هل يدعم المجتمع المحلي الفلاح الذي يزرع نباتات غير مألوفة؟
روابط سريعة :-
بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
هل يدعم المجتمع المحلي الفلاح الذي يزرع نباتات غير مألوفة؟ إنه سؤال يتجاوز حدود الزراعة، ويمتدّ إلى عمق النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمجتمعات الريفية. في القرى التي تعوّدت على رتابة المحاصيل الموسمية وتكرار الأسماء المألوفة على ألسنة الفلاحين — كالقمح والذرة والبرسيم — تبدو أي نبتة غريبة وكأنها دخيلة لا تنتمي، وكأنها تهدد ما اعتاده الناس من نظم وتقليد وعادات ضاربة في عمق التاريخ.
لكن العالم من حولنا يتغيّر. الأمن الغذائي لم يعد مجرد تكديس للمحاصيل المعروفة، بل أصبح يرتكز على التنويع، على الابتكار، على زراعة ما يتحمّل الجفاف، ويغني التربة، ويواكب متطلبات الأسواق الجديدة. من هنا يظهر “نبات الشيا” كمثال حيّ — نبتة صغيرة الحجم، عظيمة القيمة، غنية بالبروتين والألياف وأحماض الأوميغا 3، ولها سوق عالمية تنمو عامًا بعد عام.
غير أن زراعة الشيا لا تبدأ من البذرة، بل من القرار. قرار الفلاح بأن يخالف المألوف. أن يقف في وجه نظرات الاستغراب، وهمسات التشكيك، وربما سخرية الجيران. قرار أن يزرع شيئًا لم يره الناس من قبل، ولم يتذوقوه، ولم يسمعوا به إلا في نشرات الأخبار أو على أغلفة المجلات الصحية. وهنا، يبدأ التحدي الحقيقي: كيف يتعامل المجتمع المحلي مع هذه الخطوة؟
في كثير من الحالات، تكون ردود الفعل الأولى مزيجًا من الريبة والفضول. البعض يسأل بتوجّس: “إيه النبات ده؟!” وآخرون يبتسمون بسخرية، ويعتبرونه “هوس موضة” سرعان ما يذبل. لكن مع الوقت، ومع ظهور أولى النتائج، يتبدّل المشهد. حين تبدأ النبتة بالنمو، وتثبت جدارتها، وتبدأ الأسواق بطلبها، يتحوّل الشك إلى دهشة… والدهشة إلى إعجاب… وربما لاحقًا إلى اقتداء.
المجتمع لا يتغيّر بين ليلة وضحاها، لكنه ينصت. والفلاح الذي يخوض هذه المغامرة لا يحتاج فقط إلى أرض وماء، بل إلى جلدٍ طويل، وعقل منفتح، ودعم — ليس بالضرورة صريحًا — بل ربما يكفيه أن يجد من لا يحاربه، من لا يسخر منه، من ينتظر معه النتيجة. وإذا حالفه الحظ، ونجحت تجربته، فإن هذا الفلاح قد لا يكون قد غيّر فقط شكل الزرع، بل غيّر شكل التفكير.
هكذا، يصبح السؤال: هل يدعم المجتمع المحلي الفلاح المغامر؟ والإجابة ليست “نعم” أو “لا”، بل هي حكاية طويلة، تبدأ بنظرة تشكيك… وتنتهي أحيانًا بصفوف من الفلاحين، يشترون البذور ذاتها، ويعيدون زراعتها، في الحقول ذاتها التي كانت منذ وقتٍ قصير ترفض الجديد. ومن بين تراب التردد… تنبت أحيانًا ثورة هادئة، اسمها: الشيا.
1ـ مغامرة من رحم التقليد: حين أنبت الصمت شيا
في عمق الريف، حيث الأرض ليست فقط مصدر رزق بل امتداد للهوية والانتماء، لا تُؤخذ الخطوات الجديدة بخفة، ولا تُمنح الثقة بسهولة. كل ما هو مألوف في الزراعة يحظى برضا الجماعة، حتى لو كان العائد قليلاً، أو المحصول مهددًا بالأمراض أو تغيّر المناخ. المهم أنه “معروف”، و”مجرَّب”، و”أكل عيش الأجداد”. أما حين يقرر فلاح أن يشق طريقًا مختلفًا، أن يزرع نبتة لم تُذكر في المجالس اليومية، ولم تطرأ على ذهن الحاج فلان ولا العمدة ولا شيخ الغيط، فإنه لا يزرع فقط بذرة في الأرض، بل يغرس تحديًا في العقول.
في المجتمعات الريفية المحافظة، الجديد يثير الريبة قبل أن يثير الفضول، ويقابل الحلم بالابتسامات المواربة، وربما بنظرات تنطوي على شفقة أو سخرية. الفلاح الذي يغرس الشيا في أرضه لا يُنظر إليه كصاحب رؤية، بل كمن يخوض مغامرة محفوفة بالمجهول. يُقال عنه إنه “بيجرب في أرضه”، وكأن الزراعة أصبحت مختبرًا لا يليق إلا بمن فقد الأمل في الطرق التقليدية. البعض يتهمه ضمنًا بأنه “بيضيع وقته”، أو “ما عندوش عقل”، لأنه ببساطة خرج عن السرب، وحلّق خارج المعهود.
لكن الأرض لا تكذب، والموسم لا يجامل أحدًا. حين تبدأ نبتة الشيا بالنمو، وتتشبث بجذورها في التربة القاحلة، وتتحدى الجفاف، وتُعطي أوراقًا خضراء في وقت يبست فيه محاصيل الجيران، تبدأ همسات جديدة بالتكوّن في الحقول. لا أحد يعترف مباشرة بأن رأيه تغير، لكن العيون تبدأ بالمراقبة، والخطى تتثاقل نحو أرض “المغامر” وكأنها جاءت صدفة، لمجرد الاطمئنان.
وحين يأتي وقت الحصاد، ويكون المحصول وفيرًا، والسوق متعطشة، ويُباع الكيلو بسعر غير معتاد… لا تعود التجربة مجرد فكرة مجنونة، بل تصبح قصة نجاح. الناس في الريف لا تقتنع بالإعلانات ولا بالتقارير العلمية بقدر ما تؤمن بشيء واحد: “العين اللي تشوف واليد اللي تلمس”. فإذا رأت الأرض تُعطي، واليد تحصد، والجيب يمتلئ، انقلبت النظرة. وصار ذلك الفلاح الذي كان موضع شك، قدوة، وربما مصدر استشارة.
الدعم المجتمعي لا يأتي في البداية، لكنه إذا جاء، يكون عميقًا، راسخًا، مثل الأرض التي لا تُثمر إلا بعد طول انتظار. وإذا ثبتت جدوى التجربة، فإن القرى لا تتردد كثيرًا في التبدّل. فبينما تُعرف المجتمعات الريفية بالمحافظة، إلا أنها – في أعماقها – تحترم النجاح، وتميل إلى ما يضمن لها البقاء. ومن هنا، يصبح الفلاح المغامر نواة لتغيير أوسع، ومصدر إلهام لمن ظنوا أن الطريق واحد لا يتغير.
في النهاية، ليس السؤال: هل يدعم المجتمع المحلي الفلاح الذي يزرع غير المألوف؟ بل: متى يدعمه؟ والجواب دائمًا: حين يرى بعينيه، ويلمس بيديه، ويوقن أن التغيير لم يكن جنونًا، بل رؤية سبقت زمانها.
التحديات المجتمعية:
نظرة المجتمع للزراعة البديلة
في الحقول التي تعوّدت على صوت المحراث وسكون العادات، لا تمر النبتات الجديدة دون أن تُقابل بكثير من التساؤلات والهمهمات. الفلاحون، بطبعهم، أبناء أرض لا تغريهم الشعارات، ولا يستفزهم التغيير بقدر ما يُقلقهم. الزراعة بالنسبة لهم ليست فقط صنعة، بل تقليد موروث، ونمط حياة، ومسار آمن سلكه الأب والجد، فلماذا يخرجون عنه؟ القمح، الذرة، البرسيم… هذه ليست مجرد محاصيل، بل رموز للطمأنينة. يعرفون متى تُزرع، ومتى تُروى، ومتى تُحصد، ويعرفون حتى متى تُخيب وتُرضي. إنها جزء من ذاكرتهم الفلاحية.
لكن عندما يظهر اسم جديد على ألسنة البعض، كالشيا أو الكينوا أو الأمارانت، يبدأ القلق. تبدو هذه النباتات وكأنها “دخيلة”، لا تنتمي للمائدة، ولا للبيئة، ولا للمزاج العام للريف. “دي حاجات بتاعة الأجانب”، يقولها البعض بنبرة فيها مزيج من السخرية والرفض. يتساءل آخرون: “هنطبخها إزاي؟ مين بيشتريها؟ ده حتى شكلها مش مريح!”. فالمجتمع الزراعي لا يقيس المحصول فقط بما يُنتج، بل بما يُقبل عليه الناس، بما يدخل الطاجن، ويُطحن للعيش، ويُخزن في الأجولة.
ينظر البعض إلى هذه النباتات البديلة على أنها رفاهية لا مكان لها في أرض الكدّ والعرق. يشبّهونها بموضة تأتي وتذهب، تثير الجلبة لكنها لا تترك أثرًا. يتخوفون من أنها لن تصمد أمام تقلبات الطقس، أو مزاج السوق، أو صمت الدولة. وكأنهم يقولون، بين السطور: “لا تزرع ما لا تفهمه، ولا تطبخ ما لا تشتهيه”. هذا الحذر ليس عن جهل، بل عن خوف من المجازفة في زمن لم يعد يتحمل الخسارة.
في ظل هذه النظرة، يصبح الفلاح الذي يقرر زراعة الكينوا أو الأمارانت كمن يقف في مواجهة تيار، لا فقط من التراب والماء، بل من قناعات متجذّرة، وقلق جمعي لا يفكّه إلا النجاح الواضح. المجتمع لا يُعطي بركته بسهولة، لكنه إذا اقتنع، يتحول من ناقد إلى داعم، ومن متفرج إلى مقلّد. لكن قبل أن يحدث ذلك، على المجدد أن يزرع الأمل وحده، ويحصد الصبر أولًا.
عوامل تؤثر في دعم المجتمع المحلي:
ليس سرًا أن الفلاح لا يميل كثيرًا للكلام النظري، ولا يأبه بما يُقال في الندوات أو يُكتب في الكتيبات الملوّنة. ما يهمّه في نهاية المطاف هو ما تراه عينه وتعدّه يده. ولهذا فإن دعم المجتمع المحلي لزراعة نبات غير مألوف، مثل الشيا، لا يأتي مصادفة، بل يتشكل ببطء، متأثرًا بثلاثة عوامل مترابطة، تُعيد رسم الموقف من الرفض إلى القبول، وربما إلى الحماسة.
أول ما يلفت انتباه الناس هو النتائج العملية. هل نجح هذا النبات في أرض الجار؟ هل خرج منه محصول جيد؟ هل باعه بسعر أعلى من القمح؟ هل تعب عليه كثيرًا؟ في الريف، التجارب تُقاس بالمحاصيل، لا بالكلمات. فإذا أثبتت الشيا — أو أي نبات بديل — أنها تدر دخلًا يُغني وتكاليفها ليست مرهقة، تبدأ الألسنة في التحول من التهكم إلى الفضول. يسألونه، خفيةً أولًا، ثم علنًا: “زرعت كام فدان؟ بعت بكام؟ الناس بتشتري منين؟”. وحين تبدأ الحسبة أن تبدو منطقية، يبدأ الدعم بالظهور، على شكل إعجاب، ثم استشارة، وربما تقليد.
ثم تأتي المعرفة. ليس كل ما هو جديد مرفوض، إنما الغريب ما يُجهل. حين يعلم الناس أن الشيا ليست فقط “نبتة عجيبة”، بل غنية بالأوميغا-3، وتُفيد القلب، وتُساعد على ضبط السكر، وتمنح الشبع وتقلل السمنة، يبدأ النظر لها يتغير. حين تدرك ربة المنزل أنها قد تطحنها وتضعها في الخبز، أو تضيفها للأطفال، يبدأ الخيال الريفي باستيعاب هذه “الحبة الجديدة”. المعرفة لا تغير الرأي فورًا، لكنها تزرع في العقل بذرة تساؤل، وكثيرًا ما تكون تلك البذرة أقوى من أي دعاية.
وأخيرًا، هناك أثر الظهر الذي يستند إليه الفلاح. وجود جهة داعمة — جمعية زراعية، أو مبادرة حكومية، أو حتى شركة تُؤمّن السوق — يجعل الخطوة الأولى أقل رعبًا. حين يعلم الفلاح أن هناك من سيشتري منه، أو من سيوجه خطواته، أو من سيقدم له بذورًا مدعومة وتدريبًا، يُقبل وهو مطمئن. الدعم المؤسسي لا يُبدد الشك فقط، بل يمنح الفلاح قوة تفاوضية وثقة بأن السوق لا يغلق الباب بعد الحصاد.
وهكذا، فإن دعم المجتمع المحلي لا يأتي في يوم وليلة. إنه نتاج تفاعل مع الواقع، ومع الفائدة، ومع الأمان. فإذا اجتمعت هذه الثلاثية: نجاح ملموس، معرفة حقيقية، وظهير داعم، فإن الشيا — أو أي نبات بديل — لا تعود غريبة، بل تتحول إلى ضيفة مرحب بها، وربما إلى أمل جديد في أرض أرهقها التكرار.
2ـ التحديات المجتمعية والثقافية عند تبني زراعات جديدة في بيئة ريفية محافظة
في القرى التي ما زالت تحتفظ بنبض الأرض ورائحة الحصاد، لا تُزرع البذور فقط في التربة، بل تُزرع أيضًا في وجدان الناس وتقاليدهم. وحين تحاول زراعة نبات جديد في هذه البيئة، فإنك لا تدخل فقط في مواجهة مع الطمي والمناخ، بل مع ذاكرة جماعية ممتدة، تقاوم التغيير بحذرٍ فطري.
الفلاح هنا لا يثق بما لا يعرفه، ليس عن عناد، بل عن حذر بُنِي على تجارب الأجداد. الجديد في نظره ليس واعدًا، بل مريبًا. لذلك، عندما يسمع باسم “الشيا” أو “الكينوا”، يرفع حاجبه، لا إعجابًا، بل ريبة. لا يهم كم مرة تُقال له كلمة “سوبرفود”، فالعين لا ترى سوى نبتة غريبة، لا تشبه قمحَه، ولا ذُرته، ولا برسيمه. والغريب في بيئة محافظة لا يُرحب به فورًا.
ثم تأتي الفجوة المعرفية، حيث يُقال له إن هذا النبات “مفيد للصحة”، و”غني بالأوميغا-3″، و”يساعد على خفض الكوليسترول”، لكنه يرد ببرود: “وماذا عن السوق؟ هل هناك من يشتري؟ وهل السعر مضمون؟”. الصحة مهمة، نعم، لكن في الميدان، المعادلة الاقتصادية تسبق التوصيات الطبية. فهو لا يبحث عن دواء، بل عن محصول يعيل عائلته. لذلك، كل حديث لا يرتبط بالعرض والطلب والسعر، يبقى حديث نخبوي لا يصل إلى قلبه.
أما العادات الزراعية، فهي ليست مجرد ممارسات، بل طقوس متجذرة، تتناقلها الأجيال كما يتناقلون مفاتيح البيت القديم. لا يُغير الفلاح ما اعتاد عليه إلا إذا أجبرته الحياة على ذلك، أو إذا رأى بعينه نجاحًا لا يمكن إنكاره. قد يهز رأسه احترامًا للزائر الذي يحدثه عن فوائد “النباتات البديلة”، لكنه في أعماقه يظل متعلقًا بما يعرف. في الريف، الزراعة ليست فقط اختيارًا اقتصاديًا، بل امتدادٌ للهوية.
ويظل الخوف من السوق هو الحاجز الأكبر. فالزراعة ليست مشروعًا تجريبيًا في معمل، بل استثمارٌ يستهلك جهد العام بأكمله. فإذا زرع محصولًا لا يجد له مشترين، تكون الخسارة مضاعفة: خسارة مال، وخسارة ثقة. ولذلك يتردد. بل إن البعض يرى أن المجازفة في الزراعة أقرب إلى المقامرة، وإن كانت الخسارة هنا لا تُحسب بالنقود فقط، بل بعرق الوجه وكرامة رب الأسرة.
وفي النهاية، فإن التحدي الأكبر في إدخال زراعات جديدة ليس في توفير البذور أو تدريب الفلاحين، بل في كسب ثقتهم. وهذا لا يحدث بخطاب منمق أو دراسة مستوردة، بل بنجاح واقعي يراه الفلاح في حقل جاره، في جيب قريب له، في حكاية صادقة تُقال على فنجان شاي بعد يوم طويل من العمل.
3ـ العوامل التي تشجع الفلاح على المغامرة بزراعة نبات غير تقليدي كالشيا
في الريف، حيث تُوزن الخطوات بميزان الخبرة والخوف معًا، لا يقدم الفلاح على مغامرة زراعية إلا إذا لمح في الأفق ما يكسر دائرة التردد. لكنه، رغم حذره، ليس ضد التغيير بالمطلق. بل هو فقط ينتظر علامة، إشارة تطمئنه أن الخطوة التي سيأخذها لن تبتلعه في المجهول.
أكثر ما يُقنع الفلاح، ليس حديث الخبراء، بل نجاح جاره. حين يرى بعينيه أن فلانًا من أهل البلد، ممن يعرفهم ويعرف أرضهم، زرع الشيا وحصد منها ما لم يحصده من القمح، تبدأ البذرة الأولى للتجربة بالنمو داخله. التجربة المحلية الناجحة هي الحجة الأقوى، لا تحتاج إلى بروشورات ولا مؤتمرات، بل فقط إلى مشهد: محصول وفير، ومالٌ عاد إلى البيت.
لكن لا شيء يبعث الطمأنينة في قلب الفلاح مثل وجود مشترٍ ينتظره. أن يدخل الموسم وهو يحمل في يده عقدًا، يعرف من خلاله السعر والكميات والمشتري، فهذه طمأنينة لا تعادلها كنوز المعرفة. السوق، لا الأرض، هو من يحكم قرار الزراعة. فحتى أكثر النباتات خصوبة لا تُغريه إن لم يكن لها مكان في السوق.
أما إذا جاء الدعم من جهة موثوقة، جامعة أو مركز أبحاث أو حتى جمعية تعاونية، فإن ذلك يُشعره أنه ليس وحيدًا في التجربة. وجود من يرشده، يزوده بالبذور أو التقنية أو حتى المعرفة، يخفف من رهبة الدخول في عالم زراعي جديد. الفلاح ليس ضد العلم، لكنه يحتاج أن يرى هذا العلم في حقله، لا في نشرات الأخبار.
وهناك لحظة فارقة، حين تبدأ المحاصيل التقليدية في خذلانه: القمح لم يعد يكفي، الذرة تستهلك ماءً كثيرًا، والأسعار لا تغطي التكاليف. هنا، ينفتح الباب نحو التفكير في البدائل، لا بدافع الطموح فقط، بل أحيانًا بدافع النجاة. حين يخذله المألوف، يبدأ في البحث عن غير المألوف.
ولا يمكن تجاهل طاقة الشباب. في الريف، الجيل الجديد ليس نسخة مكررة من الجيل القديم. كثير منهم عاد إلى الأرض وهو يحمل في رأسه أفكارًا مختلفة، ويبحث عن فرص لا تقف عند حدود القمح والبرسيم. هؤلاء هم مفاتيح التغيير. في فضولهم، وفي بحثهم عن دخل مستقل، ينبض المستقبل الزراعي المختلف.
وحين تتلاقى هذه العوامل: التجربة الناجحة، والسوق المضمون، والدعم المؤسسي، والحاجة الاقتصادية، وطموح الشباب… تتغير معادلة الحذر. يصبح التغيير خيارًا ممكنًا، بل وربما، الخيار الوحيد للبقاء.
4ـ الحلول لتسهيل تقبل المجتمع المحلي للزراعات غير التقليدية
في قلب القرية، حيث تتردد الأحاديث من فم إلى فم، لا يكفي أن يُقال للفلاح إن نباتًا ما مفيد أو مربح، بل يجب أن يُقنع بعينه، ويطمئن قلبه، ويتلمس بيده. ولأجل أن تُفتح أبواب التقبل لزراعات غير تقليدية مثل الشيا، لا بد من حلول تمشي على الأرض، تفهم النفس الريفية وتخاطبها بلغتها البسيطة.
أول هذه الخطوات أن تبدأ التوعية من الداخل، لا من فوق. لا ندوات معقدة ولا منشورات مصقولة، بل جلسات حوارية في مضيفة القرية أو على عتبة الحقل، يشرح فيها أحدهم، ممن يشبههم، كيف أن نبات الشيا مثلًا لا يحتاج لماء كثير، وأنه يتحمل الحرارة، ويُباع بسعر جيد، وأنه لا يحتاج إلى خبرة خارقة لزراعته. حين يسمع الفلاح هذا الكلام من أحد “أبناء الأرض”، تتغير النظرة، ويبدأ الشك يتحول إلى اهتمام.
ثم تأتي الحقول النموذجية كأدلة صامتة لا يمكن الجدال معها. قطعة أرض صغيرة في وسط القرية، يزرع فيها النبات الجديد، ويُسمح لكل من يريد أن يتابعه عن قرب. هناك، يقف الفلاحون أمام الشتلات، يتحسسون التربة، يراقبون الزهور والثمار، ويحسبون العائد بعينهم قبل أن يزرعوا شيئًا. الحقل النموذجي لا يزرع نباتًا فقط، بل يزرع فكرة، ويمنحها جذورًا واقعية.
ولا شيء يُطمئن مثل السوق المضمون. حين تأتي شركة أو مصنع وتقول بوضوح: “كل ما ستزرعه سأشتريه”، يتغير ميزان الخوف. الفلاح لا يحب المجازفة، لكنه يحب المكسب المؤكد. عقد تسويق مسبق يزيل نصف العقبات النفسية، ويجعل المغامرة محسوبة لا عشوائية.
لكن التقبل الحقيقي لا يكتمل ما لم يصبح النبات “واحدًا منا”. حين تُخبز الشيا مع الدقيق في رغيف الفلاح، أو تدخل في صحن الحلوى في المناسبات، تتلاشى الغرابة، ويزول الحاجز بين “نحن” و”هو”. فالمعدة طريق موثوق نحو القبول، وعندما يصبح النبات جزءًا من مائدة الأسرة، يصبح جزءًا من ثقافتها.
وأخيرًا، لا يمكن أن نطلب من فلاح بسيط أن يحمل المخاطرة وحده. لابد من دعم، مادي وتقني، يعينه في البداية. بذور مجانية، تدريب عملي، استشارات، وربما حتى تغطية تأمينية في الموسم الأول. بهذه الأدوات، يمكننا أن نضع يده في يدنا، ونمشي سويًا نحو زراعة أكثر تنوعًا وأملًا.
هكذا فقط، يتحول الغريب إلى مألوف، والمرفوض إلى مرغوب، وتتحول زراعة الشيا من فكرة جديدة إلى عادة راسخة.
زراعة نبات غير مألوف في بيئة ريفية محافظة ليست مجرد قرار يخص الأرض والماء والبذور، بل هو قرار يهز جذور العادة، ويختبر صلابة الموروث، ويفتح بابًا على المجهول وسط حقول اعتادت أن ترى القمح في الربيع والبرسيم في الشتاء. إنها مغامرة لا تبدأ بالمحراث بل تبدأ بالذهن، وتنمو في الوعي قبل أن تنمو في التربة. لأن الفلاح في هذه المجتمعات لا يزرع ما يشاء، بل ما يسمح له المجتمع بزراعته، وما لا يُعارضه “الكلام” في الجلسات، وما لا يجعل منه “غريب أطوار” بين أهل قريته.
في هذه البيئات، لا تكفي الجدوى الاقتصادية لتقنع، بل لا بد أن تتواطأ معها القيم، وأن تتدخل في صفّها الأعراف، وأن تتسامح معها الذاكرة الجماعية التي لطالما اختارت الأمان على المجازفة. المزارع الرائد الذي يختار أن يزرع الشيا أو الكينوا أو الأمارانت، لا يُقاس جهده بالهكتار بل بالقلوب التي عليه أن يكسبها، والعيون التي تراقبه من بعيد، تترصده في صمت، تنتظر أن ينجح أو يفشل، لا لتدعمه، بل لتقرر هل تتبعه أم تنسى اسمه.
وهذا المزارع الرائد، لا بد له من صبر يُشبه صبر الأرض نفسها، حين تبتلع البذور دون ضجيج، وتنتظر المطر دون شكوى. هو لا يقاتل الحشائش فقط، بل يقاتل الشك، ويتفاوض مع الخوف، ويحاول أن يشرح بفعل الزراعة ما لا يقدر على شرحه بالكلمات. وحين تبدأ نباتاته بالاخضرار، لا تثمر في الحقل فقط، بل تثمر في الوعي، وتتحول من “نبتة غريبة” إلى “فرصة ممكنة”.
لكن هذه الشجاعة، مهما كانت كبيرة، تحتاج لمن يساندها. جهة بحثية تؤمن بأن التغيير لا يفرض من فوق بل ينبت من تحت. جمعية تعطيه البذور وتنتظر النتائج. مؤسسة ترافقه في الخطوات الأولى، وتمنع سقوطه إن تعثر. لأن النجاح الفردي لا يصنع الفرق، ما لم يتحول إلى موجة، وما لم يتحول الرائد إلى قدوة.
هكذا فقط، يصبح النبات غير المألوف مألوفًا، وتصبح الزراعة فعلًا ثقافيًا لا زراعيًا فقط. وهكذا تبدأ التقاليد بالتغير لا بالانكسار، وتتعلم الأرض أن تستقبل الجديد، لا لأن القديم سيء، بل لأن الحياة لا تتوقف، والمجتمع، مهما بدا جامدًا، ينحني في النهاية أمام من يثبت له أن التغيير… ممكن.
حقول تتعلم الجرأة: تجربة نجاح واقعية
المشهد الأول: الأرض التي تعرف اسمه
كانت الشمس تتسلل كساحرة عجوز بين أغصان الجميز، تهمس للنيل بما رأت من أسرار في الليالي السابقة، حين وقف “عم نصر” في طرف الحقل، ويداه غارقتان في طينٍ يعرفه كما يعرف تجاعيد وجهه.
هو لم يكن رجلًا يبحث عن الجديد. بل كان يكتفي بما عرفه عن الزرع والمطر والسنة التي تمر كما مرت السنة التي قبلها. القمح كان رفيق دربه، مثل زوجته “أم ناصر” التي تعرف صمته أكثر مما تعرف صوته.
لكن صباح هذا اليوم، فتح تليفونه وفي موقع لشركة زراعية ، قرأ عنوانًا صغيرًا: “نبات الشيا… ثروة غذائية في انتظار من يزرعها“.
كلمة واحدة توقفت في رأسه كحجر في ماء راكد: “ثروة”. ثروة؟ أي ثروة تُستخرج من زرع لا يعرفه الناس، لا في قريته ولا في السوق الأسبوعي؟ ثم رفع عينيه إلى الحقل، وكأنه يستأذن الأرض في الخيانة. “أبوك كان يقول: الزرع اللي ما تعرفوش، ما تسلموش أرضك”، تمتم لنفسه وهو يفرك ذقنه الخشنة.
لكنه لم يكن كأبيه تمامًا… منذ أن عاد “ناصر”، ابنه الأكبر، من القاهرة وهو يتكلم بلغات جديدة: “كربون”، “مناخ”، “بدائل بروتين”، “الاستدامة”، وكأن القرية باتت أضيق من أفكار الولد.
“يا بوي، الشيا دي بذرة عجيبة… بتتحمل الجفاف، ومليانة فايدة… دي بيشتروها بره بالجرام”، قالها ناصر منذ أسبوع، وعم نصر لم يرد. فقط نظر له طويلاً، كما ينظر الفلاح إلى غيمة لا يعرف هل هي بشارة أم عاصفة.
المحراث ينتظر، والبذور القديمة في الخيشة منذ الأمس. لكن شيئًا في قلبه لا يريد أن يحرث اليوم. شيء صغير… مثل بذرة الشيا. لا يُرى، لكنه موجود.
تراجع خطوتين، ثم جلس على حافة الساقية، وأشعل سيجارة. الدخان صعد للأعلى، واختلط بهواء الصباح الرطب.
وفكر: “ماذا لو جربت… مجرد نصف قيراط؟“
المشهد الثاني: حين يتكلم الهاتف وتضحك الحقول :مغامرة عم نصر
في المساء، جلس عم نصر على المصطبة، والكون حوله يهدأ قليلاً… حتى الدجاج توقّف عن الشكوى.
أخرج هاتفه القديم من جيبه، ذلك الذي اشتراه فقط ليكلّم أولاده حين يسافرون، فصار اليوم نافذته الصغيرة إلى عالم لا يخصّه، لكنه بدأ يمدّ يده إليه.
مرّر إصبعه على الشاشة، ببطء، كما لو أنه يحرث أرضًا إلكترونية. فتح تطبيق الفيسبوك كما علّمه ناصر، ووجد المقال نفسه أمامه: “شركة م. ت ” تعرض بذور الشيا للمزارعين الراغبين في التغيير تحته صورة صغيرة لبذور سوداء ولامعة، كأنها عيون حبة البركة… لكنه يعرف الفرق.
بدا له أن الصورة تلمع أكثر مما ينبغي. لكن التعليقات… هناك فلاحون من الفيوم، من بني سويف، حتى من البحيرة، يسألون، يناقشون، يروون تجاربهم. واحد قال إنه زرعها في فدان و”كسب كويس”. آخر قال إن السوق ما زال ضيقًا، لكنه في ازدياد. “ياااه، ده مش أنا الوَحيد اللي بيفكّر!”، قالها كأنه يبرر لنفسه ارتجافة قلبه.
في تلك اللحظة، خرج ناصر من الداخل، يحمل كوب شاي له وواحدًا لأبيه. جلس جواره، وناول الكوب بصمت.
ثم نظر إلى الشاشة، وابتسم: “لسّه بتقرأ في الشيا؟ أنا المقال ده حافظه من كتر ما قريته.”
ضحك عم نصر ضحكة قصيرة، كمن ضُبط متلبسًا. “يعني مش كلام فاضي؟ مش حكاية بتتكتب علشان الناس تعجب؟”
ناصر هزّ رأسه: “يا بوي، دي حاجة العالم كله بيتكلم عنها… الشيا دي مش بس غذاء، دي مشروع، وفكرة.
الفلاحين اللي بيبدأوا أول واحد، دايمًا بيُقال عليهم مجانين… بس بعد شوية، الناس بتقلب معاهم.”
قبل أن يرد عم نصر، قاطعه صوتٌ جهوري من الشارع: ” يُوووه يا عم نصر! لسه هتسيب القمح وتزرع لينا زرع العفاريت؟!” كان “حسن الجارحي”، فلاح صاخب، لسانه أطول من حقله، دائمًا يُحب أن يتدخل، ويضحك بعد كل جملة، حتى لو لم تكن مضحكة. ضحك حسن بصوت عالٍ وهو يقترب من المصطبة: “يعني إيه يا خويا؟ هنأكل شيا؟ ولا نحطها في الشاي؟”
ابتسم عم نصر، لكنه لم يرد فورًا. ناصر همّ أن يتكلم، لكن أباه رفع يده، إشارة أن يترك الأمر له. ” يا حسن… ما هو الكُسكُسي زمان كان برضو غريب. والذرة ما كانتش مألوفة. الزرع الجديد ما هواش عيب… العيب إننا نفضل نشتكي ونزرع اللي ما بيكفّيناش.”
سكت حسن لحظة، ثم قال بنصف سخرية ونصف احترام: “أنا مش ضد يا عم نصر… بس الناس ما بتحبش التغيير.” ” وأنا ما بحبش الجوع”، ردّ نصر ببساطة.
بعد أن رحل حسن، ظل الصمت قليلًا بين الأب والابن. ثم قال عم نصر، بصوت فيه شيء من القرار: “هات لي عنوان الشركة دي… يمكن نجرب في نُص فدان. مش لازم الأرض كلها تفكر زي بعضها.”
ناصر ابتسم، وعيونه لمعت كمن انتظر هذا القرار طويلًا. كان الليل قد نزل تمامًا، والهواء صار أكثر برودة…
لكن في صدر عم نصر، كانت بذرة صغيرة بدأت تتحرك.
لحظة نضوج الشيا… ونضوج النظرة إليه. في المشهد التالي ، نحصد الزرع، ونحصد شيئًا أعمق: نظرة الناس التي بدأت تتبدل، ولقاء مفصلي مع خبير من شركة “م.ت” يضيء الطريق أكثر.
في هذا المشهد، نُبرز لحظة الحسم: عم نصر يشتري البذور من شركة “م.ت”، يزرعها بيده، ثم تبدأ المفاجآت: لون الزرع، شكله، اختلافه… وحديث الناس.
المشهد الثالث: زرع غريب… لكن جميل
في يوم سوق الجمعة، لم يحمل عم نصر في يده سوى كيس صغير من الورق البني، مغلق بشريط بلاستيكي وعليه ملصق أنيق: “بذور شيا عضوية – شركة م.ت“.
كان الطريق من مكتب الشركة حتى موقف الميكروباص أقصر من أن يسمح له بترتيب أفكاره.
لكنه شعر أنه خرج من هناك مختلفًا. ليست البذور فقط ما اشتراه، بل شيء أشبه بالرهان. رهان على نفسه، على أرضه، على الزمن.
عاد إلى البيت قبل المغرب، لم يُخبر أحدًا، حتى ناصر، بما فعله. في اليوم التالي، استيقظ باكرًا، وارتدى جلابيته القديمة، تلك التي يلبسها فقط حين ينوي أن “يشتغل من قلبه”. حمل المعول بيده، وأخذ الكيس في الجيب الداخلي.
وصل إلى طرف الحقل، نفس الفدان الذي زرعه قمحًا سبع سنين متتالية.وقف لحظة صمت، ثم همس للأرض:
“أنا مش بخونك يا أرض… بس لازم نجرب.”
مرت أيام، ثم أسابيع، والزرع بدأ ينبت. لكن شيئًا في شكله لم يُشبه القمح، ولا الذرة، ولا الفول. أوراقه دقيقة، خضراء زاهية، وكأنها نبات جاء من بلادٍ غير بلادهم.
في البداية، مرّ “الحاج عطوة” من أمام الحقل، فوقف دقيقة، ثم ضحك بصوت عالٍ: “إيه ده يا عم نصر؟ زرعت ريحان؟ ولا دي بقدونس للصدور؟”
ضحك عم نصر من غير رد، لكنه شعر بطعنة صغيرة. ليس لأنه سخر، بل لأنه قال ما في قلب غيره من الناس.
في الأيام التالية، صار المارّون يبطئون خطواتهم. الأطفال يتهامسون: “زرع عم نصر عامل زي الزينة اللي بيحطوها في الأفراح!” والرجال في القهوة يتكلمون همسًا: ” قالك زرع شيا؟ دي نبتة بتتزرع في المكسيك، هو فاكر نفسه في أمريكا ولا إيه؟”
حتى زوجته أم ناصر، لما رأت الزرع من بعيد، قالت بهدوء: ” الغريب عمره ما يعمّر يا نصر.” لكن عم نصر لم يكن غاضبًا. كان فقط يراقب الزرع كل فجر. ينحني عليه، يشمّه، يلمسه، ويشعر بشيء حيّ لم يشعر به منذ سنين.
ذات صباح، بعد شهر ونصف من الزراعة، سقطت أمطار خفيفة، لم تكن متوقعة. ولأول مرة، لاحظ الجيران أن زرع عم نصر ظلّ واقفًا، أخضر، نضر، بينما الزرع الآخر انحنى بثقل البلل.
وقف الحاج عطوة ثانية، لكنه لم يضحك. بل اقترب، وركع على ركبتيه، ولمس ورقة من النبتة، وهمس: “يا سبحان الله… شكله غريب، بس فيه صحة.”
عم نصر، من على بعد خطوات، سمعه… ولم يقل شيئًا. فقط ابتسم لنفسه، وهمس وهو ينظر للسماء: ” الغريب؟… أهو بيعلّم على القلوب.”
المشهد الرابع: حين نضج الزرع… ونضج الكلام
موسم الحصاد، و بداية الطلب من الأسواق؟ و تطوّر موقف المجتمع منه: لقاء مع مهندس زراعي من شركة “م.ت”
لم يكن الحصاد هذه المرة كسابقه. لم يحمل عم نصر المنجل على كتفه وهو يردد “يا فتّاح يا عليم”، بل وقف أمام النبات الغريب الذي صار مكتملًا، طويل القامة، كأنّه نبات يعرف سرّ الأرض ولا يكشفه إلا لمَن صدّقه. كانت البذور الصغيرة تتدلّى بلطف من السنابل، سوداء لامعة، مثل وعود قيلت ولم تُكذّب. مدّ يده، لامسها، فابتسم.
ناصر كان بجانبه، يحمل كيس الخيش، وعيناه لا تبرحان شاشة الهاتف، حيث كان يتابع التعليمات من فيديو الشركة
“افصل البذور بلطف، لا تستخدم آلات حادة. الشيا كريمة إن أُكرمت.”
في نفس اليوم، مرّ الحاج عطوة مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يضحك. اقترب من عم نصر، نظر إلى الزرع، ثم إلى كومة البذور على الأرض. قال وهو يهرش رأسه: “يعني… الناس في السوق طلبوا منك؟” ابتسم عم نصر ابتسامة قصيرة وقال: “أيوه… وفيه تاجر من المنيا عاوز يشوف عينة بكرة.” صمت الحاج عطوة، ثم قال بصوت خافت، كأنه يكلّم نفسه: “مكنتش فاكر إنها تطلع كده…”
بعد أيام، وصل إلى القرية رجل أنيق في منتصف العمر، يحمل حقيبة جلدية، ويرتدي نظارة شمسية حتى في ظل النخيل.
كان اسمه دكتور سامي، مهندس زراعي وخبير تربية نباتات، من شركة “م ت “جاء خصيصًا ليزور عم نصر، ويرى نتائج الزرع. جلس ثلاثتهم — عم نصر، ناصر، ود. سامي — تحت شجرة توت قديمة، أمام الفدان الذي لم يعد غريبًا كما كان.
قال الدكتور، وهو يقلب بعض البذور بين أصابعه: ” بصراحة يا عم نصر… دي من أنضف عينات الشيا اللي شُفناها الموسم ده. واضح إنك فاهم أرضك، وفاهم تسميدك، وعندك صبر.”
نظر ناصر إلى أبيه بفخر كأنه يسمعه يُكرَّم في مؤتمر، أما عم نصر فقال ببساطة: ” أنا ما عملتش حاجة… أنا بس سبت الأرض تتكلم.”
ضحك الدكتور سامي: ” وخلّيت المجتمع يسمعها. عارف؟ التجربة دي لو كملت كده، ممكن نعمل نموذج نحكيه لفلاحين تانيين. وإنت تبقى مرشدهم.”
هنا، سكت عم نصر. كان قد جرب الزرع الغريب، لكن لم يتخيّل أنه سيزرع في الناس حلمًا.وفي تلك اللحظة، سمعا صوتًا من بعيد: “عم نصر… تفتكر ينفع أزرع شيا في نص فدّان جنب البصل؟” كان الصوت للحاج عطوة.
أكيد! حان وقت المشهد الخامس — لحظة الانفتاح على العالم الأكبر، وحجم الأحلام الذي يكبر… ومعه التحديات.
في هذا المشهد، يبدأ الطلب يتجاوز حدود القرية، لتدخل “الشيا” أسواق المدن… بل وربما تلوح في الأفق فرص تصدير.لكنه ليس صعودًا سهلاً. من قلب النجاح، تظهر أسئلة جديدة: التنظيم، التمويل، الحسد، التوسع، والقلق.
المشهد الخامس: حين تجاوز الحلم حدود الحقل
في البداية، كان الاتصال من القاهرة. تاجر في العتبة سمع عن عم نصر من أحد معارفه، ثم شاف صور الزرع في بوست شاركه ناصر على فيسبوك. قال له: ” لو عندك خمسين كيلو شيا زي دي، أنا أشتريهم كلهم. وبسعر كويس.” بعدها بأيام، جاء اتصال من الإسكندرية. ثم من شركة صغيرة في تونس، سمعت عن الزرع من دكتور سامي. بدأ الهاتف لا يسكت، وبدأ عم نصر لا يعرف كيف يرد. لم يكن معتادًا على دفتر حسابات، ولا على تحويلات، ولا على عقود بيع فيها بنود كثيرة. كل ما يعرفه هو الأرض، والمعول، ورائحة التراب بعد المطر.
جلس مع ناصر في المساء، والأوراق أمامهم مبعثرة: طلبات شراء، إيميلات، أسعار نقل، شهادات مطلوبة، شروط جودة. قال ناصر، وهو ينظر إلى شاشة اللابتوب: ” بابا، محتاجين نكوّن جمعية صغيرة. نلمّ شوية فلاحين يزرعوا شيا، ونوزّع المحصول مع بعض.” رد عم نصر، وهو يُقلب السبحة بيده: ” وتفتكر هيرضوا يزرعوا؟”
قال ناصر بتردد: “بعد اللي شافوه؟ أظن فيه ناس كتير بتفكر… بس مستنيين مين ياخد أول خطوة.”
لكن لم يكن الجميع فرحين.في السوق، سمع عم نصر كلامًا عابرًا من رجل عجوز: ” اللي يلعب بزرع ما نعرفوش… يدوّخ في النهاية.” وفي يوم، وجد رسالة على باب بيته، بلا اسم: ” مش كل زارع غريب… يطلعله خير.” وقف ناصر غاضبًا، أراد أن يرد، لكن عم نصر هدّأه. قال بابتسامة هادئة، كأنها من زمن أبعد من الضيق:
“لما الزرع ينبت، العصافير تيجي. بس مش كل صوت صياح، بيخوف.”
كانت التحديات تتزايد: هل سيستطيع تغليف البذور بشكل يناسب التصدير؟ هل يحتاج مخزن؟ من يموّل التوسع؟
وهل يستطيع الحفاظ على جودة الزرع في المواسم المقبلة؟ وما موقف وزارة الزراعة؟ وهل سيعترفوا بالشيا كمحصول جدّي؟ أسئلة كثيرة، كلها جاءت مرة واحدة. لكنه لم يتراجع.
في فجر أحد الأيام، كان واقفًا وسط الحقل، ينظر إلى الصفوف المرتّبة كأبيات شعر.مرّر يده على أوراق الشيا، وقال لنفسه: “الغريب… لما يعيش في الأرض، يبطل غربة. ويمكن، يخلّي الأرض نفسها… تبقى جديدة.”
حان وقت المشهد السادس — حيث لا يكون العائق في التربة و في الناس، بل في الورق المختوم والباب المغلق. في هذا الفصل، يدخل عم نصر في أرض أخرى غير مألوفة: البيروقراطية. تصاريح، أوراق، لجان، توقيعات… كلها لا تنبت شيا، لكنها قد تمنعها من الوصول للعالم.
التوتر النابع من مواجهة سلطة غامضة، صلبة، لا وجه لها.
المشهد السادس: الزرع يواجه الورق
كانت الشاحنة الصغيرة محمّلة بأكياس الشيا، مُغلّفة بعناية.الطلب جاهز — خمسون كيلو إلى القاهرة، لأحد متاجر المنتجات العضوية. السعر ممتاز. المشتري مستعد. الشيا تلمع في الضوء مثل بذور أمل حقيقي.لكن في الطريق، توقف كل شيء.
على بوابة المدينة، أوقفهم موظف من الادارة الزراعية. سأل عن التصاريح، عن شهادة المنشأ، عن شهادة التحاليل، عن إذن التسويق. قال ناصر وهو يقلب الملف: “إحنا مزارعين صغيرين… أول مرة نبيع حاجة، ومش عارفين كل الورق المطلوب.”رد الموظف، دون أن يرفع رأسه من الدفتر: “يبقى استنوا… لما تتعلموا.”ووضع ختماً أحمر على الفاتورة: “ممنوع البيع حتى إشعار آخر.”
في اليوم التالي، جلس عم نصر في مركز الإدارة الزراعية. مكتب متهالك، أوراق صفراء معلّقة على الحوائط، ومروحة تصدر صوتًا يشبه أنينًا قديمًا.قابله موظف سمين، عيناه لا تستقران، وصوته مائل بين الملل والسلطة.
قال له: “انت عاوز تسوّق منتج جديد؟ لازم لجنة تقييم من الوزارة. ودي بتاخد وقت… ويمكن تترفض لو مش في الخطة.” قال عم نصر بهدوء: “بس أنا زرعته، وبعته، والناس عاوزاه.” رد الموظف بابتسامة باردة: “الناس مش هي اللي تقرر… الدولة اللي تقرر.” خرج عم نصر من المكتب، وهو يشعر أن الأرض التي فهمها منذ صباه، صارت أبسط من فهم هذه الجدران.
في المساء، جلس أمام الحقل، ينظر إلى صفوف الشيا التي بدأت تتهيأ لموسم جديد.جاءه ناصر وفي يده ورقة طويلة، فيها قائمة بالخطوات: تصريح إنتاج، تصريح تسويق، تحليل معملي، شهادة عضوية، توصية فنية.
قال ناصر بصوت هادئ: “يا بابا… هنمشي في الطريق ده، بس لازم نكمل سوا. دي مش شيا بس… دي بداية حاجة أكبر.” رد عم نصر، وهو ينظر إلى النجوم: “عارف يا واد… الزرع لما يطلع من الأرض، يفتكر إن خلاص. بس الحقيقة إن لسه الطريق طويل… الطريق اللي بعد الزرع.”
نواصل في المشهد السابع، حيث تبدأ الأمور تنفتح رسميًا، لكن مع كل باب يُفتح، يظهر ظل جديد خلفه. الدعم الرسمي يلوح، شراكة أكبر تقترب، لكن على الأرض في القرية، تنمو بذور حسد، وتشققات صغيرة في النسيج الاجتماعي.
المشهد السابع: حين تبتسم الدولة… ويعبس الجار
بعد أسابيع من المراسلات، والمشاوير، والملفات التي تتنقل بين أيادي الموظفين كأنها عبء لا يرغب أحد في حمله، جاء الخبر أخيرًا. وصلت رسالة رسمية من وزارة الزراعة، موقعة من نائب الوزير شخصيًا، تقول:
“تقديرًا لتجربتكم في زراعة الشيا، تدعوكم الوزارة إلى اجتماع لبحث سبل التعاون والتوسّع، ضمن مشروع النباتات غير التقليدية.”
جلس عم نصر أمام الورقة، قلبه يخفق كأنها شهادة ميلاد جديدة، لا باسمه، بل باسم الزرع.ناصر قفز فرحًا، وقال وهو يلوّح بالهاتف: “بابا! دي شركة م . ت “كمان بعتوا يقولوا إنهم مستعدين يتبنوا المشروع رسميًّا، ويوفّروا التقاوي للمزارعين اللي يدخلوا معانا.”
كانت لحظة انتصار.لكن في القرية، لم يكن الكل يصفّق.في المسجد، سمع أحدهم يقول بعد الصلاة بصوت عالٍ:
“اللي باع أرضه للزرع الغريب… باع نفسه!”
وفي السوق، همس آخرون بأن عم نصر صار يتعامل مع “الخواجات”، وأنه يأخذ دعمًا “من فوق” بلا وجه حق.
حتى أحد أقاربه، الذي طالما شاركه الفأس والماء، قال له ذات مساء: “مش لازم تاخد كل حاجة لوحدك، يا نصر. في ناس غيرك محتاجة، مش لازم تتصدر في كل حاجة.”
نظر إليه عم نصر طويلًا. لم يُجب فورًا. ثم قال بصوت خافت يشبه نسيم الخريف: “اللي عايز يزرع… أنا أفتح له الباب. بس اللي عايز يقتلع الزرع من قلبي، دا موضوع تاني.”
وفي مقر شركة “م ت ” بالقاهرة، اجتمع مع الدكتور سامي ومندوب الوزارة، يتحدثون عن إنشاء مركز صغير في قريته لتجريب المحاصيل البديلة.
قال له الدكتور: “المكان اللي بدأ فيه الزرع… لازم يكون منارة.” وأضاف بابتسامة: “بس خليك مستعد. الشهرة لها تمن… والنجاح ما بيجيش لوحده.”
عاد عم نصر من المدينة، يحمل بذورًا جديدة، ونموذجًا أوليًا لعقد شراكة. وعلى كتفيه، حملًا لا يظهر… لكنه يثق أن الأرض، في النهاية، تفهم. والزرع لا يخذل من يحبّه.
في المشهد الثامن—لحظة القرار بالتوسّع، حيث تنفتح الأرض، لا لتستقبل البذور فقط، بل لتحتضن شراكة جديدة بين عم نصر ومزارعين آخرين، بينما تتكثف الأسئلة: هل يشاركهم الحلم حقًا؟ أم يتقاسمه؟ وهل كل من يزرع مثله… سيصمد أمام العواصف ذاتها؟
المشهد الثامن: حين تنمو الأرض في صدور كثيرة
وقف عم نصر في منتصف الحقل، حيث نبت الشيا بأوراقه الناعمة المتراقصة، كأنه لا ينتمي للقرية، بل جاء من حكاية أخرى. في يده ورقة وقّع عليها منذ ساعات: عقد شراكة مع خمسة مزارعين من القرى المجاورة، لتوسيع زراعة الشيا في أراضيهم، على أن تمدّهم شركة “م ت ” بالتقاوي والتدريب، ويشرف عليهم هو.
لم يكن قرارًا سهلًا. ناصر، وقد عاد من الجامعة في إجازة، قال له بصراحة: “أنت مش خايف يطلع فيهم حد ما يلتزم؟ أو حد ياخد الزرع ويبيعه بأي تمن؟” عم نصر ظل صامتًا للحظة، ينظر للغروب الذي ينحدر خلف سنابل الشيا.ثم قال: “أنا مش بزرع بس في الأرض، يا ابني. أنا بزرع ثقة. اللي ما يسقيهاش… الزرع عنده هيموت لوحده.”
في اليوم التالي، جاء الفلاحون. وجوههم كانت مزيجًا من التردد والأمل، بين من يرى في التجربة فرصة، ومن يخشى أن يُقال عنه “قلّد نصر وندم”. كان بينهم “حسن العوضي”، جار الأمس وساخر الأمس، الذي وقف بجانبه وقال: ” أنا جيت… مش علشانك، بس علشان بنتي اللي بتقرا عن الشيا في المدرسة، وبتسألني: ليه ما نزرعش زيه؟” ابتسم عم نصر، وربت على كتفه، دون أن ينبس بكلمة.
وفي الليالي التي تلت، صارت الأرض أكثر اتساعًا. لم تعد حدودها ما يراه عم نصر من شباك بيته، بل ما يسمعه من هواتف الفلاحين الجدد، وهم يسألونه عن طريقة الري، وتوقيت الحصاد، ومعنى كلمة “ريزن”.وهو يشرح… ثم يسكت، كأنه يخاطب الأرض من جديد: ” كل حبة زرعتها، ما كانتش لبطني. كانت لأولادي، ولأولاد غيري… وللي جايين بعدي بكتير.”
ولكن في طيّات هذا الحلم المتسع، بدأت تظهر أصوات خافتة: “ـــ ليه هو المشرف علينا؟”هو بيفهم أكتر مننا في إيه؟” ليه الشركة بتديه هو الأول؟”
صمت عم نصر لم يكن ضعفًا، بل نضج. قال لناصر ذات مساء، وهما يسندان أكياس التقاوي الجديدة:
“لما الزرع يطول، ما ينفعش تقطعه علشان الناس تشوفك… لازم تطول معاهم، وتوريهم النور من غير ما تطفي شمعتك.”
بالكاد خرج الحلم من الأرض، حتى جاءت العاصفة—وهكذا ننتقل إلى المشهد التاسع، حيث تلامس التجربة حدودها القصوى، ويقف عم نصر مرة أخرى أمام المجهول، لكن هذه المرة، المجهول ليس الجهل… بل الوفرة، والخوف منها.
المشهد التاسع: بين غزارة الحلم وهشاشته
في مساء دافئ على غير العادة، جاء الاتصال من شركة “م ت” بصوت المهندس حسام، ذاك الشاب الذي زارهم في موسم الحصاد: ” عم نصر… السوق الأوروبي مهتم بمحصولكم. نحتاج كمية أكبر خلال أربعة أشهر. المواصفات المطلوبة دقيقة، والتوقيت محسوب بالساعة.” كانت كلمات تحمل بين حروفها الذهب… والهاوية.
عم نصر جلس في غرفة الجلوس، الهاتف على الطاولة، وابنه ناصر يقرأ بنبرة خافتة العرض الكامل المرسل بالبريد: “لو قدرنا نوفر الكمية دي، هيبقى أول تصدير مصري رسمي للشيا ضمن مبادرة الأمن الغذائي الأخضر…”
قاطعه نصر: “بس محتاجين أجهزة فرز دقيقة، وحدة تعبئة بمواصفات معينة، و… لوجستيات ما عندناش منها غير على الورق.” ظل عم نصر ينظر إلى الخريطة الزراعية التي رسمها ناصر على جدار الغرفة، ثم قال:
“إحنا ماشيين على أرض مش كل يوم بتتكرر. لو رجعنا خطوة… هتسبقنا ناس تانية.”
وفي اليوم التالي، اجتمع مع شركائه من الفلاحين الجدد. وجوههم كانت مشرقة، لكن مغمّسة بالقلق. قال أحدهم، الحاج عرفات: “يعني إحنا نوسّع… ولا نرجع للخيار والطماطم اللي نعرفها؟” رد عم نصر بعد لحظة صمت:
“لما زرعت الشيا، كنت لوحدي. لكن دلوقتي… إحنا مش لوحدنا. ده فرق كبير.” ثم أخرج ورقة كتب عليها:
“مقترح بإنشاء جمعية زراعية خاصة بزراعات الشيا والمنتجات غير التقليدية، بالتعاون مع شركة “م ت “ومركز البحوث.” الجميع حدّق فيه، وكأن ما سمعوه ليس اقتراحًا، بل بابًا يُفتح على عالم جديد.
ولكن على الهامش، أزمة صغيرة بدأت تكبر:الأرض الجديدة التي كانت ستُزرع ضمن التوسّع، خرجت من الحساب فجأة بسبب خلاف قانوني على ملكيتها…وشحنة التقاوي المستوردة تأخرت في الميناء بسبب تعقيدات جمركية مفاجئة… والتمويل البنكي المنتظر تعطل في أوراقه، لأن موظفًا شكك في “جدوى المشروع“!
في قلب كل هذا، جلس عم نصر ذات مساء، وحوله أوراق، واتصالات لم تُردّ، وحلم يناديه من شاشة حاسوبه، يلمع بعَلم أوروبي وعقد تصدير إلكتروني.
وقال لنفسه: “مش أول مرة الأرض تهتز. بس دي أول مرة الناس اللي حواليّا يبصّوا لي ويستنّوا مني الخطوة الجاية.”ثم ابتسم، كمن يستعد لموسم صعب… يعرف أن ثماره لا تُرى من أول نظرة.
بكل شغف،نتحول إلى المشهد العاشر، حيث تتكثف التجربة كما تتكثف نكهة البذور في موسمها الأخير… لحظة حاسمة، لا انتصار بلا مخاطرة، ولا تحول بلا وجع.
المشهد العاشر: حافة الضوء
وقف عم نصر أمام أرضه عند الفجر. النسيم يمرّ على وجهه كأنّه يختبر صلابته. خلفه كانت الأرض المزروعة بالشيا، تنتظر مصيرها، وأمامه خريطة جديدة من الاحتمالات، تتراقص بين أمل التصدير… وارتباك الواقع.
في اليوم السابق، جاءه اتصال أخير من المهندس حسام في “م ت”: ” لو ما قدرناش نثبت القدرة على التوسّع والتنظيم، السوق الأوروبي هيروح لمورّد تاني. لازم قرار واضح… الآن.”
عم نصر جمع أهل الفريق. وجوه مألوفة، لكن صارت تحمل نضج التجربة: ناصر ابنه، بذقنه غير المحلوقة ونظرة تعب الأيام الأخيرة. الحاج عرفات، الذي صار أكثر التزامًا من ذي قبل. شابة جديدة، فاطمة، مهندسة زراعية شابة قررت الانضمام للتجربة بعد بحث تخرجها عن النباتات غير التقليدية. ورجلان من قرية مجاورة، جاءا يسألان عن إمكان الانضمام، بعد أن سمعا عن طلب التصدير.
قال ناصر: “يا بّا، خلّي اللي بدأته يكبر. إحنا مش بس بنزرع نبات… إحنا بنزرع احتمال جديد لينا كلنا.”
سحب عم نصر نفسًا طويلاً. ثم رفع هاتفه، واتصل بحسام: “قول للشركة… إحنا ماشين في الطريق، لو هو طويل.” أعلن التوسّع رسميًا، رغم تأخر التمويل. قرّروا إطلاق الجمعية الزراعية تحت اسم “جمعية بذرة الجنوب“.
أرسلت “م ت” وحدات الفرز والتعبئة مؤقتًا على سبيل الشراكة، في انتظار التصدير الأول.
بعد أسبوع، بدأت آلات صغيرة تُنصب في طرف الأرض. وجاءت قافلة من المهتمين — وفود من جامعات زراعية، باحثين، شباب مزارعين، حتى إعلام محلي. كان المشهد أشبه بمهرجان هادئ… لكن وسط كل ذلك، كان عم نصر ينظر للأفق. ابتسم بخفة، كأنّه تذكّر شيئًا من زمن بعيد. “همس لنفسه: “البذور اللي تزرعها بإيمان، مش بس بتطلع نبات… بتطلعك إنت كمان.”
المشهد يُغلق على يد عم نصر تمسك حفنة من بذور الشيا، وتُنثرها في التربة الجديدة، وسط عيون تراقب… وقلوب بدأت تؤمن.
واخيرا اهدي هذه الحكاية خاتمة تليق بها: ليست نهاية، بل بوابة مفتوحة… نحو ما يمكن أن يكون حين يقترن الإيمان بالفعل، والجرأة بالجذور.
ما بين البذور والرؤى
لم تكن تجربة عم نصر مجرد زراعة نبات غريب في أرض مألوفة، بل كانت زراعة أملٍ جديد في تربة مثقلة بالعادات، مشبعة بالتردّد، ومُتعبة من محاولات التغيير التي غالبًا ما تنكسر قبل أن تكتمل.
كانت الشيا مجرد بداية — كلمة غير مألوفة على ألسنة أهل القرية، ثم صارت سرّ نقلة نوعية في نظرة الناس لأنفسهم، لأراضيهم، ولقدرتهم على الحلم خارج حدود المألوف.
عم نصر لم يكن بطلاً خارقًا، بل فلاحًا يضع كفّه في التراب وعيونه في الأفق. لكن الفرق أنّه لم ينتظر أن تأتي المعجزة، بل قرر أن يحرّك حجر الماء بنفسه.
وحين تفتّحت البذور، لم تنبت فقط أوراقًا… بل وعيًا جديدًا، وإمكانية.ربما كانت الخطوات بطيئة، مربكة، بل مؤلمة أحيانًا… لكن الأرض فهمت. والناس بدأوا يفهمون أيضًا.في عالم يتغير كل صباح، باتت الزراعة ليست مجرد مهنة، بل مقاومة، ورؤية. وفي قلوب القرى النائية، يمكن لبذرة صغيرة أن تعيد تعريف معنى الانتماء، والكرامة، والطموح.
ولأن كل حكاية عظيمة لا تنتهي — بل تتوالد من نفسها — فإن ما بدأه عم نصر قد يكون في مكانٍ ما… قد بدأه الآن شخصٌ آخر، ببذورٍ مختلفة، وقلقٍ مختلف، لكن بنفس الجرأة. فالأرض، حين تُخاطَب بحبٍ حقيقي… تُجيب دائمًا.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.