رأى

من ذاكرة الفراعنة إلى عقول الأجيال.. المتحف الذي يروي حكاية مصر من جديد


بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

في يوم السبت، الأول من نوفمبر عام 2025، تفتح أبواب المتحف المصري الكبير أخيرًا بعد رحلة طويلة من الانتظار، والتحديات، والأحلام التي تناوبت عليها أجيال من علماء الآثار والمهندسين والمصممين المصريين. ينهض هذا الصرح المهيب عند أقدام الأهرامات كأنه جسر يربط بين عبقرية الماضي وعظمة الحاضر وطموح المستقبل، ليقدّم للعالم وجهًا جديدًا لمصر؛ وجهًا لا يكتفي بعرض التاريخ، بل يُعيد روايته بأسلوب يليق بروح الحضارة المصرية التي علّمت الإنسانية معنى الخلود.

هذا الافتتاح ليس مجرد حدث ثقافي أو سياحي فحسب، بل هو إعلان ميلاد عصرٍ جديد من الوعي بالهوية المصرية التي استطاعت أن تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الحجر الذي شهد فجر التاريخ والتقنية التي ترسم ملامح الغد. فالمتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى ضخم، بل مشروع وطني بامتياز يرمز إلى إرادة المصريين في صون تراثهم وإعادة تقديمه للعالم بمنظور حديث يعكس مكانة مصر كقلب الحضارة الإنسانية.

ومنذ وضع حجر الأساس وحتى لحظة الافتتاح، مرّ المشروع بسنوات من التحديات الهندسية والمالية والإدارية، لكنه صمد أمام كل العوائق ليخرج اليوم تحفة معمارية فريدة تُعد من أكبر المتاحف الأثرية في العالم، تضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية، من بينها كنوز الفرعون الذهبي توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة كاملة في مكان واحد.

إن افتتاح المتحف المصري الكبير لا يمثّل نهاية مشروع، بل بداية لمرحلة جديدة في الدبلوماسية الثقافية المصرية، إذ يتحوّل المتحف إلى مركز عالمي للبحث والتعليم والسياحة الثقافية، يربط بين الماضي العريق والاقتصاد الإبداعي المعاصر، ويفتح آفاقًا واسعة للتعاون الدولي في مجالات الآثار والفنون والتقنيات المتحفية الحديثة.

لذلك يسعدني في هذا المقال أن أتناول معكم تحليلًا شاملًا لهذا المشروع العملاق: خلفياته التاريخية، وأهميته الثقافية والاقتصادية، ومميزاته المعمارية والتقنية، والتحديات التي واجهته، وصولًا إلى ما يعنيه افتتاحه لمستقبل مصر ولصورة الأمة المصرية في عيون العالم.

أولًا: تاريخ المشروع وما قبل الافتتاح — حين يستيقظ التاريخ على ضوء الحاضر

المتحف المصري الكبير، القابع على مشارف هضبة الجيزة، لا يمكن النظر إليه كمجرد مبنى فخم يضم آثارًا قديمة، بل هو حكاية وطنية طويلة الأمد تختزل في تفاصيلها شغف المصريين بتراثهم وإصرارهم على أن تبقى حضارتهم حية في الوجدان الإنساني، مهما تبدلت العصور وتغيرت الوسائل.

هذا المشروع لم يولد بين ليلة وضحاها، بل جاء ثمرة حلمٍ راود مصر لعقودٍ كاملة؛ حلم أن يكون لها متحف يليق بعظمة آثارها، يجمع بين عبق التاريخ وروح الحداثة، ويُعيد للزائر الإحساس الحقيقي بالزمن الذي خطّت فيه الحضارة المصرية أول فصول التاريخ الإنساني.

تعود جذور الفكرة إلى تسعينيات القرن الماضي، حين بدأ التفكير الجاد في إنشاء متحف جديد يواكب تطور المتاحف العالمية ويُخفف الضغط عن المتحف المصري القديم في ميدان التحرير، الذي لم يعد قادرًا على استيعاب الكمّ الهائل من الآثار المكتشفة.

في تلك السنوات بدأت الخطط الأولية والدراسات المعمارية، وتوالت بعدها المسابقات الدولية لاختيار التصميم الأمثل الذي يجسّد روح المكان. وكان الاختيار في النهاية لتصميم مهيب يربط بين عظمة الأهرامات وقدسية المكان من جهة، وبين لغة معمارية حديثة تعبّر عن مصر الجديدة من جهة أخرى.

وفي مطلع الألفية الجديدة بدأ العمل الفعلي في المشروع وسط آمال كبيرة بإنجازه خلال سنوات قليلة، لكن الطريق لم يكن مفروشًا بالورود؛ فقد واجه المشروع عقبات متتالية، من تقلبات اقتصادية وسياسية إلى تحديات مالية ضخمة فرضتها التحولات التي شهدتها البلاد خلال العقدين الأخيرين. ومع ذلك لم يفقد القائمون عليه الأمل، بل استمروا في العمل بخطوات ثابتة مستندين إلى إيمانهم بأن هذا المشروع ليس مجرد إنجاز معماري، بل رسالة حضارية يجب أن تكتمل مهما طال الزمن.

ثم جاءت الجائحة العالمية في عام 2020 لتضيف فصلًا جديدًا من الصعوبات، حيث توقفت الأعمال لفترات، وتعطّلت سلاسل الإمداد، وتقلّصت حركة الخبراء والبعثات الأجنبية. ومع ذلك ظلّ العمل قائمًا في صمتٍ وإصرار، وكأن أيادي المصريين كانت تُعيد تشكيل الحجارة والتماثيل وتعيد معها نبض الحضارة من جديد.

واليوم، بعد أكثر من عقدين من العمل المتواصل، تُطوى صفحة الانتظار الطويل ليُكتب فصل جديد في تاريخ مصر الثقافي. فبقرار القيادة السياسية، ومع اكتمال التجهيزات الفنية والهندسية واللوجستية، أُعلن أخيرًا عن الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير في نوفمبر 2025.

إنها لحظة تجاوزت حدود الاحتفال لتصبح إعلانًا عن بداية مرحلة جديدة من الوعي الثقافي والتفاعل الإنساني مع التراث. فالمتحف لا يقدّم الماضي فقط، بل يُمهّد لمستقبلٍ تُصبح فيه مصر مركزًا عالميًا للمعرفة الأثرية، ومقصدًا لكل من يسعى لفهم جذور الإنسانية من منبعها الأول.

هذا الافتتاح إذن ليس مجرد تدشين لمبنى، بل هو تتويج لمسيرة وطن أراد أن يروي للعالم قصته بلسانه الخاص وبأسلوب يليق بأحفاد من شيّدوا الأهرامات ونقشوا على جدران المعابد أسرار الخلود.

ثانيًا: لماذا هذا المتحف مهم؟

أ) صورة مصر حضاريًا وسياحيًا — بوابة مصر إلى الأبد

المتحف المصري الكبير ليس مجرد قاعاتٍ تعرض تماثيل حجرية أو توابيت مذهّبة، بل هو رسالة مفتوحة إلى العالم مكتوبة بلغة الفن والضوء والتاريخ. إنه إعلان فخرٍ يقول للعالم: هذه هي مصر، حضارة لم تبدأ من فراغ، ولن تنتهي بمرور الزمن.

فحين يدخل الزائر أروقته، يجد نفسه يسير بين ظلالٍ من الماضي تمتد إلى المستقبل، يرى بعينيه كيف استطاعت أمة أن تحافظ على ملامحها رغم تغير العصور، وكيف ظلّت هويتها الحضارية راسخة كأهراماتها لا تهتز.

من هذه الزاوية يصبح المتحف أكثر من مجرد معلم سياحي؛ إنه أداة دبلوماسية ثقافية تعيد رسم صورة مصر في الوعي العالمي. فبدلًا من أن تُعرَف مصر فقط كوجهة سياحية تقليدية، يُعيد المتحف تعريفها كعاصمةٍ للذاكرة الإنسانية، ومركزٍ للإلهام الثقافي، ومنارةٍ تربط بين الحضارات.

إن كل قطعة تُعرض فيه ليست أثرًا جامدًا، بل شاهد حيّ على عبقرية الإنسان المصري وعلى حضارةٍ لا تزال تنبض بالحياة. وهكذا يتحوّل المتحف إلى واجهةٍ حضارية تُبرز للعالم قدرة المصريين على الجمع بين الأصالة والتجديد، بين الجذور والآفاق.

ب) ضخامة المشروع وتقنيات العرض — صرح الخلود على أعتاب الأهرامات

يُعد المتحف المصري الكبير أضخم متحف مخصّص لحضارة واحدة في العالم، فهو يمتد على مساحةٍ تتجاوز نصف مليون متر مربع في تصميمٍ معماري يتناغم بانسيابية مع أفق الأهرامات.

من اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدم الزائر أرضه، يبهرك المشهد: تمثال ضخم لرمسيس الثاني يستقبلك شامخًا في البهو العظيم، محاطًا بإضاءةٍ تخلق توازنًا بين الجلال والرهبة.

لكن ما يجعل هذا المتحف استثنائيًا ليس حجمه فحسب، بل اللغة التقنية والفكرية التي يعتمدها في العرض. فكل قاعة صُممت لتروي قصة محددة بلغةٍ بصرية تفاعلية تجمع بين العلم والفن.

هنا لا يقف الزائر متفرجًا، بل يصبح جزءًا من التجربة؛ يتحرك بين العصور، يتفاعل مع الشاشات الرقمية ثلاثية الأبعاد، يستمع إلى أصواتٍ تحاكي الحياة القديمة، ويرى أمامه كيف كانت المعابد تُبنى وكيف كانت المومياوات تُحنّط في طقوسٍ تشبه الشعر أكثر مما تشبه الطب.

إنه متحف يُحاور الزائر لا يُلقّنه، ويحوّل عملية التعلم والاكتشاف إلى تجربة حسية وعاطفية في آنٍ واحد. وبذلك يتحوّل من مكانٍ للعرض إلى فضاءٍ للانبهار والتأمل، يعيد تعريف معنى المتحف في القرن الحادي والعشرين.

ج) التوثيق والحفظ والاستدامة — المتحف المصري الكبير… ذاكرة تتجدد

في زمنٍ تتعرض فيه آثار العالم للسرقة والضياع والتدمير، ينهض المتحف المصري الكبير كحارسٍ أمين للذاكرة الإنسانية، مزوّد بأحدث تقنيات الحفظ والترميم في العالم.

داخل جدرانه توجد أكبر معامل ترميم أثرية في الشرق الأوسط، حيث يعمل خبراء مصريون على إعادة الحياة لقطعٍ دفنها الزمن لآلاف السنين. كل قطعة تُرمَّم هنا لا تُنقَذ من التلف فحسب، بل تُوثَّق رقميًا بتقنيات حديثة تضمن بقاءها للأجيال القادمة.

ولأن الحفظ لم يعد يعني مجرد حماية الماضي، بل أيضًا ضمان استدامة المستقبل، فقد صُمم المتحف وفق معايير بيئية متقدمة تراعي استهلاك الطاقة والتهوية والإضاءة الطبيعية. إنه متحف صديق للبيئة يوازن بين التقنية والوعي البيئي، بين حجر الفراعنة ونبض الأرض الحديثة.

ولعل أهم ما يميّزه أنه لا يكتفي بعرض الآثار، بل يتحول إلى مركز عالمي للتدريب والبحث العلمي، يستقبل الباحثين والطلاب من شتى أنحاء العالم لدراسة علوم الترميم والحفاظ، ما يجعل من المتحف ليس فقط بيتًا للآثار، بل مدرسة عالمية للمعرفة تواصل رسالة الحضارة المصرية في تعليم العالم.

هكذا تتضح أهمية المتحف المصري الكبير في أبعاده المتعددة: فهو مرآة لهوية مصر، ومنبر لتجديد صورتها الحضارية، ومختبر للمستقبل، يجمع بين الماضي المجيد والتقنيات الحديثة في سيمفونية إنسانية عنوانها: الخلود يصنعه الإبداع.

ثالثًا: ما الذي سيشاهده الزائر؟

حين يخطو الزائر إلى داخل المتحف المصري الكبير، يشعر وكأنه يعبر بوابة الزمن؛ لحظة واحدة تكفي لينتقل من الحاضر إلى عمق آلاف السنين. فهنا لا تُعرض الآثار في صمتٍ جامد، بل تحيا من جديد في سردٍ بصري متقن يحكي قصة الإنسان المصري منذ أول نقشٍ على الصخر وحتى آخر ملوك الفراعنة.

رحلة عبر العصور — حين يستيقظ التاريخ على ضوء الحاضر

يضم المتحف آلاف القطع الأثرية التي تمتد عبر رحلة زمنية متواصلة من عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بالدولة القديمة والوسطى والحديثة، وصولًا إلى العصرين البطلمي والروماني.

إن الزائر لا يكتفي بالمشاهدة، بل يسير على خطى الحضارة نفسها، يلمس تطورها الفكري والفني والسياسي من قطعة إلى أخرى، ومن قاعة إلى قاعة.

كل جناحٍ صُمم ليحكي فصلًا مختلفًا من قصة مصر، حيث تتبدل الإضاءة والألوان والصوت بما يتناسب مع الحقبة المعروضة، فيشعر الزائر أنه يعيش داخل المشهد لا أمامه.

كنوز الملك الذهبي — حين يعانق الحاضر روح الفراعنة

ومن بين جميع المعروضات، تحتل مقتنيات الملك توت عنخ آمون مكانة خاصة، فهي تُعرض لأول مرة كاملة في مكانٍ واحد بعد أن كانت موزعة بين المتاحف والمخازن.

أكثر من خمسة آلاف قطعة تُحاكي تفاصيل الحياة في القصر الملكي: العرش الذهبي، العجلات الحربية، الصناديق المنقوشة، المجوهرات، وأخيرًا القناع الذهبي الذي لا يزال يبهر العالم بملامحه الهادئة ونظرته الخالدة.

كل قطعة من هذه المجموعة تحكي قصة قصيرة عن البهاء والطقوس والرموز التي سكنت حياة المصري القديم، لتجعل الزائر يقف مشدوهًا أمام براعة يدٍ صنعت الجمال منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.

التماثيل العظيمة والبهو المهيب — حيث تتلاقى الشمس بالحجر والماضي بالمستقبل

من اللحظة الأولى التي يدخل فيها الزائر، يستقبله تمثال رمسيس الثاني في البهو الكبير، شامخًا كأنه حارس الزمن. تحيط به تماثيل مهيبة لملوكٍ وملكاتٍ آخرين، تتجاور كأنها في حوارٍ أبدي عن المجد والخلود.

وعلى امتداد البهو يمتد الدرج العظيم الذي يربط طوابق المتحف ببعضها، تصطف على جانبيه عشرات القطع الضخمة التي تحكي مسيرة الفن الملكي عبر العصور.

وفي الخلفية تمتد الواجهة الزجاجية الشفافة التي تتيح للزائر رؤية أهرامات الجيزة مباشرة، فتذوب المسافة بين الداخل والخارج، بين التاريخ والمكان، وكأن الأهرامات نفسها تشهد على ولادة متحفٍ جديدٍ يكمّل رسالتها.

قاعات متخصصة وتجارب تفاعلية: المتحف الذي أيقظ الحجارة من صمتها

ولا يقتصر المتحف على العرض التقليدي للآثار، بل يقدّم تجربة تعليمية وتفاعلية متكاملة. هناك قاعات متخصصة للأطفال، حيث يمكنهم لمس النماذج، واستخدام الشاشات التفاعلية، والتعرّف إلى حياة المصري القديم بطريقةٍ مبسطة تجمع بين اللعب والمعرفة. وفي المركز التعليمي، يجد الباحثون والطلاب مختبراتٍ رقمية تتيح دراسة القطع بتقنيات ثلاثية الأبعاد، ما يجعل من المتحف فضاءً حيًا للبحث والاكتشاف.
أما المناطق المخصّصة للتجربة التفاعلية، فهي تنقل الزائر إلى قلب المشهد التاريخي نفسه؛ فيمكنه مشاهدة بناء الأهرامات من منظور العاملين، أو المشاركة افتراضيًا في موكبٍ ملكي أو طقوس التحنيط، في مزيجٍ مدهش من التكنولوجيا والخيال العلمي والتاريخ الأثري.

تجربة متكاملة تتجاوز حدود المتحف: صوت الحضارة في زمن الحداثة

ولأن المتحف صُمم ليكون مدينة ثقافية كاملة، فهو يضم مرافق تجارية وسياحية راقية: مطاعم ومقاهي تطل على الأهرامات، متاجر للهدايا والتحف، مساحات خضراء، ومدرجًا مكشوفًا للعروض الفنية والموسيقية المستوحاة من التراث المصري. كل تفصيلٍ في المكان صُمم ليجعل من الزيارة تجربة متكاملة تجمع بين التأمل الثقافي والمتعة الحسية.
هكذا يتحوّل المتحف المصري الكبير إلى رحلة في قلب التاريخ الإنساني، لا يخرج منها الزائر كما دخل؛ فكل حجرٍ، وكل ظلٍّ، وكل ومضة ضوءٍ تحفر في ذاكرته معنىً جديدًا للحضارة، وتترك في نفسه إحساسًا عميقًا بأن مصر لم تكن يومًا ماضيًا يُروى، بل حكايةً ما زالت تُكتب.

رابعًا: التحديات التي واجهها وما بعدها

رحلة طويلة بين الحلم والإنجاز: على ضفاف الزمن، تقف مصر شاهدة على نفسها

لم يكن طريق المتحف المصري الكبير مفروشًا بالورود، بل كان رحلةً مليئة بالعقبات والإصرار، تعكس في جوهرها قصة مصر نفسها؛ بلدٌ ينهض رغم العواصف، ويُصرّ على أن يُكمل مسيرته مهما طال الزمن. فمنذ أن وُضِع حجر الأساس، واجه المشروع سلسلةً من التأجيلات، ليس بسبب غياب الرؤية، بل لأن المشروع كان أضخم مما تخيّله الجميع؛ فهو لا يمثل مبنى فحسب، بل مدينة متحفية ضخمة تتطلب بنية تحتية متكاملة وتعاونًا بين جهات محلية ودولية.
لقد مرّت فترات كان فيها المشروع على حافة التوقف، خاصة خلال التقلبات السياسية والاقتصادية التي عاشتها البلاد في العقدين الماضيين. تقلّصت الميزانيات أحيانًا، وتأجلت مواعيد التسليم أكثر من مرة، لكن روح المثابرة لم تُكسر. كان هناك إيمان عميق بأن المتحف ليس مشروعًا سياحيًا عابرًا، بل رهان وطني على الذاكرة والهوية. ومع كل عقبة جديدة، كانت تظهر حلول مبتكرة وتعاونات جديدة، حتى أصبح المشروع نموذجًا في القدرة على الصمود أمام التحديات.

البنية التحتية: التحدي الخفي

لم يكن التحدي الأكبر في بناء جدران المتحف أو تصميم قاعاته الداخلية، بل في تهيئة العالم المحيط به. فالمتحف لا يمكن أن يُفتح في فراغٍ عمراني؛ كان لا بد من أن تواكبه شبكة من الطرق الحديثة، ومحاور مرور تربطه بالعاصمة وبمطار القاهرة الدولي، إلى جانب تطوير منطقة الأهرامات بأكملها لتتحول إلى منظومة سياحية متكاملة. كان المطلوب أن تكون تجربة الزائر سلسة منذ لحظة خروجه من الفندق وحتى وصوله إلى بهو المتحف، من دون فوضى مرور أو ضعف خدمات.
لهذا، كانت السنوات الأخيرة قبل الافتتاح حاسمة، إذ شهدت عمليات تطوير شاملة للبنية التحتية المحيطة: طرق جديدة، مسارات مخصصة للحافلات السياحية، مواقف سيارات ضخمة، وممرات خضراء تتيح للزوار التنقل بسهولة. كما جرى العمل على تطوير الفنادق والمرافق التجارية في المنطقة لتواكب حجم الحدث العالمي المرتقب. فنجاح المتحف لا يعتمد فقط على ما بداخله، بل على البيئة التي تحتضنه، وهذه كانت واحدة من أعقد مراحل التنفيذ وأكثرها دقة.

التحديات التقنية والإدارية

وراء كل حجرٍ نُقل، وكل قطعةٍ أُعيد ترميمها، كانت هناك تحديات تقنية معقدة تتعلق بطرق الحفظ والنقل. بعض القطع، كتمثال رمسيس الثاني أو مقتنيات توت عنخ آمون، احتاجت عمليات دقيقة للغاية لتفادي أي ضرر، وهو ما تطلّب تعاونًا بين عشرات الخبراء المحليين والدوليين. كما مثّل التنسيق الإداري والمالي بين الجهات الحكومية والدولية تحديًا مستمرًا، خصوصًا مع تغيّر الأولويات الاقتصادية عالميًا وتذبذب أسعار المواد والخدمات.
لكن هذه التحديات، على قسوتها، كانت وقودًا للإبداع؛ فقد دفعت الفريق المصري إلى تبنّي حلولٍ ذكية في التصميم والإدارة، واستخدام تقنيات حديثة في الترميم والتوثيق لم تكن مستخدمة من قبل في المنطقة. وبذلك، تحوّل المتحف من مشروع مؤجل إلى رمز للإصرار الوطني والإبداع التقني في آنٍ واحد.

ما بعد التحديات: الدروس والمستقبل

اليوم، بعد اكتمال المشروع، لا يمكن النظر إلى هذه التحديات إلا بوصفها دروسًا ثمينة شكّلت شخصية المتحف وأعطته عمقه الحقيقي. لقد تعلّمت مصر من تجربة المتحف المصري الكبير أن المشاريع الحضارية الكبرى لا تُبنى بالإسمنت فقط، بل بالصبر والتخطيط والالتزام الطويل المدى. وما إن تُفتح أبوابه، حتى يبدأ فصلٌ جديد من التحدي: إدارة النجاح، والحفاظ على المستوى العالمي للمتحف، وضمان استدامة التشغيل والصيانة والتجديد المستمر للمعروضات والخدمات.

بين الشكّ والإيمان بالمشروع: من رماد القرون تولد ذاكرة أبدية

حين يُعلن عن مشروع ضخم مثل المتحف المصري الكبير، لا بد أن تتعالى بعض الأصوات التي تتساءل: هل نحن بحاجة إلى متحف جديد بينما المستشفيات تئنّ، والمدارس تفتقر، والإصلاحات لا تنتهي؟ هذه التساؤلات ليست رفضًا، بل انعكاس لواقعٍ اجتماعي يعاني من ضغط الأولويات. فالناس التي تكافح من أجل لقمة العيش والعلاج والتعليم، تنظر أحيانًا إلى المشاريع الحضارية بوصفها مظاهر ترفٍ لا تمس حياتها اليومية. أحدهم قد يقول: “أنا بنزل مستشفيات حكومي… الناس غلبانة بتشقى علشان تلاقي الدوا، ودول عاملين افتتاح بملايين.”

لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فالمتحف المصري الكبير ليس إنفاقًا من أجل الوجاهة، بل استثمارٌ طويل الأمد في هوية الأمة واقتصادها ومستقبلها الثقافي. إن الأمم التي تهمل تراثها تفقد جذورها، والأمم التي تحافظ عليه وتجيد عرضه للعالم تخلق مصدر قوةٍ ناعمة لا يقل أثرها عن أي مشروع اقتصادي أو تنموي. فالمتحف، بما يملكه من جاذبية عالمية، سيجلب ملايين الزوار سنويًا، وسيخلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، وسينعش قطاعات السياحة والفندقة والنقل والخدمات. إنه مشروع يعيد ضخ الحياة في الاقتصاد من بوابة الثقافة، ويحوّل التاريخ إلى طاقة إنتاج حقيقية.

من المشاهدة إلى التجربة التعليمية والثقافية: الماضي الذي يمشي نحو الغد

غير أن القيمة لا تكمن في المبنى ذاته، بل في الطريقة التي سيتفاعل بها الزائر معه. فالمتحف الحديث لا يقوم على فكرة العرض فقط، بل على تحويل الزيارة إلى رحلة فكرية وتربوية وإنسانية. الزائر، سواء كان مصريًا أو أجنبيًا، لن يكتفي بالتقاط الصور أمام التماثيل، بل سيجد نفسه جزءًا من تجربة متكاملة يتعلّم من خلالها كيف فكر المصري القديم، وكيف عاش، وكيف ابتكر.

ولكي يتحقق هذا التحول، لا بد من إعداد العنصر البشري على أعلى مستوى؛ تدريب المرشدين والعاملين، تطوير الخدمات التعليمية، توفير محتوى رقمي تفاعلي باللغات المختلفة، وتنظيم فعاليات فنية وثقافية تكمّل تجربة الزيارة. فالمتحف يمكن أن يتحول إلى مدرسة مفتوحة للأجيال الجديدة تُعلّمهم احترام التاريخ وفهم معنى الانتماء بطريقة جذابة تواكب روح العصر.

إن تحويل الزائر من مجرد متفرج إلى متفاعل هو ما يجعل المتحف حيًّا نابضًا بالحركة والمعرفة، لا مجرد قاعة ضخمة من الصمت والظلال. وهذا بدوره ينعكس على وعي المجتمع بأهمية تراثه، فيتحول الاهتمام بالآثار من شأنٍ رسمي إلى شعورٍ شعبي أصيل.

الاستدامة الاقتصادية: من الفخامة إلى الجدوى

الفارق بين مشروعٍ يُبهِر لحظة الافتتاح ومشروعٍ يبقى مؤثرًا على المدى الطويل هو القدرة على الاستدامة الاقتصادية. فالمتحف المصري الكبير لا يجب أن يكون “حدثًا عابرًا” يُذكَر لمجده المعماري فقط، بل موردًا دائمًا للإنتاج الثقافي والسياحي. نجاحه سيُقاس ليس بعدد الزوار في عام الافتتاح، بل بمدى استمرارية تدفقهم بعد عقدٍ أو عقدين.

ولهذا، فإن فلسفة إدارته يجب أن تقوم على التكامل بين البعد الثقافي والاقتصادي؛ فالمتاحف الكبرى في العالم ليست عبئًا على الدولة، بل مؤسسات تحقق أرباحًا عبر الأنشطة التعليمية، والعروض الفنية، والمتاجر المتخصصة، والفعاليات الدولية. إن تحويل المتحف إلى مركز دائم للتفاعل الثقافي العالمي سيضمن له ديمومة مالية وثقافية تُمكّنه من تمويل مشاريعه الخاصة، بل والمساهمة في دعم التعليم والبحث العلمي في مصر.

في النهاية، المتحف المصري الكبير هو استثمار في الذاكرة والمستقبل معًا؛ مشروعٌ يربط بين الاقتصاد والثقافة، بين الماضي والمواطنة، بين التراث والوعي. إنه ليس نفقًا من المال العام في حجرٍ صامت، بل نبضٌ حيّ يعيد تعريف العلاقة بين المصري وتاريخه، وبين التاريخ والتنمية. فحين يدرك الناس أن المتحف ليس بعيدًا عن حياتهم، بل جزء من مستقبلهم، تتحوّل تلك التساؤلات إلى إيمانٍ صادقٍ بأن الحضارة أيضًا شكلٌ من أشكال التنمية.

ما بعد الافتتاح ليس نهاية القصة، بل بدايتها الحقيقية. فالمتحف المصري الكبير سيكون من الآن فصاعدًا نقطة انطلاقٍ لعصرٍ ثقافي جديد، يضع مصر في موقعها المستحق كقلبٍ نابضٍ للحضارة الإنسانية، يواجه المستقبل بذات الشجاعة التي واجه بها الماضي.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى