رأى

الأكل كممارسة اجتماعية

بقلم: د.ملك رشدي

الأكل حاجات كتيرة جدا. مش بنفكر فيه وبنفكر فيه طول الوقت، بمعنى، مثلاً كلنا بناكل رز. كلنا بناكل عيش. معظمنا بيحب الشيكولاتة، والحلويات. عمرنا بنفكر ليه؟ ليه بحب الأكلة دي، وبالطريقة دي؟ وليه بآكل في المواعيد دي؟ ليه، غالبا هو سؤال مش بنلاقي له إجابة.

معظمنا مش بيقف يسأل ليه، أو أسئلة من نوعية “لماذا” بخصوص الأكل. الأكل مشترك بين الناس كلها، وبناكل طول الوقت، كل يوم، وبناكل مع بعض، ومع ذلك الأكل حاجة صعبة شوية. على قد ما هو فعل جماعي على قد ما هو فعل فردي جدا. بمعنى: حاجة بتخش بقي، بأشمها وأشوفها.. بآكل بعيني في الأول، وبعدين أدوقها، إلخ. في الفترة دي كلها رغم إن ممكن نكون بناكل مع بعض، كل واحد فينا تجربته مع الأكل فردية.

على قد ما هو فعل الأكل فردي وحميمي وشخصي فهو فعل جماعي برضه. قريب جدا من فعل الجنس. فعل بيقوم به فرد بمشاركة، فيه استمتاع، فيه خوف، فيه مشاعر مختلفة، وأساسي في الحياة، وبيخش فيه العنصر البيولوجي.

لو افترضنا ما سبق، هنلاقي إن الأكل وممارستنا للأكل، إنه بيستدعي منّا استخدام حواسنا الخمسة تقريبا. بنتعلم نستطعم، بنحس بإحساس بالراحة بعد الأكلة الحلوة. إلخ. ومتعة الأكل مع الجماعة، مع الناس، بتبقى ممارسة مهمة جدا، ولذلك هي لها عناصر أو مظاهر. في المجتمعات تاريخيًا وحاليا، هنلاقي إن المجتمعات بتقنن علاقتها بـالأكل.

في الأديان مثلا، الأديان كلها أو معظمها بتقنن الأكل. بتقننه بطرق مختلفة، يا إما بالتحريم أو بتزقنا ناكل حاجات معينة في أوقات معينة، أو الصوم لأسباب متعددة، ومعظم الديانات فيها صيام، وبنقدم أضحية، والأكل بيتحول في بعض الأديان لشيء مقدس.

كل الأشياء دي مش بنفكر فيها، لأن الأكل في أحيان كتير بيتشاف كأن فيه نوع من السحر. وفيه اللي ورا هذا الفعل، الشيء اللي بنستمتع به، بنعرف إن فيه حد شاطر، اللي عمل الأكل، اللي عنده “نفس” حلو في الأكل. فيه حاجات بتخلي الشخص ده اللي نقل شيء خام (لحمة نية مثلا) إلى شيء لذيذ وممتع، عملية التحويل دي بيقوم بها شخص عنده قدرات مش عندنا.

بغض النظر عن كوننا بنستمتع بالأكل كحاجة بتغذينا وتدينا طاقة وتجمعنا في قعدة حلوة، إلخ، فعلاقتنا به متوترة جدا. متوترة لأن فيه فكرة الخوف.. لأن لما بشوف حاجة بأبلعها، لازم أبقى عارفة أنا بآكل أيه، إيه صنف الأكل اللي بأكله، لازم أعرف. فيه فكرة “الوحدة” في الأكل، الناس اللي ممكن تاكل لوحدها، مش في جماعة.

الخوف من أكل الحاجة الزفرة أو اللي مش نضيفة، أو مش طاهرة.. حاجة فيها دم مثلًا. فكرة الخوف من الحرمان من الأكل، إني “مش هلاقي آكل”، أو الخوف من نقص الأكل باستمرار، في أيام الحروب مثلا. فكرة الخوف حاليا من المبيدات اللي بتترش على الخضار والفاكهة.. الخوف من الجلوتين عند بعض الناس، إلخ.

لكن كمان نتيجة للتغيرات اللي حصلت في القرن العشرين ولحد دلوقت، بقينا نخاف إننا نفقد الشيء اللي بيربطنا ببعض وإحنا بناكل مع بعض. لمة العيلة حوالين الأكل مثلاً، المشاعر دي. الخوف من أفول العلاقات الإنسانية اللي الأكل له دور فيها.

زمان كانت مكونات الأكلة الواحدة معروف هي جاية منين. انهاردة لما اروح محل حلويات أشتري جلاش مثلا مش بابقى عارفة هو مصدره أيه. عارفة اسم المحل بس مش مكونات الجلاش ولا الدقيق بتاعه منين ولا فيه جلوكوز ولا سمنة بلدي، إلخ. كل اللي أعرفه إنها حلويات طعمها حلو أو مش حلو.

حصل انفصال بيننا وبين الأكل اللي بناكله. مبقيناش نعرف بناكل أيه. الناس خلاص بتنسى المكان اللي اتعمل منه الشيء أو حرفة عمل الأكلة دي منين.. الحكاية بتقف على اسم الحلواني أو المطعم أو السوبرماركت.

كل علاقاتنا بـالأكل مرتبطة بالزمن وبالمكان وبممارسات وتجارب شخصية وجماعية. كتير بنستعمل التجارب دي ونغرسها في ذاكرتنا. كل ده بيكون في إطار اقتصادي سياسي اجتماعي. الأكل له دلالة ومعنى، حتى في اختياراتنا للأكل. بنقول عايزين الأكل ده، من غير ما نقول لنفسنا ليه.

كل دي تساؤلات وظواهر دفعت الأكاديميين يفكروا في حكاية الأكل. كل اللي حكيناه ده بيفكرني بمقولة لماركس: “البشر بيصنعوا تاريخهم لكن مش على هواهم، مش بيعملوه في ظروف من اختيارهم، بيعملوه في ظروف موجودة أصلًا، بيتم نقلها إليهم من الماضي”.

بنفس الطريقة، بعض الأكاديميين فكروا في الأكل: إننا بنتخيل إننا لنا اختيارات في الأكل، لكن في الحقيقة الأكل واختياراته ناتجة عن ظروف، من صنع حاجات كتيرة جدا قد نكون طرف فيها أو لأ. فيه محددات كتيرة جدا، متصلة بالاقتصاد والسياسة والثقافة، وساعات عوامل نفسية، زي الناس اللي بتعاني من الأنوريكسيا. السؤال اللي بنسأله لنفسنا: مين بياخد قرار اللي إحنا بناكله؟ مين طور الأكلات؟ البطاطس مثلا.

البطاطس لها حدوتة تاريخية مهمة جدا. في القرن التمنتاشر الناس في أوروبا كانوا بياكلوا ورق البطاطس، لحد ما حصلت مجاعة أيرلندا في القرن التمتناشر فالناس نبشت في الأرض وكلوا الدود، وفجأة قرقشوا الـTuber  لقوا إن Tuber  البطاطس بيتاكل. الأزمة والصدفة هي اللي ابتكرت أكل البطاطس. وإيه اللي جابها من بيرو إلى أوروبا، في بعض المناطق بقت مستوطنة، المحصول الأساسي للبشر. زي الفول عندنا مثلا. هل هو بمزاجنا ولا فيه ظروف أخرى خلتنا نعتبره طعامنا الأساسي؟

تاريخ الطعام تاريخ معقد جدا لكنه إلى حد كبير بلا أسماء. يعني مفيش نابليون عمل كذا وكذا. ده تاريخ اجتماعي.

في القرن العشرين البشرية أنتجت أكل بكميات غير مسبوقة، وبأسعار أقل بكتير – نسبيا – من قبل كده. لكن في المقابل فيه كارثة، 11 في المئة من البشرية عندهم سوء تغذية. هنلاقي إن في سنة 2002 15% من سكان العالم مكانوش لاقيين ياكلوا.

تداعيات سوء التغذية مش بس إن الإنسان بيبقى هزيل أو معرض للأمراض، لا كمان فيه السمنة اللي سببها سوء التغذية.

في مصر مثلا مع انتشار الفقر (اللي مش بيقل إطلاقًا في أضعف التقديرات عن 28%) وصلت السمنة في الأطفال بسبب سوء التغذية إلى 13%، ووصل 35% في البالغين، بحسب إحصاءات اليونيسف.

فيه إحصاءات حقيقية مرتبطة بـسوء التغذية. بنفس الطريقة هنلاقي الحروب زي في سوريا أو اليمن حاليا فيه مجاعات، في حين إن في دول تانية بعض المحاصيل بتترمي في البحر.

أمريكا من أهم الدول اللي عندها أعلى معدل “رمي محاصيل في البحر” علشان فيه إنتاج زائد/مفرط، ففي الحالة دي لما العرض بيكون عالي الأسعار بتنزل، فالحكومة بتدعم الفلاح وتعوض ده برمي الفائض في البحر عشان الشركات الكبيرة تفضل محافظة على الأسعار.

أمريكا رمت سنة 2005 حوالى 35% من إنتاج الدرة بتاعها في البحر عشان تحافظ على السعر، وفي 2015 رمت 15% من إنتاجها من الدرة، وبيرموا القمح وفول الصويا برضه عشان الأسواق، وكمان فيه هدر ضخم نتيجة لأن الأكل بيتم تداوله في العالم بشكل أكبر. الهدر نتيجة التخزين، والنقل، والتوزيع.

شفنا من كام سنة مشكلة القمح ناتجة عن سوء التشوين.. وسوء إدارة التخزين. القضية مش في الإنتاج على قد ما هي التوزيع وفكرة إن إحنا عشنا قرن وأكتر بفكرة: أنتج انتج وشوّن.

ده كان تقديم سريع لأبعاد متعددة لماهية الأكل. لكن زي ما شفنا في القرايات اللي قرينهاها للجلسة دي، الأكاديميين اهتموا جدا بحكاية الأكل. وفيه فضل كبير في الموضوع للمؤرخين، الحق يتقال، والناس بتوع الأنثروبولوجي.

المؤرخين اهتموا بالموضوع لأن الأكل شافوه انعكاس للتغير الاجتماعي. كان مدخل مهم في التأريخ. مدرسة الحوليات (الآنال) على راسهم ناس زي بروديل وغيره اهتموا باليومي والمُعاش.. رصد الأشياء اللي مش موثقة رسميًا أو تعتبر تاريخ رسمي. فطرحوا أسئلة بالنسبة لي مهمة جدا. طرحوا أسئلة زي: “الطبيخ بدأ إزاي؟ عملية تحويل شيء إلى شيء؟ إزاي البشر اخترعوا فكرة الوليمة؟ جت منين؟ أو الاحتفالات بـالأكل؟ أو الأكل الممتد، إننا ناكل لمدد طويلة، إزاي بنطول مدة الوجبة؟ من إمتى بدأنا ناكل على ترابيزة، مش وإحنا قاعدين على الأرض؟ امتى بدأنا نستخدم الشوكة والسكينة بدل ما ناكل بإيدنا؟” كلها أسئلة مهمة إجاباتها متصلة بالتنوع الثقافي في التاريخ.

فيه اتجاه تاني في دراسة الأكل يهمنا أنهاردة أكتر: الاتجاه الخاص بجانب “نُظم الطعام” food systems. لأنه بيعتمد على فكرة دراسة المنظومة بالكامل، مش جزء منها. مش بس الثقافة أو التغذية في حد ذاتها، مش بس السوق، مش بس الاستهلاك. لأ: دراسة المنظومة بالكامل من أولها لآخرها. لأن لغاية قريب كنا بنبص على قمقم، على حاجات صغيرة، ونسينا إن الأكل حاجة متشعبة جدا فده مش هيساعد نحط إيدنا على المشاكل الحقيقية. بالتالي فكرة “نظم الطعام” اعتمدت على 3 حاجات هى: Food systems – food regime – food networks

ده نظام قائم على الماركسية، تحليل فائض القيمة بتروح فين في منظومة الأكل.

الزراعة بتمثل 10% تقريبا من التجارة العالمية. لسه متكملناش على الصناعات الغذائية أو تحويل الأكل processing. الزراعة + السلع الغذائية المحولة بيقال إنها بتمثل المصدر التاني في الضخامة في التجارة العالمية بعد السلاح.

المنظومة دي قايمة من الزراعة للتخزين للتسويق للمستهلك، وطرق وسبل الطعام وإمكانية الحصول عليه وإمتى بناكله وإزاي وليه وتصوراتنا عنه إيه. الجزء بتاع: food regime اللي هو مش نظام، أو نظام لو اعتبرنا كلمة system هي منظومة.

المهم، مرحلة الفود ريجيم بص عليها اتنين باحثين في بعدها التاريخي: علاقات الأكل مبنية على علاقات قوة، لها مركز جغرافي في أزمنة معينة، وبيبقى لها آليات تراكم معينة لرأس المال. لما بيبصوا ع القرن التسعتاشر والعشرين والواحد والعشرين، بصوا على الأوقات اللي حصل فيها أزمات غذائية. مثلا 2008 شهدت أزمة غذائية.

والحرب العالمية الأولى أو بعدها شهدت أزمة غذائية. بصوا على مسببات الأزمات دي، وعلاقتها بكل الأطراف المعنية في نظام الأكل، ومن خلالها بيوصلوا ويعرفوا فائض القيمة بيروح فين في ظل الأزمة.

المهم إنهم اكتشفوا إن الأزمات الغذائية بتحصل عادة في مراحل انتقالية للمجتمعات، هي لحظات نهاية وبداية. فيه خلل بيحصل أو أزمة، هنطلع منها على مرحلة جديدة. وشافوا إن عادة علاقات قوة متناقضة بتتحول في تغيرات نظام الأكل دي.

مثلا كل سياسات التنمية الغذائية، وهيئات الأمم المتحدة المعنية بالغذاء، واهتمامها بـالفقر، في مصر مثلًا، عملوا مركز لرصد الغذاء في مصر. وكان عندهم تحليلات مهمة جدا، كان بينزل كل شهر تقرير إحنا بالظبط بناكل أيه. كان هاجس كبير وطلعت معاه بعض الآليات علشان يحصل توازن ومنقعش في أزمة غذائية.

الخلاصة: فكرة الفود سيستم جزء من مجال دراسات الأكل لكن أهميتها إنها بتنقلنا من أول المُزارع لغاية الأكل اللي بيدخل بُقنا. في المراحل دي بنشوف علاقات القوة بين الأطراف المختلفة، ومنها الشبكة الكبيرة جدا اللي بتوصل الأكل للمستهلك. من وجهة النظر دي الأطراف مش معزولة عن بعضها، وده بيسمح لنا نفكر بجدية في دراسة المتغيرات اللي حاصلة بخصوص السيادة الغذائية مثلاً.

*كاتبة المقال: أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة الأمريكية.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى