رأى

مقال الدكتورة «شكرية المراكشي» حول «القرصنة البيولوجية»

بقلم: د.شكرية المراكشي

الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية

في مقال سابق كتبته عن التيف، لمحت بشكل عابر إلى أهمية الحفاظ على مواردنا الوراثية وكيف يمكن أن تكون هذه الثروات الطبيعية مفتاحاً للتنمية الاقتصادية المستدامة. واليوم، أعود لأتحدث عن هذا الموضوع بمزيد من التفصيل، بدافع من حوار مثير أجراه استاذنا الفاضل الدكتور إسماعيل عبد الجليل في برنامج “ملفات ساخنة” على تلفزيون الكويت. الحوار سلط الضوء على قضية القرصنة البيولوجية، وهو ملف ساخن فعلاً في العالم العربي، حيث نعاني من استغلال غير عادل لمواردنا الوراثية من قبل شركات ودول أجنبية.

تابعونا على قناة الفلاح اليوم

تابعونا على صفحة الفلاح اليوم على فيس بوك

هذه القضية تستحق الاهتمام لأنها تتعلق بثروات طبيعية هائلة تسهم في تعزيز اقتصادنا وتحقيق التنمية المستدامة. للأسف، نحن في العالم العربي نعاني من تقصير كبير في الحفاظ على هذه الموارد واستثمارها بالشكل الصحيح. في هذا المقال، سأناقش كيف تحدث القرصنة البيولوجية، وأمثلة على ذلك، وأسباب أخرى مثل الحروب والاعتداءات على الأراضي والاستعمار، بالإضافة إلى الحلول الممكنة للحفاظ على هذه الثروات واستثمارها بشكل فعال.

القرصنة البيولوجية والتحديات الاقتصادية في العالم العربي

في السنوات الأخيرة، أصبحت القرصنة البيولوجية قضية ملحة تتطلب اهتماماً فورياً من الدول العربية. يشير هذا المصطلح إلى استيلاء غير قانوني على الموارد الوراثية والمعرفة التقليدية المرتبطة بها، غالباً من قبل الشركات أو الدول الأجنبية، دون تعويض عادل للمجتمعات المحلية التي تملك هذه الموارد. وعلى الرغم من أهمية هذه القضية، فإن العرب ما زالوا يعانون من تقصير كبير في الحفاظ على مواردهم الوراثية واستثمارها بالشكل الصحيح.

الموارد الوراثية: ثروة مهدرة

الدول العربية تزخر بموارد وراثية غنية ومتنوعة، سواء كانت نباتات طبية أو محاصيل زراعية تقليدية أو حتى سلالات حيوانية مميزة. هذه الموارد يمكن أن تكون أساساً لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة إذا تم استثمارها بالشكل الصحيح. للأسف، نفتقر إلى التقييم الاقتصادي الصحيح لهذه الثروات، ونفشل في تحويلها إلى منتجات وخدمات ذات قيمة مضافة.

التقصير في حماية الموارد

جزء كبير من المشكلة يكمن في غياب السياسات الفعالة لحماية هذه الموارد من الاستغلال. قوانين حماية الملكية الفكرية في العديد من الدول العربية ضعيفة أو غير مطبقة بشكل فعال، مما يسهل على القراصنة البيولوجيين استغلال هذه الثروات دون مواجهة عقوبات رادعة. يجب أن نركز على تطوير أطر قانونية قوية وتفعيلها لحماية مواردنا الوراثية.

القرصنة البيولوجية: كيف تتم؟

القرصنة البيولوجية تتم بعدة طرق، منها:

استيلاء الشركات على النباتات الطبية: تقوم شركات الأدوية العالمية بجمع نباتات طبية من البيئات الطبيعية في الدول العربية دون الحصول على موافقة أو تعويض المجتمعات المحلية. يتم بعد ذلك تطوير هذه النباتات إلى أدوية وعلاجات تُباع بأسعار مرتفعة.

تسجيل براءات اختراع غير عادلة: تسجل الشركات براءات اختراع لأنواع نباتية أو تقنيات زراعية تقليدية كانت تُستخدم في المجتمعات المحلية منذ قرون. هذا يمنع تلك المجتمعات من الاستمرار في استخدام مواردها التقليدية أو يجبرها على دفع رسوم لاستخدامها.

  3ـ استغلال المعرفة التقليدية: تُستخدم المعرفة التقليدية حول استخدامات النباتات أو الموارد الطبيعية دون تعويض لأصحاب هذه المعرفة. على سبيل المثال، تُستغل المعرفة التقليدية في إنتاج مستحضرات التجميل أو المكملات الغذائية.

أمثلة على القرصنة البيولوجية

– القرفة في سلطنة عمان: تُستخدم منذ قرون في الطب التقليدي المحلي. تم تسجيل براءة اختراع لاستغلال خصائصها الطبية دون تعويض للمجتمعات العمانية.

– الكمأة الصحراوية في شمال إفريقيا: تُجمع من قبل شركات دون إذن أو تعويض، وتُباع بأسعار باهظة في الأسواق العالمية.

– الزعفران في إيران: يُعتبر من أغلى التوابل في العالم، وقد تم تسجيل براءات اختراع على استخداماته التقليدية في منتجات تجارية دون أي فوائد للمزارعين المحليين.

تأثير الحروب والاعتداءات والاستعمار

الحروب والصراعات المسلحة تعد من أبرز الأسباب التي ساهمت في ضعف القدرة على حماية واستثمار الموارد الوراثية في العالم العربي. النزاعات تسببت في تدمير الكثير من البيئات الطبيعية، وفقدان العديد من الأنواع النباتية والحيوانية. كما أن الاحتلال والاستعمار قد استنزفوا الكثير من هذه الموارد ونقلوها إلى الدول المستعمِرة دون أي تعويض.

على سبيل المثال:

– الاستعمار البريطاني في الهند: استغل البريطانيون العديد من النباتات الطبية الهندية ونقلوها إلى أوروبا لاستخدامها في صناعة الأدوية.

– الحرب في اليمن: أدت إلى تدمير واسع للبيئة، وفقدان العديد من النباتات الطبية النادرة.

– الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين: أدى إلى الاستيلاء على العديد من الموارد الزراعية والاستفادة منها لصالح المستوطنات الإسرائيلية.

الفقر في الاستثمار والعقلية الاتكالية

نحن في العالم العربي نعاني من عقلية اتكالية تجعلنا نميل إلى طلب المساعدة من الخارج بدلاً من الاعتماد على مواردنا الداخلية. هذا الفقر في الاستثمار يظهر جلياً في نقص البحوث والتطوير في المجالات العلمية المرتبطة بالموارد الوراثية. الجامعات ومراكز الأبحاث بحاجة إلى تمويل ودعم لتكون قادرة على الابتكار وتطوير منتجات جديدة تستفيد من هذه الموارد.

الحلول الممكنة للحفاظ على الموارد الوراثية

للحفاظ على الموارد الوراثية واستثمارها بشكل فعال، يجب اتخاذ خطوات شاملة تتضمن:

تعزيز الإطار القانوني: يجب تطوير وتطبيق قوانين صارمة لحماية الموارد الوراثية والمعرفة التقليدية. يشمل ذلك تسجيل براءات الاختراع بشكل عادل ومنصف، وضمان حقوق المجتمعات المحلية.

الاستثمار في البحث والتطوير: ينبغي تخصيص موارد مالية أكبر للجامعات ومراكز الأبحاث لدعم البحوث المتعلقة بالموارد الوراثية وتطوير تقنيات جديدة لاستغلالها.

التعاون الدولي: يمكن التعاون مع المنظمات الدولية للحصول على الدعم الفني والتكنولوجي لتطوير سياسات حماية واستثمار الموارد الوراثية.

التعليم والتوعية: زيادة الوعي بأهمية الموارد الوراثية وقيمتها الاقتصادية بين المجتمعات المحلية وصناع القرار. التعليم يلعب دوراً حاسماً في تغيير العقلية الاتكالية وبناء القدرات المحلية.

تطوير الزراعة المستدامة: تشجيع الممارسات الزراعية المستدامة التي تحافظ على التنوع البيولوجي وتضمن استخدام الموارد الوراثية بشكل مستدام.

تعزيز الاقتصاد المحلي: إنشاء صناعات محلية تستفيد من الموارد الوراثية، مثل الصناعات الدوائية والتجميلية، وذلك لتعزيز القيمة المضافة للمنتجات المحلية.

البنوك الجينية

أحد الحلول الفعالة هو إنشاء بنوك جينية وطنية وإقليمية للحفاظ على الموارد الوراثية. هذه البنوك يمكن أن تحتفظ بعينات من النباتات والحيوانات النادرة والمهددة بالانقراض، وتوفر قاعدة بيانات جينية يمكن استخدامها في البحوث العلمية والتطوير الصناعي.

إنشاء اتحاد عربي جيني مستقل

يجب على الدول العربية التعاون لإنشاء اتحاد عربي جيني مستقل، يكون مسؤولاً عن تنسيق الجهود لحماية الموارد الوراثية واستثمارها بشكل مشترك. هذا الاتحاد يمكن أن يسهل تبادل المعلومات والخبرات، ويدعم المشاريع البحثية المشتركة، ويعمل على التفاوض مع الشركات العالمية لضمان حقوق الدول العربية في مواردها الوراثية.

نحو مستقبل أقوى

إذا أردنا أن نصبح أقوياء بالفعل، يجب أن نتبنى رؤية جديدة تقوم على الاستقلالية والاعتماد على الذات. يجب أن نستثمر في مواردنا البشرية والطبيعية بشكل جاد، وأن نركز على تطوير القدرات المحلية في مجالات البحث العلمي والتطوير الصناعي. هذا يتطلب تغييراً جذرياً في سياساتنا الاقتصادية والتعليمية، وتبني استراتيجيات طويلة الأمد تضمن استدامة هذه الموارد للأجيال القادمة.

في الختام، نحن في العالم العربي نملك ما يجعلنا أقوياء إذا أردنا. مواردنا الوراثية ليست مجرد كنز طبيعي، بل هي مفتاح لتحقيق التنمية الاقتصادية والازدهار. علينا أن نتوقف عن لوم الآخرين على تقصيرنا، وأن نبدأ في اتخاذ خطوات جدية لحماية واستثمار هذه الموارد بشكل فعّال ومستدام.

في ضوء ما تم استعراضه في هذا المقال، يتضح أن قضية القرصنة البيولوجية ليست مجرد مشكلة عابرة، بل هي تحدٍ وجودي يتطلب اهتماماً فورياً وجاداً من جميع الدول العربية. الموارد الوراثية التي تمتلكها بلداننا هي كنوز طبيعية يجب أن نحافظ عليها ونستثمرها بحكمة، ليس فقط لأجل التنمية الاقتصادية، بل أيضاً من أجل ضمان مستقبل مستدام لأجيالنا القادمة.

إن هذه القضية لا يمكن معالجتها بجهود فردية أو سياسات متفرقة. يجب أن نعتبرها ملفاً حيوياً يستدعي تنسيقاً وتعاوناً عربياً شاملاً. إنشاء اتحاد عربي جيني مستقل، وتطوير بنوك جينية وطنية وإقليمية، وتطبيق قوانين صارمة لحماية الموارد الوراثية، كل ذلك يجب أن يكون في صدارة أولوياتنا.

ندعو جميع الدول العربية إلى الاتحاد والعمل معاً لحماية ثرواتنا الوراثية. من خلال التعاون والتنسيق، يمكننا ليس فقط التصدي للقرصنة البيولوجية، بل أيضاً تحويل هذه الموارد إلى مصدر حقيقي للقوة والازدهار. المستقبل بين أيدينا، ونحن نملك القدرة على صناعته إذا أردنا. لنجعل من هذه القضية محور اهتمامنا ولنبدأ في اتخاذ خطوات جدية نحو تحقيق الاستقلالية والاستدامة.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى