رئيس التحرير

أسامة بدير.. يكتب: إذن هي الحرب

د/أسامة بدير

لقد كنت من بين أوائل الذين حذروا من مغبة عزم إثيوبيا بناء سد على النيل الأزرق أطلقت عليه أسم سد الألفية عام 2006، وتعالت تصريحات عدة من الجانب الإثيوبى وقتها بأن دراسات مستمرة تمت منذ سنوات على إنشاء هذا السد، لكن القيادة السياسية التى كانت تحكم مصر وقتها استطاعت وقف هذا الهزل الإثيوبى.

تسارعت الأحداث وحدثت ثورة يناير 2011 وما تلاها من قلائل، شد وجذب بين القوى السياسية من ناحية والمجلس العسكرى الذى كان يحكم البلاد فعليا بعد أن فوضه الرئيس حسنى مبارك من ناحية اخرى.

استغلت إثيوبيا حالة السيولة التى كانت تعيشها مصر ممثلا فى نظامها السياسى وهشاشة الجبهة الداخلية، وأعلنت فى 2 أبريل 2011 عن البدء فى تدشين أكبر وأضخم سد كهرومائى فى أفريقيا والعاشر على مستوى العالم وهو سد النهضة من أجل توليد الطاقة الكهربائية بقدرة 6000 ميجاوات.

تعمدت إثيوبيا إخفاء معلومات هامة عن قدرات السد التخزينية وارتفاعة ومصادر تمويله لكن ثمة تقارير صحفية كانت تتحدث عن بعض المعلومات التى كانت تنقل عبر مصادرها من داخل إثيوبيا وبعض المنظمات الدولية، التى استطاعت زيارة السد ومشاهدة عمليات الإنشاء التى كانت تتم بسرعة من أجل انجاز أعمال إنشاءات السد، ليصبح أمر واقع لا مفر منه تحت سمع وبصر المصريين الذين انشغوا بقضايا السياسية أكثر من اهتمامهم بقضية مياه نهر النيل التى هى مسألة حياه أو موت بالنسبة لـمصر وشعبها.

لن أخوض فى تفاصيل سياسية وما شهدته ساحة العمل فى مصر فكلنا يعرف ما جرى، لكن يظل الأمر الخطير الذى أوصل مصر إلى النقطة الأضعف فى معادلة مفاوضات سد النهضة وبعد الإعلان عن فشلها هو توقيع مصر على إعلان اتفاق المبادىء فى مارس 2015 مشاركة مع إثيوبيا والسودان.

ورغم أننى كنت مع الفريق الذى عارض وبشدة هذه الخطوة وحذرت مرارا وتكرارا من خطورة ذلك وتدعياته على حصة مصر السنوية من المياه التى تقدر بنحو 55,5 مليار متر مكعب، فالشواهد كانت تؤكدا أن هذه الحصة سوف تقل من 25 إلى 30% بسبب سد النهضة المقام على النيل الأرزق الذى يمثل أهم رافد من روافد المياه التى تصل إلى مصر – حوالى 80% – وما يتبع ذلك من نتائج اجتماعية اقتصادية كارثية على الريف المصرى.

كنت أول من قام بإعداد دراسة علمية رصدت الآثار الاجتماعية الاقتصادية المتوقعة لـسد النهضة الإثيوبى على الريف المصرى، ونشرت الدراسة فى مجلة الاقتصاد الزراعى والعلوم الاجتماعية، بكلية الزراعة، جامعة المنصورة، المجلد 6، العدد 9، سبتمبر 2015، وكشفت الدراسة عن 53 أثر اجتماعى اقتصادى متوقع على الريف فى مصر، حال إنتهاء إثيوبيا من بناء سد النهضة عام 2018 وبداية عملية تخرين حوالى 100 مليار متر مكعب من المياه خلال سنتين أو ثلاثة.

وتمثلت أهم نتائج الدراسة:

موافقة الخبراء المبحوثين على بنود بعض الآثار الاجتماعية الاقتصادية المتوقعة لـسد النهضة الإثيوبى على الريف المصرى، حيث تبين أن البندين اللذين كانا فى المقدمة وفقا للمتوسط الحسابى الذى بلغ 2,60 هما نقص الحصة السنوية من المياه، وارتفاع أسعار الغذاء، ثم تلاهما البند الخاص بزيادة معدل الهجرة من الريف إلى الحضر وذلك بمتوسط حسابى 2,59.

وتُشير هذه النتائج إلى أن مصر قد تكون مُقبلة على مرحلة حرجة تقل معها حصتها السنوية من مياه نهر النيل، وبالتالى نقص المساحات المزروعة وقلة المعروض من الغذاء وتقلص فرص العمل بـالريف الأمر الذى يدفع أبناءه للهجرة إلى الحضر أو خارج الحدود الوطنية.

بينما جاءت بنود الآثار الثلاثة الأخيرة – الاجتماعية الاقتصادية المتوقعة لـسد النهضة الإثيوبى على الريف المصرى – وفقا لرأى الخبراء هى ضعف التفاعل الاجتماعى بين الريفيين، وتدهور المستوى التعليمى لأبناء الريفيين، وتدنى مكانة المرأة الريفية وذلك بمتوسط حسابى بلغ 1,80، 1,73، 1,61على الترتيب.

وقد تُشير هذه الآثار الثلاثة الأخيرة إلى ما يعانيه المجتمع الريفى حاليا من ضعف بنيته الاجتماعية التى تأثرت كثيرا بسياسات برامج الاصلاح الاقتصادى التى لم تراعِ البعد الاجتماعى للريفيين، مما أثر بالسلب على انهيار قيم التعليم والتفاعل والاندماج الاجتماعى ومكانة ونظرة المجتمع الريفى للمرأة، وجميعها آثار أكدتها دراسات عدة قبل سد النهضة الإثيوبى.

وذكر الخبراء المبحوثين أربعين مقترحا للتكيف مع بعض الآثار الاجتماعية الاقتصادية المتوقعة لـسد النهضة الإثيوبى على الريف المصرى، وكان أكثر من ثلاثة أرباع الخبراء قد ذكروا أربعة مقترحات هى: استنباط أصناف من المحاصيل تتحمل العطش والملوحة وقصيرة العمر بالتربة (89%)، واعادة النظر فى التركيب المحصولى بهدف ترشيد استخدام مياه الرى (83%)، واقامة مجتمعات زراعية صناعية متكاملة فى الريف (80%)، وتوفير الحياة الكريمة لأبناء المجتمع الريفى (79%)، تليها ثلاثة مقترحات هى: توعية المزارعين بأساليب وطرق الرى الموفرة للمياه (64%)، وتوعية الريفيين بأنماط الغذاء الصحية مع تبنى سياسة الترشيد الغذائى (55%)، واقامة مراكز لتدريب العمالة الزراعية لرفع كفاءتها أو تدريب تحويلى (51%)، وجاء فى نهاية المقترحات تطبيق نظام للضرائب علي الانتاج الزراعي وفق البصمة المائية للمنتج (1%)، وتفعيل المشروعات المشتركة مع دول حوض النيل (1%)، واستكمال مشروع قناة جونجلى لتوفير 7 مليار متر مكعب من المياه (1%).

لقد بات من المؤكد أن ما كنت أتوقعه الأمس من خلال هذه الدراسة التى قمت بها بمشاركة عالمان من علماء مركز البحوث الزراعية، هما الدكتورة ماجدة قطب – أستاذ الاجتماع الريفى، والدكتور سامى الغمرينى – أستاذ الإرشاد الزراعى، والتى استغرقت 11 شهر تقربيا بات أقرب إلى الحقيقة التى ينبغى التعامل معها بكل حسم وحزم خاصة بعد فشل المفاوضات العبثية التى استمرت أكثر من ثلاث سنوات على مدار قرابة الـ37 اجتماع ثلاثى جمع مصر والسودان وإثيوبيا.

والان وبعد الإعلان عن الفشل الذريع لمرثون اجتماعات اللجنة الثلاثية لدراسة الآثار المتوقعة لــسد النهضة على مصر والسودان، خرج علينا أنصار الدبلوماسية الفاشلة ومرتزقة الساسة ليقولوا، نترك المسار التفاوضى ونلجأ إلى تدويل القضية لإثبات حق مصر فى مياه نهر النيل.

وبعيدا عن سخافة هذا التوجه الذى لا يحتاج إلا وضعه فى سلة المهملات على اعتبار أنه محكوم عليه بالفشل، كالمسار التفاوضى لان مصر وقعت على اتفاق مبادىء مكون من 10 بنود خلت جميعها من ذكر حصة مصر وحقها التاريخى فى مياه نهر النيل، إضافة إلى إلغاء اتفاقية 1929 التى كانت تعطينا حق الفيتو على إقامة أى مشروع على مجرى النهر من دول الحوض الثمانية.

لقد بات الأمر خطير للغاية ويمس حياة مصر وشعبها.. نعم وبلا أى مقدمات أو كلام معسول، هى الحرب، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فلابد أن تدرك إثيوبيا أن مصر قوية بشعبها وتعرف متى تتحرك لتأخذ حقها، فاللغة الوحيدة التى يعرفها العالم الان هى لغة القوة.. فمن يملك عناصر القوة بالتأكيد يملك جميع أليات الضعط لتحقيق مصالحة المشروعة التى أقرها القانون الدولى والإنسانى.

يقينى أن مصر لابد وأن تتحرك بقوة وصلابة حقها التاريخى فى مياه النيل والبداية حتما ينبغى أن تكون من البرلمان المطلوب منه فورا اليوم قبل الغد الإعلان عن عدم موافقته على اتفاقية إعلان المبادىء التى تم التوقيع عليها فى مارس 2015، وتصعيد الموقف بشكل أكثر حدة، وإذا تطلب الأمر ضرب هذا السد اللعين الذى سيأكل الأخضر واليابس فى مصر وسيقضى على جميع برامج التنمية الشاملة والمستدامة فليكن ذلك.

أقدر حاجة إثيوبيا لتوليد الطاقة الكهربائية لكن هذه الحاجة لها بدائل عدة غير بناء سد النهضة الذى سيضر حتما بجميع أوجه الحياه فى مصر ويحولها إلى صحراء جرداء، فهل تستقيم المعادلة بهذه الكيفية، الكهرباء مقابل حياة ومستقبل أمة.

لتعلم إثيوبيا ومن يدعمها سواء بالتمويل المالى أو الدعم الفنى واللوجستى وحتى السياسى أن مصر لن تعجز عن الدفاع عن حقها التاريخى فى مياه نهر النيل، فـمصر باقية وشعبها حر لن يرضى بالذل والهون.. الموت أكرم له مقابل الدفاع عن حقه فى الحياة.. إذن هى الحرب.. فهل يستجيب من يهمه الأمر لهذه الدعوة التى تحمل بين ثناياها الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية لشعب بكامله؟.

للتواصل مع الكاتب

[email protected]

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى