تحقيقاتغير مصنف

«التين والزيتون».. في سيناء

كتب: هيثم خيري الشمس حربة مسنونة تنزل على رؤوس جيش الفتح الإسلامي، بقيادة عمرو بن العاص، تصيب من تصيب وتلهب من تلهب..

الهواء الساخن يلفح الجيش بأكمله، ويقع بعضهم في الطريق من الشام إلى رفح ثم العريش، حتى لا يكاد يعي بعض من أفراد الجيش أين يقف بخيله..

حتى عمرو بن العاص نفسه يسأل من حوله: “أين نحن يا قوم، فيقولون له: في العريش، فيسأل: وهل هي من أرض مصر أو الشام؟ فيرد أحدهم: إنها من مصر، وقد مررنا بعمدان رفح مساء أمس، فيقول:هلموا بنا إذا قياما بأمر الله وأمير المؤمنين”.

وكان عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، قبلها بمدة قصيرة يخشى على جيش المسلمين من تيه صحراء مصر، فكتب إلى عمرو بن العاص رسالة قال فيها: “أما بعد، فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، أما إن كنت دخلتها أو شيئا من أرضها فامض وأعلم أني ممدك”.

كان هذا في العام 18 للهجرة، أي 639 للميلاد..

وقصتنا تبدأ هذه المرة مع بدو سيناء المرتحلين، بعد الفتح الإسلامي، وبعد أن أصبح معظمهم يدين بـالإسلام.. مستقرون في أراضيهم حتى هذه اللحظة.

نسعى للإجابة على السؤال الأساسي الذي يدور حوله هذا الموضوع: ماذا كان يزرع البدو قبل قرون؟

بداية، يعتقد كثير من الباحثين أن بدو سيناء، وهم جميعا من العرب، أكثر القبائل احتفاظا بتقاليد البدو حتى هذه اللحظة، ويرجع إليهم الفضل في معرفة الكثير من طباع العرب البدو وتقاليدهم وعاداتهم ولهجتهم وقبائلهم.

هذه الطباع والعادات لم تتغير كثيرا إلى الآن، فالمناخ الصحراوي المتطرف، الذي تشتد فيه البرودة شتاء والحرارة صيفا، لم يسمح لأهل سيناء إلا بالقليل من الزرع والحرث، فضلا عن طبيعتهم الميالة للترحال من أرض لأرض.

مصادر المياه.. من النبع للمكراع

حتى يسهل على دارسي الجيولوجيا معرفة سيناء عن قرب، قسموها إلى 3 أقسام، هي بلاد العريش في الشمال، من رفح مرورا بالشيخ زويد وحتى العريش والمساعيد، وبلاد التيه في الوسط، وهي وسط سيناء كلها، وبلاد الطور في الجنوب، والتي تمتد من أبو زنيمة وأبو رديس ثم الطور وسانت كاترين وحتى نويبع ودهب وطابا.

وبلاد العريش عبارة عن سهول واسعة من الرمال، يصلح جزء كبير منها للزراعة.

وأطلق المؤرخون على بلاد العريش اسم “الجفار”، جمع جفر ومعناها الآبار الواسعة التي لم تبن بالحجارة.

ومن بين تلك الآبار منطقة الجورة، التي تبعد عن العريش 25 كم، وحولها تستقر بعض التجمعات السكنية، ترعى فيها الغنم والإبل.

وفي العريش ورفح والشيخ زويد وفدت قبائل عربية عديدة من فلسطين والشام واستقرت بها، منذ مئات السنين، وعرف عنها الحياة السهلة لتوافر مصادر المياه.

وكثرت الاصطلاحات حول مصادر المياه تلك بأودية سيناء، ولا تزال تستخدم إلى الآن، ومنها العين، وهي نبع ماء صافٍ يجري فوق الأرض طوال العام، والعد، وجمعها عدود، وهي نبع حي في حفرة لا يجري ماؤه. والمشاشي، وجمعه أمشه وهو سرسوب من المياه يجف في الصيف، والصنع وهو سد صناعي من تراب يحفره البدو في طريق السيل لجمع مياه الأمطار، وكانوا يطهرونه كل سنة، والسد، وهو حاجز في مجرى الوادي لحبس المياه في وقت الأمطار، والمكراع، وهي بركة طبيعية بين صخور الجبال تتجمع فيها المياه وقت الأمطار، والهرابة، وهي بركة صناعية في مجرى السيل لتخزين المياه، صنعت إما بطريق النقر في الصخر أو ببناء عادي بالحجر والمونة.

أما بلاد التيه فهي عبارة عن حائط من الصحاري كان من المستحيل عبوره قبل مئات السنين، وينحدر تدريجيا جهة الشمال. وتتكون تلك البلاد من سهل عظيم جامد التربة، يتخلله بعض جبال، وتغطية طبقة رقيقة من فتات الصوان.. وهي أرض من النادر أن تحصل فيها على مصادر للمياه.

ويعرف عن بلاد الطور الطبيعة الجبلية القاسية، حيث يضم جبل طور سيناء وجبل موسى والمناجاة والصفصافة والجبل الأحمر وسريال وأم شومر وجبل حمام موسى والناقوس وحمام فرعون والمغارة وسرابيت الخادم والصهو وأبو السعود والحديد.

وهذا الجزء من سيناء هو الأكثر وعورة، ومساحته ضخمه تبلغ 16 ألف كيلو متر مربع تقريبا، وجباله عبارة عن رواسب من حمم اللافا وكأنها بحر متلاطم الأمواج جمد فجأة بعد أن هدأ البركان منذ مئات الآلاف من السنين.

ومن جوانب الجبال الجامدة، تنحدر الأودية إلى خليجي العقبة والسويس.

النخل والزيتون

يذكر المؤرخ إبراهيم أمين غالي صاحب كتاب “سيناء المصرية عبر العصور” أن أهم الزراعات هي النخيل، فهو يكثر في بلاد الطور والعريش، ولم يكن يوجد له أثر في بلاد التيه (وسط سيناء)، إلا بعد الفتح الإسلامي واستقرار بعض القبائل في هذه الأراضي ومن ثم زراعتها.

كما تزرع سيناء الزيتون بوفرة.. ثم الدوم، وهو نادر بالقرب من الطور.

أما الفواكه كالعنب والرمان والبرتقال واليوسفي واللوز والخوخ والمشمش والتفاح والخروب والسفرجل والتين فتزرع في المناطق التي بها مياه، وفي حدائق دير سانت كاترين تنمو كل تلك الأصناف، كما أن بعض الحدائق بالعريش تزرع هذه الفواكه.

وبعد الاحتلال الإسرائيلي لمصر، زرع أهالي رفح الموالح كالبرتقال والليمون، ثم تطوروا الآن في زراعة “الكلمنتينا” وهي فاكهة تشبه اليوسفي، من خلال احتكاكهم المباشر بالمزارعين والمهندسين الإسرائيليين، فضلا عن زراعة الخوخ.

كما كان يزرع عرب سيناء على المطر الشعير والقمح والذرة الرفيعة.

ومن الأشجار البرية الطرفاء، وتعرف أيضا بشجرة المن، وهي شجرة تتسلط عليها دودة كدودة القز تثقب جذورها وأغصانها، فتخرج نوعا من الصمغ حلو المذاق يجنيه البدو ويضعونه في علب صغيرة لبيعها في مصر باسم المن.

ويستعمل خشب الطرفاء أيضا في بناء بعض قطع من المراكب.

إلا أن من أشهر أشجار الجزيرة هو السينال وينتج نوعا من الخشب الصلب، وشجرة السدر، وهي نادرة نوعا ما ولا توجد إلا في العريش، وأصبحت تزرع الآن في بعض مناطق أخرى مثل رفح والشيخ زويد، وثمرتها تعرف باسم “بالنيك”، وهي تحريف للنبق؛ التفاح الأخضر الصغير.

وهناك شجرة معروفة باسم الأثل، وتزدهر في وسط سيناء والعريش، وكان يستعمل خشبها في صناعة كعوب البنادق والمحاريث وسروج الإبل.

البدو والإبل.. مشاركة في الطعام

ترعى الإبل على نبات يسمى الرتم، وجاء ذكره في التوراة باسم “الريتم”، ويعتقد الأهالى هناك ـ حتى هذه اللحظة ـ أنه يصلح علاجا للمفاصل، كما ترعى الإبل على العدام أو القطف، وهو أكثر الأعشاب انتشارا في شبه الجزيرة، ويستعمل كطعام للإبل والبشر على حد سواء، حيث كان يأكله البدو مسلوقا أو مقليا في السمن.

كما عرف البدو الشيح منذ آلاف السنين، وله رائحة عطرية كانوا يبخرون بها عرائشهم وخيامهم، لطرد الثعابين، ويدق الشيح قبل مزجه بالبلح والكمون والفلفل لاستعماله بهارا للأطعمة.

ويستخدم نبات شهير اسمه “القيصوم” في علاج العيون ضد الرمد. كما يكثر نبات اللصف، وهو ينبت في شقوق بين الصخور، ويكثر في جنوب ووسط سيناء، ويستعمل في علاج أوجاع المفاصل، فتغلى أوراقه ويبخر به المصاب حتى يتصبب عرقا.

ومن النباتات الطبية أيضا اللصف، ويستخدم لعلاج أمراض الأمعاء، والحنضل، وكان البدو يجمعونه ويبيعونه لتجار غزة، حيث يستعمل في الصيدلة، والفرقد، وهو نبات يشبه حب الرمان، وحلو المذاق يأكله البدو حتى الآن وكانوا يستخرجون منه العسل بعد عصره في مناديل وغليه على النار. كما يأكل البدو نبات اليهق أو التمير، وله الحب المعروف لدينا في القاهرة والمحافظات باسم حب العزيز.

القبائل

تسبب الفتح الإسلامي في هروب قبائل بأكملها من سيناء، فيما نزحت قبائل عربية أخرى إلى مصر، واستقرت في شبه الجزيرة، ويذكر الكثير من المؤرخين ومن بينهم نعوم شقير أن القبائل تشاركت الحياة، وتزوج أهلها من بعضهم، مع احتفاظ كل قبيلة بنسبها وأصلها.

ومن بين هذه القبائل الوحيدات والرشيدات، وهما فرعان من قبيلة بني عطية، ولما انقرضت تلك القبيلة ظلت بقية من الوحيدات في غزة. وقبيلة العايد، وأصلها من سيناء، إلا أن أهلها تحضروا وترك معظمهم شبه الجزيرة واستقروا في الشرقية.

كما استقر في الشرقية أيضا قبيلة بني سليمان. واستولت قبيلة النفيعات على جزء كبير من بلاد الطور إلى أن طردتهم قبيلة العليقات منها، فتركوها واستقروا في الزقازيق.

وكان بدو الطور وقبائلها في عهد محمد علي يهددون الطريق بين السويس والقاهرة بعمليات نهب وسلب، ومنذ أن أخمد محمد علي نشاطهم أصبحوا مسالمين إلى الآن، وقد عرف عن أهل الطورة كرم الضيافة والمحافظة على الشرف.

أما بلاد وسط سيناء فتسكنها إلى الآن قبائل التياها والترابين واللحيدات والحويطات، وتعتبر التياها من أقدم القبائل، ويعود نسبهم إلى بني هلال في نجد، هربوا من بلادهم فرارا من قبيلة المعازة وسكنوا جبال التيه بعد حرب مع قبيلة الترابين، ثم اتفقت القبيلتان على قسمة المنطقة.

وأشهر المناطق التي يسكنها التياها نخل ولهم مزارع في أودية المويلح والعريش، ويقال عن التياها أنهم اشتهروا بالسذاجة، أما الحويطات فاشتهرت بالشراسة والميل إلى السرقة والنهب.

ويسكن بلاد العريش قبائل السواركة والرميلات والعبابدة والأخارسة والعقايلة وأولاد علي والقطاوية والبياضين والسماعنة والسعديين والدواغرة.

المساحة المستغلة من شبه جزيرة سيناء الآن نحو ربعها تقريبا، وإلى الآن يعيش أهالي وبدو سيناء في تيه التنمية المفقودة.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى