رأى

الاقتصاد والابتكار: محرك التنمية المستدامة نحو مستقبل متوازن

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

عندما نتحدث عن اقتصاد قوي ومستدام، فنحن نعني منظومة تحافظ على قدرتها الإنتاجية دون استنزاف مواردها أو تدمير بيئتها أو ترك أحد خلف الركب، حيث يصبح كل مشروع فرصة للربح وحماية التوازن البيئي والاجتماعي. دعم المشروعات الخضراء هنا حجر الأساس، من الزراعة العضوية وإعادة التدوير إلى النقل الكهربائي والبنية التحتية الصديقة للبيئة. الاستثمار في الطاقة المتجددة رهان على استقلال الطاقة والتحرر من تقلبات أسواق النفط، وضمان بيئة نظيفة للأجيال القادمة. أما الاقتصاد الدائري فيكسر نموذج “الإنتاج – الاستهلاك – النفايات” ليصبح “الإنتاج – الاستهلاك – إعادة الاستخدام”، محولًا المخلفات إلى موارد.  لكن التحديات قائمة؛ إذ تظل الصناعات الملوثة مصدر أرباح سريعة لكنها تترك آثارًا بيئية وصحية خطيرة، ويؤدي ضعف تمويل الابتكار إلى بطء في تحويل الأفكار الخضراء إلى منتجات منافسة، كما تحد قلة الحوافز من جذب الاستثمار المستدام.

ورغم ذلك، فإن الفرص واسعة؛ فالحوافز الضريبية يمكن أن تجعل الاستثمار الأخضر أكثر جاذبية، والشراكات بين القطاعين العام والخاص قادرة على تسريع مشروعات الطاقة المتجددة والنقل المستدام، وتمويل الأبحاث التطبيقية يمنح المبتكرين القدرة على تحويل أفكارهم إلى إنجازات حقيقية. في النهاية، يصبح الاقتصاد المستدام العمود الفقري للتنمية، يمد باقي المحاور بالموارد، ويفتح آفاق التوظيف والإبداع، ويضمن أن ما نبنيه اليوم سيظل مصدر قوة لا عبئًا على الأجيال القادمة.

دعم المشروعات الخضراء، الاستثمار في الطاقة المتجددة، تعزيز الاقتصاد الدائري. 

دعم المشروعات الخضراء ليس مجرد خطوة بيئية تُضاف إلى قائمة المبادرات الحسنة النية، بل هو بوابة واسعة نحو تحول اقتصادي شامل، حيث تتحول الأفكار المبتكرة إلى كيانات حقيقية تنبض بالحياة، توظف العقول الشابة وتخلق فرصًا مستدامة، وتدفع عجلة الإنتاج إلى الأمام دون أن تثقل كاهل البيئة. هذه المشروعات ليست فقط مصانع للطاقة أو الحدائق المستدامة، بل هي مختبرات حية للإبداع، تتحدى النماذج التقليدية وتضع أسسًا لاقتصاد أكثر مرونة وقدرة على مواجهة الأزمات.

أما الاستثمار في الطاقة المتجددة، فهو بمثابة زرع شمس جديدة في قلب الاقتصاد، تمنحنا ضوءًا لا ينطفئ وطاقة لا تنضب، وتحررنا من قيود الاعتماد على الوقود الأحفوري وتقلبات أسعاره، وتدفعنا إلى آفاق أوسع من البحث العلمي والابتكار الهندسي. إنها استثمار لا يقتصر على البنية التحتية فحسب، بل يمتد ليشمل بناء قدرات بشرية قادرة على إدارة هذه التقنيات وتطويرها، مما يعزز مكانة الدولة في سوق عالمي يتجه بسرعة نحو الطاقة النظيفة.

وفي قلب هذه المنظومة، ينهض الاقتصاد الدائري كثورة صامتة تغير أسلوب حياتنا من جذوره، حيث تتحول النفايات من عبء خانق إلى كنز من الموارد التي يعاد تدويرها وتوظيفها في إنتاج جديد. إنها دورة حياة متجددة تحاكي الطبيعة في ذكائها، فلا هدر ولا استنزاف، بل توازن بين الحاجة البشرية والحفاظ على الموارد للأجيال القادمة.   بهذه الخطوات، تتشكل لوحة متكاملة الألوان، يلتقي فيها الابتكار بالاستدامة، ويتحول الاقتصاد من خصم للبيئة إلى حليف لها، لتولد منظومة تنموية قادرة على الصمود في وجه التحديات، والنمو بلا حدود، والحفاظ على كوكبنا كبيت آمن للأجيال.

الاقتصاد هو الوقود الذي يدعم باقي محاور التنمية. 

الاقتصاد هو القلب النابض لأي مشروع تنموي، والوقود الذي يمد جميع المحاور الأخرى بالحياة والحركة، لكنه أيضًا البوصلة التي تحدد اتجاه المسيرة. فبدون قاعدة اقتصادية قوية، تبقى الخطط الاجتماعية والثقافية والسياسية مجرد أحلام مؤجلة، تنتظر من يمدها بالطاقة والموارد لتتحقق على أرض الواقع. إنه المحرك الخفي الذي يضمن استمرارية المبادرات ويمنحها القدرة على التوسع والتأثير، تمامًا كما يحتاج الجسد إلى الدم ليواصل الحياة، وكما تحتاج الشجرة إلى جذور عميقة لتقاوم العواصف.

عندما يزدهر الاقتصاد، يصبح تمويل المشروعات الخضراء والطاقة المتجددة أمرًا طبيعيًا لا عبئًا، وتتحسن الخدمات العامة، ويتاح الاستثمار في التعليم والصحة، فتتغذى بقية محاور التنمية وتزدهر. وعندما يتعثر الاقتصاد، تتداعى القطاعات الأخرى تباعًا، فتتقلص فرص العمل، وتتراجع القدرة على تمويل المبادرات، ويبدأ الإحباط يتسرب إلى المجتمع، فيضعف الاستقرار وتتراجع الثقة بالمستقبل.

الاقتصاد المستدام هو الضامن الحقيقي لعدالة توزيع الموارد، ولإيجاد فرص متكافئة تتيح لكل فرد المساهمة في عجلة الإنتاج. إنه ليس مجرد أرقام في تقارير مالية، بل شبكة حياة متكاملة تؤثر في جودة البيئة، وتحدد مستوى الخدمات، وتفتح أبواب الابتكار والبحث العلمي. ومن هنا، فإن قوة الاقتصاد ليست رفاهية، بل شرط أساسي لكي تكتمل دائرة التنمية، وتصل ثمارها إلى الجميع، ويظل مسار التقدم مستمرًا مهما اشتدت التحديات أو تغيرت الظروف.

الاعتماد على الصناعات الملوثة، ضعف تمويل الابتكار، قلة الحوافز للاستثمار المستدام.

أحد أبرز التحديات التي تقف في طريق الاقتصاد المستدام هو استمرار الاعتماد على الصناعات الملوثة، تلك التي تدر أرباحًا عاجلة لكنها تستهلك البيئة وتستنزف مواردها بصمت، وكأننا نقتات من جسد الأرض نفسه دون أن نترك لها فرصة للتعافي. هذا الاعتماد يخلق معادلة مختلة، حيث يُقاس النجاح المالي دون احتساب فاتورة التلوث التي سيدفعها الأجيال القادمة.

يضاف إلى ذلك ضعف تمويل الابتكار، فالأفكار الخضراء والتقنيات النظيفة غالبًا ما تبقى حبيسة المخابر والعقول المبدعة، لأنها لا تجد من يمنحها الجسر الذي تعبر به من الفكرة إلى التطبيق. وبدون هذا الدعم، يظل الابتكار رفاهية نخبوية بدل أن يصبح أداة عملية لحل المشكلات البيئية والاقتصادية معًا.  أما قلة الحوافز للاستثمار المستدام، فهي تجعل رأس المال ينجذب نحو المشاريع التقليدية الأسرع ربحًا، ويغض الطرف عن المشاريع التي تحتاج وقتًا أطول لكنها تمنح عوائد أعمق وأكثر استدامة. فحين يغيب التشجيع والامتيازات الضريبية أو الدعم الحكومي، يصبح الطريق نحو الاستثمار الأخضر مليئًا بالعقبات، وتضيع فرص كان يمكن أن تغير ملامح الاقتصاد برمته.

هكذا، تتشابك هذه التحديات لتشكل جدارًا يعيق حركة التحول نحو اقتصاد أكثر وعيًا ومسؤولية، جدارًا لا يمكن هدمه إلا بإرادة سياسية حازمة، وتمويل جريء، ورؤية ترى في المستقبل استثمارًا لا مخاطرة.

حوافز ضريبية، شراكات بين القطاعين العام والخاص، تمويل الأبحاث التطبيقية. 

الحوافز الضريبية يمكن أن تكون الشرارة التي تشعل حماس المستثمرين نحو المشاريع المستدامة، فهي لا تخفف العبء المالي فحسب، بل ترسل رسالة واضحة بأن الدولة تراهن على الاقتصاد الأخضر وتدعم رواده. وعندما يدرك رواد الأعمال أن استثماراتهم الصديقة للبيئة تحظى بامتيازات وتشجيع، فإن عجلة الابتكار تدور بسرعة أكبر، ويتحول الطموح إلى مشاريع ملموسة تخلق فرص عمل وتبني مستقبلًا أنظف.

أما الشراكات بين القطاعين العام والخاص فهي الجسر الذي يربط بين قوة رأس المال الخاص وخبرة وإمكانات الدولة، حيث يتكامل الطموح التجاري مع المصلحة العامة. هذه الشراكات قادرة على إطلاق مشروعات كبرى، من البنية التحتية الخضراء إلى المدن الذكية، بحيث تصبح التنمية المستدامة مشروعًا جماعيًا لا عبئًا على طرف واحد.  وتمويل الأبحاث التطبيقية هو المفتاح الذي يفتح أبواب المستقبل، إذ يحول النظريات العلمية إلى حلول عملية، ويمنح المبتكرين فرصة لاختبار أفكارهم على أرض الواقع. فعندما يجد الباحثون الدعم المادي والبيئة المواتية، تتولد تقنيات جديدة، وتتحسن كفاءة الإنتاج، ويصبح الاقتصاد قادرًا على النمو دون أن يدفع ثمنه من صحة الأرض.  بهذا التكامل بين الحوافز، والشراكات، ودعم البحث، تتحول الفرص إلى قوة دافعة تجعل الاقتصاد المستدام خيارًا طبيعيًا لا استثناءً.

وهكذا، يتضح أن المحور الاقتصادي والابتكاري ليس مجرد جانب من جوانب التنمية المستدامة، بل هو محركها الأساسي وعصبها النابض. فمن خلال اقتصاد يوازن بين الربحية والمسؤولية، وابتكار يربط الخيال بالواقع، نستطيع خلق منظومة تدعم جميع القطاعات وتمنحها القدرة على النمو دون الإضرار بالبيئة أو المجتمع. إن الاستثمار في المشاريع الخضراء والطاقة المتجددة والاقتصاد الدائري ليس ترفًا، بل هو رهان على مستقبل أكثر أمانًا وعدالة للأجيال القادمة. وعندما تُفتح أبواب الابتكار، ويجد المستثمرون الحوافز، ويتعاون القطاعان العام والخاص بروح الشراكة، يصبح المستحيل ممكنًا، وتتحول التنمية من شعارات إلى إنجازات ملموسة. بهذا، نضمن أن الطريق نحو الغد ليس مجرد استمرار للحاضر، بل قفزة واعية نحو مستقبل تتعايش فيه البيئة والاقتصاد والإنسان في معادلة متوازنة ومستدامة.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى