رأى

«من الأستاذية إلى الأمانة».. تأملات ذلك الذي عنده علم من الكتاب

بقلم: أ.د.معمر جاد

مدير محطة البحوث الزراعية بسرس الليان بمحافظة المنوفية – مركز البحوث الزراعية

عندما تقدمت للحصول على درجة الأستاذية، كان الشك أسبق عندي من اليقين في معظم القضايا. فالعلم شاق ومرهق، ولكنه يفتح لك آفاقًا رحبة شديدة الروعة والجمال بين أحكام الطلاقة والنسبية. ولكنه يسرق منك السعادة والابتسامة في كثير من الأمور التي تفسدها مرارة الفهم.

أصحاب العلم متواضعون جدًّا لأنهم يعرفون أن كل شيء متغير، وأن الحقيقة نسبية، وأن النظرية والقانون اللذين يلتف حولهما الجميع قد يتغيران غدًا برؤية جديدة، وأن ما نراه في الواقع ليس هو الحقيقة، لأنه نتاج حواسنا الخمس أو السبع أو العشر! وأن الله قد وضع حدودًا لهذه الحواس، فجانبها الصواب ولازمها القصور.
فلو أننا نرى بالأشعة فوق البنفسجية وليست البيضاء، لوجدنا الرفاق كلهم هياكل عظمية كما تصورهم الأشعة، وتغيرت نظرتنا عن الحياة والسعادة والحب والجمال وكل شيء.

وطور الإنسان وسائل إدراكه المحدودة للبيئة والكون، محاولًا أن يحيط بهما علمًا، فصنع الميكروسكوبات ليرى ما لا تراه عيناه من الأشياء والكائنات المتناهية الصغر التي تشكل حياته، ونبش داخل الذرة، وصار يرى الأصدقاء والأعداء في العالم اللامرئي، وكيف أن عدوًا رهيبًا طاغيًا يهزم الجميع وهو لا يُرى من شدة الصغر والضآلة… عوالم كانت خفية.
ثم انتقل فصنع التلسكوبات لمراقبة الكون والأجرام السماوية والأشياء البعيدة، في محاولة أخرى بائسة لمعرفة الحقيقة. ثم صنع الملايين من وسائل إدراكه للعالم… فهل أدرك الحقيقة؟!

وهو لم يَسْلَم ولا زال يحاول الفهم والسيطرة، وكان العلم دائمًا ما يرتبط بقيم الخير والجمال وخدمة الإنسانية…
ثم ظهر الشيطان شريكًا، لا يريد للعلم أن ينتصر بتفانيه في خدمة الإنسان، وأراد برفاقه من الاستعماريين والعنصريين أن يطوِّعوا العلم من أجل أغراض عنصرية شيطانية، وليذهب الجميع إلى الجحيم.
فاستخدموا العلم من أجل القضاء على المجتمعات الفقيرة البائسة بدلًا من خدمتها والارتقاء بها. انشغلت الدول العظمى بمن يسيطر، والسيطرة طبعًا لمن يمتلك العلم… من يسيطر على الفضاء؟ من يسيطر على موازين القوى؟ من يحرك الأعاصير؟! ويصنع الزلازل؟!
صنعت القنبلة الذرية، والقنابل البيولوجية، وصنعت قنابل عرقية للقضاء على فصائل بعينها!

ثم جاء فيروس كورونا للسيطرة على العالم!!! وصنعت أمصال في الدول العظمى للحماية، ولكنها من أجل الاستخدام في الدول النامية! وصرّح كثير من الأطباء أنهم بالطبع لم يقعوا في فخ استخدام الأمصال، واضطررنا نحن لمد أيدينا للحقن بما نكره حتى نحافظ على وظائفنا ومقدّراتنا داخل الوطن… وقريبًا سوف تتكرر في معاملهم ويظهر لنا كوفيد جديد، والحقن إجباري بلا حق الرفض، بحجة حماية البشرية، والمواد النانوية التي تدخل أجسامنا قد تكون بداية للسيطرة على البشر بأبراج التحكم، مثل أشباح الزومبي!!!

إنهم يقدمون كل شيء من أجل العلم، ويوفرون البيئة الصحية وكل الإمكانيات في معاملهم وجامعاتهم ومراكز البحث العلمي، ونحن مشغولون بملاعب كرة القدم، وصراعات وحروب بلا ميدان. وتذهب كثير من مواردنا الضرورية للاعبي كرة القدم، وكثير من النماذج التافهة في ثقافة الترند.
فقد صاروا القدوة والمثل حين امتلكوا كل شيء… آخرهم محمد رمضان الذي يرى في نفسه دائمًا أنه نمير وإن، وهو ما عبّرت عنه طَلّته الأخيرة ببدلة الرقص، حين اختفت معالم الرجولة.
إنها لم تكن أبدًا وليدة الصدفة… هل ترك العلم منازل القمة إلى هذه النماذج الرديئة؟!
إنهم يُمَنْهجون انحدارنا وسقوطنا في كل الميادين.

لم تكن السياسة أبدًا في منأى عن العلم، ولم يستحِ جورج بوش في سياق عنصري حين وصفنا بجمهوريات الموز، ولم يذكر مطلقًا من الذي صنع جمهوريات الموز، وكيف كان الغرب يقف دائمًا للتأكد من أن هذه الأوطان لن تخرج مطلقًا من الإطار الذي وضعوه لها.
فهل تجعل السياسة العلم مسخًا لأنها تجرده من الموضوعية وتضع له المحددات السياسية: ما ينبغي وما لا ينبغي؟
أم تفتح له الطريق باعتراف كامل بأنه القادر على تغيير المشهد الكلي، وتغيير كل شيء للأفضل، وأنه وحده يستطيع أن يتصدى لكل العقبات والمشكلات التي تواجهنا، ويضع لها الحل، وينهض ويرتقي بالأمم ويسمو بالإنسانية، إذا ما توفرت الإمكانيات والبيئة الصحية للعلم، وصارت جامعاتنا ومراكز البحث العلمي ومعاملنا أهم من قاعات الاحتفالات وسهرات البورنو!!!
إنه طوق النجاة الأخير إذا ما توفرت الإرادة السياسية والاعتراف الكامل بالعلم والعلماء. إنها الأمنية الأخيرة.

بالعودة مرة أخرى لدرجة الأستاذية، والاستعداد ليوم سيمنار عرض رؤية التطوير، وعرض الأبحاث العلمية، ومناقشة القضايا التي رسمت ملامح أستاذيتك!!!
لم أكن مطلقًا مهتزًّا أو مترددًا، لأنك أيقنت جيدًا أن قمة علمك حين تعترف واثقًا أنك لا تعرف!!!
فالعلم الحقيقي يجعلك أكثر ثقلًا ورسوخًا واعترافًا بما لك أو عليك.
أنا لا أريد جدالًا، ولا أريد نزالًا أكون فيه منتصرًا، ولا أريد أن أرسم ملامح عبقرية أو تفرد. وعلى الجانب الآخر، أعلم جيدًا قدراتي التي أتت بي إلى هنا، وجوانب تميّزي التي أعلمها جيدًا، والتي أولها: اعترافي الكامل بمحدودية الإنسان وعلمه وقدراته، وفهمي الجيد لعناصر هذا الموقف، الذي يرحب فيه أساتذة عظام وقامات علمية راقية بذلك الوافد الجديد، ورغبتهم القوية برؤية عالم جديد رائع يستحق هذه الإجازة… إذا هدفنا واحد.
أشكركم… لنبدأ!!!

كانت البداية غير تقليدية… في فضل العلم.
فاجأهم هذا التلميذ المشاكس بمدخل مغاير لما هو مألوف!
وأطل عليهم بحوار الله مع ملائكته الذي بدأ به خلق البشرية:

“وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ”.**

سجد الملائكة للإنسان من أجل العلم، لأن الله علمه الأسماء كلها، ثم ترك له حق القرار. ستدفع ثمن اختيارك، وفي لحظة اختيار حر، دفع آدم الثمن وهبطنا جميعًا من الجنة، في مشهد يجسد العلم وحرية اتخاذ القرار والثمن.

وفي سياق آخر: “قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ”.

القدرة والتمكين كانت دائمًا لأهل العلم… العلم والتسليم!
والعلم كان جائزة الله: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ”.
فلا يشغلك ظاهر الأمر إذا ما حباك الله بأثمن ما فيه.

وأراد الله أن يهذّب أرباب العلم من غرور المعرفة، فوضع فوق كل ذي علمٍ عليم.
وكلنا نعرف قصة الخضر مع النبي موسى، حينما أعجزه بعلم فوقي كان يحتاج فقط إلى التسليم والاعتراف بالضعف:
*“فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا”**.

سيعطيك العلم كل شيء، ولكنك ستدفع ثمن كل شيء.
سيعلو بك حين تخفض جناحك وتُسلم، وسيهوي بك حين تغتر إلى أسفل سافلين.

كانت هذه إطلالتي الأولى… لنبدأ المناقشة!!!

كان الحوار جميلًا رائعًا من أساتذة عظام، استشعرت دفئًا أسريًّا ألهمني طلاقة في القلب واللسان، بين قامات علمية أكن لها كل تقدير واعتزاز.
كانت جائزتي الكبرى في ذلك اليوم… نظرات الرضا وابتسامات الامتنان، وهمسات التقدير المتبادل، ومصافحة باليد قوية، تُنبئ الأكفّ فيها بما لم ينطق به اللسان.
أما الكلمات، فكم كانت رائعة، سأحتفظ بها لنفسي… لحاجة في نفس يعقوب.
ولكنها كانت راقية، جميلة، قوية، أحاطتني بالمسؤولية:

أنت اليوم تخرج للعالم حاملًا أمانتك، رهين اختيارك، أسير رسالتك.
أنت لا تملك أن تتنازل أو تضعف أو تقول باطلًا.
لست حرًّا، وكل شيء صار محسوبًا عليك.
ستعاني كثيرًا حين تدور في حرم الحق.
أنت لا ينبغي أن تقدّم دعمًا لباطل، ولا تمجد فاسدًا، ولا تقول إلا ما يرضاه ضميرك.
أنت لم تعد لك رفاهية الأعراض والإقبال… ولكن كل شيء بقدر.
قد يكون هذا الشعور صعبًا… ولكنه اختيارك.

كيف تبدو للناس لم تعد القضية.
فقد قبلت الأمانة، فلا تخنها.
“إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”.
تلك رسالتك…
وأمامك إرادة الخير والشر.
ولا تنس مطلقًا إقرارك الذي أتيت به في هذا السياق!!!

فبشارة الله… فيما قاله:
ذلك الذي عنده علم من الكتاب.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى