رأى

من التطوع إلى القرار: فرص بناء مجتمع مستدام وعادل

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

على المستوى الاجتماعي والأخلاقي، تبدو التنمية المستدامة نسيجًا متشابكًا من الخيوط الإنسانية، كل خيط يمثل فردًا أو فكرة، وإذا انقطع ضعفت متانته. فهي قبل أن تكون عن البيئة أو الاقتصاد، هي عن العدالة والكرامة الإنسانية، إذ لا يمكن لمجتمع يفتقر للمساواة أن ينهض مهما بُني من مشاريع. محاربة الفقر ليست توزيع مساعدات، بل خلق بيئة تمكّن الفرد من الاعتماد على نفسه، وفتح أبواب التعليم والعمل أمامه، وتحويله من دائرة الحاجة إلى مسار الإنتاج.

تمكين المرأة والشباب ليس رفاهية، بل استثمار في نصف المجتمع على الأقل، وإدراك أن الإبداع لا يعرف جنسًا أو عمرًا، وأن حرمان الأفراد من الفرص هدر لقدرات كان يمكن أن تدفع المجتمع إلى الأمام. تعزيز الصحة النفسية بدوره صمام أمان يحمي المجتمع من الانهيار، إذ إن العقول المثقلة بالقلق لا تبتكر ولا تبني. أما دعم ذوي الإعاقة فهو الامتحان الحقيقي لإنسانيتنا، حيث يقاس التقدم بمدى قدرتنا على دمج الجميع في مسيرة البناء. لكن الطريق مليء بالتحديات: الفوارق الطبقية تتسع، التمييز يتسلل بأشكال خفية، والخدمات الأساسية تغيب عن مناطق كاملة، مما يخلق شعورًا بالظلم. ومع ذلك، تبقى الفرص حاضرة: المبادرات التطوعية جسور تربط الفئات، والاقتصاد التضامني يعيد توزيع الموارد بعدل، ومشاركة المواطنين في القرار تحول التنمية إلى مشروع جماعي. هكذا يصبح المجتمع المستدام من يحمي أضعف أفراده، ويستثمر في طاقات جميع أبنائه، ويرى التنوع قوة لا انقسامًا، لأن العدالة الاجتماعية هي الأساس الذي تُبنى عليه بقية الأهداف.

أمثلة: محاربة الفقر، تمكين المرأة والشباب، تعزيز الصحة النفسية، دعم ذوي الإعاقة. 

محاربة الفقر ليست مجرد تدخلات عاجلة لإطعام الجائع أو إيواء المحتاج، بل هي عملية جذرية تستهدف تغيير البنية التي تولد الفقر وتعيد إنتاجه عبر الأجيال. هي كسر للسلاسل التي تبقي الإنسان أسير الحاجة، وإعادة تشكيل بيئة تمنحه التعليم الجيد، والتدريب العملي، والفرص الاقتصادية التي تتيح له أن يقف على قدميه بكرامة. وعندما يتحرر من ضغوط الفقر، يتحول من متلقٍ للمساعدة إلى مشارك في الإنتاج، مضيفًا قيمة إلى المجتمع بدل أن يكون عبئًا عليه.

تمكين المرأة والشباب هو في جوهره تحرير نصف المجتمع — أو أكثر — من القيود غير المبررة، وإفساح المجال لطاقات خلاقة كانت مجمدة خلف جدران العادات أو السياسات القاصرة. المرأة التي تملك القرار في حياتها، والشاب الذي يجد فرصة لتوظيف مواهبه، هما جناحان يطير بهما المجتمع نحو الابتكار والتجديد، لأن الأفكار العظيمة لا تعترف بالعمر أو النوع.

أما تعزيز الصحة النفسية، فهو بناء الحصن الداخلي الذي يحمي الأفراد من الانهيار وسط تحديات الحياة وضغوطها. فالمجتمع الذي يعاني أفراده من القلق والاكتئاب والعزلة لا يمكن أن يزدهر، لأن الإبداع والعمل الجماعي يحتاجان إلى عقول هادئة ونفوس متوازنة. توفير الدعم النفسي والخدمات العلاجية ليس رفاهية، بل هو شرط للاستقرار الاجتماعي. ودعم ذوي الإعاقة هو مرآة القيم الحقيقية لأي أمة. دمجهم في التعليم والعمل والحياة العامة يعني الاعتراف بأن لكل إنسان قيمة وقدرة على الإسهام، حتى وإن اختلفت وسائله عن الآخرين. مجتمع يعطي الفرصة لكل فرد — بلا استثناء — هو مجتمع متماسك لا يترك أحدًا خلفه. هكذا تتكامل هذه العناصر لتشكّل الأساس الأخلاقي والاجتماعي للتنمية المستدامة، حيث يصبح كل فرد عنصر قوة، لا حلقة ضعيفة في السلسلة.

الأهمية: لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة في مجتمع يفتقر للعدالة والمساواة. 

العدالة والمساواة ليستا مجرد إطار نظري أو شعارات رنانة تُرفع في المؤتمرات، بل هما البنية التحتية غير المرئية التي تستند إليها كل خطوات التنمية المستدامة. هما أشبه بالجذور العميقة لشجرة عظيمة، تغذيها وتثبتها في الأرض مهما هبت العواصف. في مجتمع تتحقق فيه العدالة، يشعر كل فرد أن جهده مُقدَّر، وأن الفرص لا تُمنح بالمحاباة أو الامتيازات الموروثة، بل تُوزع على أساس الكفاءة والاستحقاق. وحين تتساوى الحقوق والواجبات، يتبدد الإحساس بالغبن، وينمو بدله شعور الانتماء والمسؤولية، فيصبح الدفاع عن الصالح العام مهمة جماعية وليست عبئًا على فئة محددة.  غياب العدالة لا يعني فقط أن بعض الأفراد يُظلمون، بل يعني أن المجتمع بأكمله يخسر طاقات وإبداعات كان يمكن أن تغيّر مساره.

العقول التي تُقصى، والقدرات التي تُهمَّش، تتحول إلى طاقات خامدة أو حتى إلى عوامل سلبية تهدد الاستقرار. أما حين تُفتح الأبواب على مصراعيها أمام الجميع، يصبح التنوع البشري مصدر قوة، تتلاقح فيه الأفكار وتتكامل الخبرات لتولّد حلولًا أكثر إبداعًا وشمولًا.  المساواة لا تعني أن يتشابه الجميع في كل شيء، بل أن يُمنح كل شخص الأدوات نفسها للانطلاق، وأن يُقاس النجاح بمدى الجهد والإبداع لا بمدى النفوذ أو الامتيازات. وعندما يسود هذا المبدأ، يصبح كل إنجاز فردي مكسبًا جماعيًا، وكل تقدم في حياة شخص واحد خطوة إلى الأمام في مسيرة الأمة.   التنمية المستدامة، في جوهرها، مشروع تعاوني طويل الأمد، لا يمكن أن ينجح إلا إذا شعر الجميع أنهم شركاء فيه، لا ضيوفًا على مائدته. وعندها فقط، يصبح المستقبل أكثر توازنًا وعدلًا، وتصبح الأرض التي نسير عليها أكثر ثباتًا تحت أقدامنا.

التحديات: الفوارق الطبقية، التمييز، ضعف الخدمات الأساسية في بعض المناطق. 

الفوارق الطبقية هي الجدار الخفي الذي يقسم المجتمع إلى عوالم متجاورة لكنها متباعدة، حيث يعيش البعض في وفرة مفرطة، بينما يكافح آخرون لتأمين أبسط مقومات الحياة. هذا التباين لا يولد فقط شعورًا بالظلم، بل يزرع بذور الاحتقان ويضعف الروابط التي تشد الناس إلى هدف مشترك. وعندما تتسع الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، يصبح الحديث عن تنمية مستدامة أقرب إلى حلم بعيد المنال، لأن الاستقرار الاجتماعي لا يقوم على طرف قوي وطرف ضعيف، بل على أرضية متساوية للجميع.

التمييز بدوره يتسلل بأشكال قد تكون صريحة أو خفية، فيغلق الأبواب أمام فئات كاملة لمجرد انتمائها لجنس أو عرق أو خلفية معينة. هذا الإقصاء يحرم المجتمع من ثروة بشرية هائلة، ويحوّل المواهب إلى طاقات مهملة، ويكرس شعورًا بأن العدالة ليست للجميع، بل امتياز للبعض. وما لم يتم التصدي لهذا التمييز، ستظل التنمية مشروعًا ناقصًا يفقد قيمته في أعين من حُرموا من المشاركة فيه.

أما ضعف الخدمات الأساسية في بعض المناطق، فهو الوجه العملي للفجوة الاجتماعية، حيث يحدد موقع الميلاد أحيانًا مدى جودة التعليم أو الرعاية الصحية أو البنية التحتية التي يحصل عليها الفرد. مناطق تُضاء شوارعها وتُجهز مدارسها بالمختبرات الحديثة، وأخرى تكافح من أجل الحصول على ماء نظيف أو عيادة قريبة. هذه الاختلالات تخلق دوائر متكررة من الفقر والحرمان، وتجعل الحديث عن المساواة والعدالة أقرب إلى التمنيات منه إلى الواقع.  في ظل هذه التحديات، تصبح مهمة التنمية المستدامة أشبه برحلة صعود طويلة، لا بد أن تبدأ بكسر هذه الحواجز الثلاثة، حتى يسير الجميع على طريق واحد، وبخطى متقاربة، نحو مستقبل أكثر توازنًا وإنصافًا.

الفرص: إنشاء مبادرات تطوعية، دعم الاقتصاد التضامني، تعزيز مشاركة المواطنين في القرار.

الفرص أمام المجتمعات الساعية إلى تحقيق التنمية المستدامة كثيرة، لكنها تحتاج إلى من يلتقطها ويحوّلها إلى واقع ملموس. المبادرات التطوعية هي الشرارة الأولى، إذ تجمع الأفراد حول هدف مشترك، وتكسر الحواجز بين الطبقات والفئات، فيلتقي الشاب بالمسن، والطالب بالعامل، على مائدة عمل واحدة يتقاسمون فيها الوقت والجهد. هذه المبادرات ليست مجرد أعمال خيرية، بل هي منصات لبناء الثقة وتعزيز روح الانتماء، حيث يشعر كل مشارك أن له دورًا مباشرًا في تحسين بيئته ومجتمعه.

دعم الاقتصاد التضامني يأتي كخطوة أعمق، فهو يغيّر فلسفة التعامل مع الموارد من منطق التنافس المحموم إلى منطق التعاون والتشارك. في هذا النموذج، تتحول المشروعات الصغيرة والتعاونيات إلى أدوات تمكين حقيقية، تتيح للأفراد إنتاج ما يحتاجونه وتوزيعه بشكل عادل، وتضمن أن الأرباح لا تتركز في أيدي قلة، بل تعود بالنفع على جميع المشاركين. إنه اقتصاد يوازن بين الربح والقيم، وبين الكفاءة والمسؤولية الاجتماعية.

أما تعزيز مشاركة المواطنين في القرار، فهو الضمانة الحقيقية لأن تكون التنمية مشروعًا جماعيًا لا خطة مفروضة من الأعلى. عندما يشارك الناس في صياغة السياسات التي تمس حياتهم، فإنهم يشعرون بالمسؤولية عن نجاحها، ويتحولون من متلقين إلى شركاء، ومن منتقدين إلى صانعين للتغيير. المشاركة تعني أن الأفكار تأتي من قلب الواقع، وأن الحلول تراعي احتياجات جميع الفئات، فتزداد فرص نجاحها واستمراريتها. هكذا، تصبح المبادرات، والاقتصاد التضامني، والمشاركة الشعبية، ثلاثة أجنحة تحمل المجتمع نحو مستقبل متوازن، حيث لا يترك أحد خلف الركب، وحيث تكون التنمية المستدامة نتاج وعي جماعي وإرادة مشتركة.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى