هوس المسلسلات حين تتحول الدراما إلى مرض اجتماعي
بقلم: د.أسامة بدير
في زمن أصبحت فيه الشاشات الصغيرة تُشكل العقول، و”المشاهد الدرامية” تحدد معايير التفكير والمشاعر وحتى ردود الأفعال، بتنا نعيش في واقع موازٍ، تتداخل فيه الحدود بين الحقيقة والوهم. لقد أصبحت الأفلام والمسلسلات أكثر من مجرد وسيلة ترفيه، بل تحولت لدى البعض إلى مصدر أساسي لتشكيل الشخصية، وتوجيه السلوك، بل وصياغة المشاعر وردود الأفعال اليومية.
لم يعد غريباً أن نجد من يبكي بحرقة على فراق بطل مسلسل، بينما لا يحرك ساكناً تجاه مأساة حقيقية تحدث في محيطه. ولم يعد غريباً أن ترى فتاة تتحدث بأسلوب “بطلتها المُفضلة”، أو شاباً يُقلد مظهر “نجم الأكشن” وكأنه يعيش داخل حلقة لا تنتهي. هذه ليست مُبالغات، بل مشاهد نرصدها يومياً في الشارع، وفي المدرسة والجامعة وأماكن العمل.
المشهد الساخر الذي انتشر مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي — حيث تبدأ فتاة بالبكاء بعد عملية جراحية، مُعتقدة أنها خضعت لزراعة قلب من زوجها الذي “ضحى بحياته من أجلها”، ليتبين في النهاية أنها أجرت فقط عملية بواسير — يعكس بوضوح حجم التأثر المرضي بالدراما التلفزيونية. لقد أصبح بعض الناس يعيشون داخل المسلسلات أكثر من الواقع، حتى غدا العقل غير قادر على التفرقة بين الخيال والحقيقة، وبين المشهد التمثيلي والحدث الواقعي.
هذا الهوس ليس مجرد مُبالغة أو مزحة خفيفة الظل. إنه في الحقيقة مرآة لفراغ ثقافي واجتماعي خطير، يفضح غياب القراءة، وانعدام النقاشات الجادة، واختفاء النماذج الحقيقية المُلهمة من حياتنا اليومية. في غياب البديل، أصبح “بطل المسلسل” هو النموذج، وأصبحت “العلاقات المُلفقة” هي المرجع، وصرنا نحاكي “الفهلوة” والسطحية باعتبارها ذكاء اجتماعي.
والنتيجة؟
مجتمع يلهث وراء الصورة لا المضمون، يُقلد لا يُفكر، يُحاكي لا يُبدع.
انتشرت ثقافة التفاهة، وارتفعت أسهم “الترند”، وتراجعت القيم، وضاعت البوصلة.
إن هذا الانغماس غير الواعي في الدراما — دون وعي نقدي أو تمييز — يُعد من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تُهدد استقرار المجتمع وتماسكه. لأن الفرد حين يُغذى يومياً بخليط من الرومانسية الزائفة، والعنف المجاني، والنجاح السهل، يبدأ في فقدان العلاقة مع الواقع، ويصبح عرضة للإحباط، والتشوه النفسي، والانفصال عن مجتمعه الحقيقي.
أنا لا أُهاجم الفن أو أرفض الإبداع، ولكني أُحذر من تحول الترفيه إلى تكييف سلوكي، ومن استبدال الواقع بالدراما، والعقل بالنقل، والوعي بالمشهد.
إن الحل يبدأ من إعادة الاعتبار للثقافة الحقيقية، والتعليم الواعي، وبناء نماذج يُحتذى بها من داخل الواقع، لا من خلف الكاميرا. نحتاج إلى نقد جاد للمنتج الدرامي، وإلى دور إعلامي وتربوي يعيد التوازن بين الخيال والمتاح، بين المتعة والمسؤولية.
فالحياة ليست مسلسلاً، والمشاعر الحقيقية لا تُكتب في السيناريو، والقيم لا تُلقن في مشهد، بل تُبنى في الوعي، وتُغرس في الأسرة، وتُمارس في الواقع.
ولعل أهم ما نحتاجه اليوم هو أن نُعيد للمجتمع قدرته على التمييز، كي لا نصحو ذات يوم لنجد أنفسنا نعيش في عالم من التمثيل… بينما الحقيقة تُحتضر في صمت.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.