيف عبئ متزايد يومياً على القطاعات الخدمية والأمنية، وقد يقول قائل أنه القانون وما العمل إذن؟ إن وقف نزيف الأرض الزراعية العتيقة في الوادي والدلتا (تلك المساحات التي لن تعوض والتي تكونت عبر ملايين السنين نقلتها مياه النيل ووطنتها في مصر) لن يتأتى إلا بعلاج دائم لمشكلات الزراعة المصرية؛ فتراجع العائد من الانتاج الزراعي وهو المسبب الرئيسي في تضحية الفلاح المصري بأرضه ليحصل على ما يسد جوعه وينقذه من براثن الفقر.

هل مدت يد المساعدة للفلاح المصري بداية من إعادة الدورة الزراعية وفق تخطيط محكم يقابل احتياجات الوطن من الحاصلات الزراعية، ولماذا لا نتغلب على تفتت الحيازات بعمل التجميعات الزراعية على مستوى الأحواض والقري ليسهل عمل الميكنة الزراعية خاصة مع تفاقم أزمة العمالة الزراعية، إضافة إلى تمكين الإرشاد الزراعي من القيام بالمهام المنوطة به؛ لأنه سوف يتعامل مع وحدة مجمعة تزرع بمحصول واحد وليس مع مئات الحيازات المفتتة المزروعة بحاصلات مختلفة يؤذي بعضها البعض بنقل الآفات فيما بينها، مع التعارض في الاحتياجات المائية.

إن دورة زراعية وفق تخطيط محكم تتماشى جنباً إلى جنب توفير مستلزمات الانتاج اللازمة بالكميات اللازمة وفق احتياجات المحاصيل، مع إعادة الاعتبار لدور التعاونيات في توفير مستلزمات الانتاج. وجعلها في بؤرة تسويق المنتج الزراعي ليس بالأمر الصعب ولكنه يدخل في دائرة الممكن.

*كاتب المقال: باحث أول بمحطة بحوث سخا، مركز البحوث الزراعية.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى