رأى

من التراب إلى الأسواق حكايات فلاحين انتصروا بالمحاصيل الجديدة

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

في القرى التي أنهكها الجفاف، والحقول التي هجرتها الأمطار، وقلوب الفلاحين التي لم تفقد الأمل رغم قلة العائد… تولد قصص لا نسمعها كثيرًا، لكنها حقيقية. قصص فلاحين بسطاء قرروا تجربة زراعة محاصيل غير تقليدية — مثل الكينوا، التيف، الدخن، الأمَرنث، أو حتى الشيا — فوجدوا في ذلك بابًا جديدًا للحياة… أو في بعض الأحيان، تجربة لم تنجح اقتصاديًا كما ظنوا.

فلاحون بسطاء يهزمون التحدي بالمحاصيل البديلة

في قلب الريف المصري، حيث تتسلل الشمس بخجل بين سنابل القمح الباهتة، وتُروى الأرض بعرق السنين، تنهض قصص لا تُحكى في نشرات الأخبار، ولا تُدون في دفاتر المسؤولين. قصص أبطالها فلاحون بسطاء، لا يحملون شهادات عليا، ولا يملكون أراضي واسعة، لكنهم حملوا على عاتقهم تحدي الحياة، وسلاحهم كان: النباتات البديلة.

بعيدًا عن زحام الكلام، نقترب اليوم من ثلاثة وجوه من نور الطين، ونوثق تجاربهم مع محاصيل غير تقليدية، نجحوا في زراعتها حين فشل السوق في إنصافهم، وحققت لهم ما عجزت عنه سنوات من الزراعة النمطية.

عم رمضان عبدالقادر – الكينوا تفتح باب الأمل في الفيوم

في أرض قاحلة بقرية تطل على بحر يوسف، وقف عم رمضان ينظر إلى أرضه التي أنهكها القمح عامًا بعد عام، يزرع ويحصد ولا يبقى له سوى الديون.

يقول: “اللي بنزرعه ناكله، واللي بنبيعه نشتري بيه سماد وسلف. لا عمرها كفت ولا رفعت راسي.”

في 2020، سمع عن الكينوا من شركة رائدة لهذا المحصول . سخر منه البعض، لكنه قرر أن يجرب. حرث الأرض، أضاف سمادًا بلديًا، وزرع بذور الكينوا في صفوف متقاربة. احتاجت الأرض رية كل عشرة أيام، ومع القليل من التسميد الفوسفاتي، بدأت السيقان ترفع رأسها للعالي.

بعد ثلاثة أشهر، حصد عم رمضان محصولًا لم يره من قبل. كانت الحبوب صغيرة، ذهبية، لكنها كانت أثمن من الذهب بالنسبة له. باع المحصول لأحد التجار المهتمين بالأغذية الصحية في القاهرة، وخرج للمرة الأولى من موسمه بربح صافٍ تجاوز 18 ألف جنيه للفدان.

عوض سليمان – الدخن يُعيد الحياة لأرض منسية في المنيا

في أطراف الصعيد، حيث الجفاف أقسى من الصمت، كانت أرض عوض سليمان تغفو على ملوحة وخراب. هجَرها لعامين بعد أن عجز عن إنبات شيء فيها. لكن في إحدى الندوات الإرشادية، التقط كلمة عن “الدخن”، نبات يُشبه القمح، لكنه يتحمّل العطش والتربة الصعبة.

يقول عوض: “قلت أجرب.. إيه اللي هخسره؟ الأرض أصلاً نايمة.”

عاد إلى أرضه، وسوّاها بالجبس الزراعي، وأدخل بذور الدخن المحلي. استخدم الري بالتنقيط هذه المرة، وتابع نمو النبات كما لو كان طفله. لم يحتج إلا إلى القليل من التسميد، والقليل من العناية، وأخرج من الأرض حصادًا أعاد لها كرامتها.

باع محصوله لشركة  كانت تشتري الدخن لغرض التجريب، فحصل على عائد 15 ألف جنيه من نصف فدان. لكنه لم يكتفِ بذلك. في الموسم التالي، زاد المساحة، وبدأ يسوّق الدخن لمحلات العطارة والمطاحن الصغيرة.

الحاجة أم حسن – التيف يمنح الأرامل مستقبلًا في بني سويف

أرملة خمسينية، وجدت نفسها مسؤولة عن قطعة أرض لا تتجاوز نصف فدان. كانت تزرع قمحًا وشعيرًا، لكن العائد لا يسد احتياجات أبنائها.

في عام 2021، دعتها جمعية تنموية لحضور جلسة تعريفية بنبات “التيف”، حبوب أفريقية صغيرة الحجم، عظيمة القيمة.

زرعت الحاجة أم حسن أرضها بنفسها. استخدمت سمادًا عضويًا فقط، وريّت الأرض كل أسبوعين. لم تواجهها آفات تذكر، وحين حان وقت الحصاد، كانت تذرف دموعها وهي تملأ الجوالات الصغيرة بحبوب التيف.

تقول:  “كان أول موسم أحس فيه إني مش بس ست بتشتغل، لكن ست بتنجح.”

باعت الحبوب لمحلات غذاء صحي في القاهرة بسعر 60 جنيهًا للكيلو. ربحت 21 ألف جنيه من نصف فدان، وبدأت تفكر في تحويل سطح بيتها إلى مساحة لتجفيف الحبوب وزيادة الإنتاج.

الاقتصاد الحقيقي: حين تكون الأرض أكثر وفاءً من السوق

ليست هذه القصص عن محاصيل بديلة فقط، بل عن تفكير بديل، إرادة بديلة، ونظرة جديدة للزراعة. الفلاح البسيط لا يبحث عن مغامرة، بل عن كرامة في أرضه. زراعة النباتات البديلة قد لا تكون الحل السحري، لكنها بلا شك خطوة واقعية نحو زراعة أقل استنزافًا، وأعلى قيمة.

إن ما فعله عم رمضان، وعوض، وأم حسن، يؤكد أن النجاح الزراعي ليس حكرًا على كبار المستثمرين، بل يمكن أن يولد من قلب الطين حين يمتزج بالمعرفة، وتدعمه إرادة التغيير.

حين يتكلم الفلاح

ليست هذه القصص ضربًا من الحظ، ولا نجاحات عابرة. إنها إشارات واضحة أن الفلاح المصري — حين تُمنح له المعلومة الصحيحة، والبذور المناسبة، والسوق العادل — قادر على صناعة المعجزة من حفنة تراب وماء.

من هنا، نرفع هذا النداء الصادق إلى:

مراكز البحوث الزراعية: أن تنزل من أبراجها، وتقترب من الحقول، فتُبسّط العلوم، وتُختبر المحاصيل الجديدة جنبًا إلى جنب مع الفلاح.

الجمعيات الأهلية: أن تُعيد ترتيب أولوياتها، وتوجه دعمها لمبادرات الزراعة المستدامة لا إلى مشاريع الاستهلاك المؤقت.

الجهات التمويلية والبنوك الزراعية: أن تعيد الثقة في الفلاح الصغير، وتُخصص خطوط تمويل مرنة وسهلة للمحاصيل غير التقليدية.

وسائل الإعلام: أن تلتفت لهذه القصص، وتمنحها مساحتها، لأن الضوء الذي لا يصل إلى القرى، يتركها في ظلام العزلة.

الخطوات الزراعية والفنية المتبعة

التجربة الأولى: زراعة الكينوا في الفيوم – عم رمضان عبد القادر

الخطوات الزراعية والفنية التي اتبعها:

  1. اختيار الأرض: اختار أرضًا متوسطة الملوحة، وكانت تُزرع سابقًا بالقمح. ثم حرث الأرض مرتين لتحسين التهوية وتفتيت الطبقة السطحية.
  2. تحليل التربة والماءأجرى تحليلًا بسيطًا للتربة بمساعدة أحد المهندسين الزراعيين بالجمعية، ليتأكد من ملاءمتها للكينوا (تحمّل ملوحة حتى 6000 جزء في المليون.
  3. البذر: استخدم بذور كينوا محسّنة من نوع “Q-14” البذر كان نثريًا يدويًا، مع خف لاحق بعد الإنبات، على خطوط تبعد 25 سم.
  4. الري:استخدم نظام الري بالغمر، بمعدل كل 12 يومًا في الشتاء. قلّل الري أثناء التزهير لتقليل الإصابة بالفطريات.
  5. التسميد: اعتمد على السماد العضوي البلدي قبل الزراعة. أضاف 3 شكائر سوبر فوسفات للفدان، و2 شكارة نترات أمونيوم بعد 30 يومًا.
  6. مكافحة الآفات: لم يُصب المحصول بكثير من الآفات، لكن استخدم رشة كبريت زراعي واحدة بعد 45 يومًا لمكافحة البياض الدقيقي.
  7. الحصاد: تم الحصاد يدويًا بعد 100 يوم من الزراعة، ثم التجفيف لمدة أسبوع. استخدم آلة صغيرة للفصل (دراسة).

التجربة الثانية: زراعة الدخن في المنيا – عوض سليمان

الخطوات الزراعية والفنية التي اتبعها:

  1. تحويل أرض مهملة إلى منتجة: الأرض كانت عالية الملوحة وضعيفة الخصوبة، وكان قد هجَرها لسنتين.
  2. تحضير الأرضاستخدم محراث قرصي لتحسين التربة، وأضاف الجبس الزراعي لتقليل تأثير الملوحة. حرث مرتين متعامدتين.
  3. اختيار البذور: حصل على بذور دخن من “محطة البحوث الزراعية ” – صنف مبكر النضج.
  4. الزراعة: زرع في شهور الصيف (يونيو) ، الزراعة كانت في سطور باستخدام المحراث، بمسافات 30 سم بين السطور.
  5. الري: استخدم الري بالتنقيط، بنظام بسيط قام بتعديله بنفسه باستخدام خراطيم مستعملة.
  6. التسميد: أضاف الكمبوست بواقع 5 طن/فدان  واستخدم كمية بسيطة من نترات النشادر، واعتمد على التسميد العضوي غالبًا.
  7. التحكم في الحشائش: استخدم العزيق اليدوي مرتين خلال الموسم.
  8. الحصاد والتسويق: جنى المحصول بعد 90 يومًا، وبدأ بتسويقه لتجار الطيور ومنتجي العلف العضوي.

التجربة الثالثة: زراعة التيف في بني سويف – الحاجة أم حسن

نبذة:  امرأة خمسينية، أرملة، تدير نصف فدان كانت تزرعه قمحًا أو شعيرًا، لكن المحصول كان بالكاد يغطي التكاليف. في 2021، سمعت عن نبات “التيف” في ندوة زراعية، وجربت زراعته بدعم من احد المربين من  مركز بجوث الصحراء.

الخطوات الزراعية والفنية التي اتبعتها:

  1. تجهيز الأرض: تمت تسوية الأرض يدويًا لكونها صغيرة، بعد حرثها مرة واحدة. ثم أضافت نصف طن سماد بلدي قبل الزراعة.
  2. البذور/ حصلت على بذور تيف بني حبشي من احد المزارعين المعروفين . زرعت بطريقة “السطور” على مسافة 20 سم بين الخطوط.
  3. الري: الري كان تكميلي فقط، كل 10-14 يومًا، لأن التيف يتحمّل الجفاف. اعتمدت على مياه الطلمبة الجوفية.
  4. التسميد: أضافت فوسفات أحادي الكالسيوم مع الزراعة. استخدمت فقط سماد عضوي مخمر أثناء التزهير.
  5. مكافحة الآفات: لم تحتج إلى أي مبيدات، لأن النبات مقاوم نسبيًا. فقط إزالة الأعشاب يدويًا مرتين.
  6. الحصاد والتجفيف: الحصاد يدوي بعد 85–90 يومًا. استخدمت سطح منزلها لتجفيف الحبوب.

النتائج الاقتصادية:

الإنتاج: نحو 500 كجم/نصف فدان

سعر البيع: 60 جنيه/كجم لمحلات الأطعمة الصحية في القاهرة

العائد الكلي: 30,000 جنيه

التكلفة الإجمالية: حوالي 8,500 جنيه

الربح الصافي: أكثر من 21,000 جنيه في نصف فدان

تعليق الحاجة أم حسن: “كنت بشتغل عشان أعيش، دلوقتي بقيت بشتغل وأحوش. التيف فتحلي باب رزق نظيف، وناس كتير في البلد عايزين يجربوه السنة الجاية.”

حكايات من الأرض: تجارب حقيقية لفلاحين بسطاء نجحوا في زراعة محاصيل بديلة

التجربة الأولى: فلاح في الفيوم يزرع الكينوا

الاسم: عم رمضان عبد القادر – عمره 52 سنة
البداية: 2018 – بدأ بتجربة زراعة الكينوا في فدان واحد
الدعم: حصل على البذور من مشروع تجريبي تابع اتجى الشركات

التكلفة: حوالي 12,000 جنيه مصري للفدان (حرث، بذور، ري، عمالة)
العائد: 700 كجم كينوا/فدان × 35 جنيه/كجم = 24,500 جنيه
الربح الصافي: 12,500 جنيه
الصعوبات: ضعف تسويق، وعدم معرفة التجار بالمحصول
الدروس: بدأ يخصص نصف إنتاجه لبيع الحبوب، والنصف الآخر كبذور للفلاحين الجدد

الخلاصة الاقتصادية:
نسبة الربح مغرية، لكن السوق غير مضمون، والدخل يعتمد على توافر مشترين واعين بأهمية المحصول.

التجربة الثانية: فلاح في المنيا يزرع الدخن بعد فشل الذرة

الاسم: عوض سليمان – 40 سنة
البداية: 2020 ، بعد سنتين من خسائر في زراعة الذرة بسبب ملوحة الأرض
المساحة: 2 فدان
التكلفة: أقل من الذرة – حوالي 7,000 جنيه للفدان
العائد: 1 طن دخن/فدان × 12 جنيه/كجم = 12,000 جنيه
الربح الصافي: 5,000 جنيه
المكاسب غير المباشرة: علف طبيعي للدواجن، استهلاك بيتي
العقبة: السوق محدود، والتجار يعرضون أسعارًا منخفضة

الخلاصة الاقتصادية:
ربح بسيط لكنه مستقر، مع تحسّن في نوعية التربة، وتوفير جزء من احتياجات البيت.

التجربة الثالثة: امرأة ريفية في الأقصر تزرع الأمَرنث في حديقة منزلها

الاسم: أم هبة – 35 سنة
المساحة: 1 قيراط خلف البيت
البداية: 2021 – تعرّفت على النبات عبر ورشة نسائية
الهدف: دخل إضافي وتحسين التغذية
التكلفة: شبه معدومة (اعتمدت على بذور مجمعة وسماد عضوي منزلي)
العائد: 15 كجم من الحبوب، وكمية من الأوراق تُستخدم كخضار
الربح: باعت جزءًا من الحبوب لمحلات العطارة بـ 40 جنيه/كجم
الدخل الإجمالي: 600 جنيه – لكنها تقول: “المكسب الحقيقي صحي لأولادي”

ليست تجربة تجارية، لكنها نموذج مستدام للأمن الغذائي الشخصي ودخل محدود من المنزل.

الفلاح البسيط قادر على النجاح في زراعة المحاصيل البديلة، بشرط وجود:

دعم فني وإرشادي  وتسويق ذكي يربط الفلاح بالمستهلك النهائي  مع تسهيل التمويل، حتى بمبالغ صغيرة

الاقتصاديات قد تكون مربحة جدًا، لكن بدون سوق واعٍ ودعم حكومي أو مجتمعي، يظل الفلاح في دائرة الخوف والتجريب.

وأخيرًا، إلى كل فلاح يُحبطه الواقع:  تجارب عم رمضان، وعوض سليمان، والحاجة أم حسن، ليست حكايات بعيدة… هي بدايات ثورة زراعية هادئة، تبدأ من قرار شجاع، وبذرة مختلفة.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى