ماذا بعد أبحاث العلماء؟ من المعرفة إلى التطبيق: آليات التنفيذ والتحديات
روابط سريعة :-
بقلم: د.شكرية المراكشي
الخبير الدولي في الزراعات البديلة ورئيس مجلس إدارة شركة مصر تونس للتنمية الزراعية
تدور الفكرة حول الفجوة بين نتائج الأبحاث العلمية وبين تنفيذها على أرض الواقع، سواء في مجالات الصحة، الزراعة، البيئة، الطاقة، أو التكنولوجيا. يناقش الموضوع كيفية تحويل الأبحاث من مجرد أوراق علمية إلى حلول عملية، والسياسات أو الأدوات التي تساهم في ذلك.
في عالم يتسارع فيه نبض التقدم وتتسابق فيه الأمم نحو الريادة، يبقى السؤال الأكبر والأكثر إلحاحًا: ماذا بعد أن تُنجز الأبحاث العلمية؟ ماذا يحدث لتلك النتائج التي بذل العلماء أعمارهم وجهودهم في اكتشافها وتحليلها؟ هل تبقى حبيسة الأوراق والمختبرات، أم تتحول إلى جسرٍ يعبر به الإنسان من عتبات المعرفة إلى فضاءات التطبيق والابتكار؟ هنا تتجلى الفجوة العميقة بين العلم والتطبيق، بين النبوغ النظري والفعالية العملية، بين أروقة الجامعات والمراكز البحثية، وواقع الشوارع والمزارع والمصانع.
إن الأبحاث ليست هدفًا في ذاتها، بل هي رحلة تبدأ بالفضول والاستقصاء، وتمتد لتصبح أدوات لتحسين حياة البشر، وحلولًا لمشاكل حقيقية تهدد مجتمعاتنا، من الأمراض المستعصية إلى التحديات البيئية، ومن الأمن الغذائي إلى الطاقة النظيفة. غير أن الأمر ليس مجرد انتقال من المعرفة إلى التطبيق، بل هو معركة معقدة تخوضها الأفكار في ساحات السياسة والاقتصاد والثقافة المؤسسية. فالعلم وحده لا يكفي، إذ لا بد من آليات متينة تُؤمن أن لا تموت الابتكارات في مهجرها، ولا يُدفن الإبداع تحت ركام البيروقراطية أو سياسات الانتقائية.
حين ينظر المرء إلى واقع الكثير من الدول النامية، يرى كمًا هائلًا من الأبحاث التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ. مشاريع وأوراق بحثية وثيقة الصلة باحتياجات المجتمع، لم تُترجم إلى برامج أو منتجات ملموسة، وأحيانًا لم تأخذ فرصتها في التأثير أصلاً. فالفجوة ليست تقنية أو علمية فقط، بل هي أزمة ثقة وتنسيق بين الجهات البحثية وصناع القرار، بين الأكاديميين ومشروعات التنمية، بين طموح العلماء وواقع المؤسسات.
لا يمكن فصل آليات التنفيذ عن البيئة الشاملة التي تدعم البحث العلمي: من تمويل مستدام، إلى تشريعات تحمي حقوق الملكية الفكرية، إلى دعم القطاع الخاص في استثمار الابتكارات، إلى وجود حاضنات ومراكز تقنية تسهل من عملية نقل المعرفة. كل هذه العوامل تلتقي في نقطة واحدة: الإرادة السياسية والحكومية التي تمنح البحث مكانته الحقيقية في خطة التنمية، وتُعلي من قيمة الكفاءات بدلًا من تهميشها، فتتحول المعرفة إلى قوة دافعة، لا مجرد ترف فكري.
أما التحديات فهي ليست قليلة، فهي تتراوح بين الافتقار إلى رؤية استراتيجية واضحة، مرورًا بالروتين الإداري الذي يقتل الحماس، وصولًا إلى الصراعات المؤسساتية والمصالح الشخصية التي تعرقل أي تغيير حقيقي. في هذا الواقع، قد يجد العلماء أنفسهم محاصرين بين قدراتهم ورغباتهم في التغيير، وبين نظام لا يرحب سوى بالجمود والركود. وهنا تتبدى مأساة حقيقية: هدر طاقات وطنية لا تعوض، وفقدان فرص قد تعيد ترتيب أولويات البشرية.
لكن مع كل هذا، تبقى هناك بارقة أمل. تجارب ناجحة هنا وهناك، حيث استطاعت بعض الدول والمؤسسات أن تخلق جسورًا متينة بين البحث والتطبيق. نماذج حاضنات ابتكار، وشراكات بين الجامعات والشركات، وبرامج تمويل تُحفز على التطوير والتسويق، كل ذلك يشكل خريطة طريق يمكن السير عليها، بشرط أن نؤمن بأن الاستثمار في الكفاءات والبحث هو استثمار في المستقبل.
في النهاية، يبقى السؤال: هل سنبقى مكتوفي الأيدي أمام بحور المعرفة التي لا تُبحر، وأم أمام أمل يلوح في الأفق، ينادينا لنبني عالماً حيث لا يكون العلم مجرد فكرة أو حلم، بل واقعًا يُحدث الفرق؟ وكيف يمكن لكل جهة، من عالمٍ إلى صانع قرار، أن تلعب دورها في هذه الرحلة المستمرة من المعرفة إلى التطبيق؟ هذا هو التحدي الحقيقي الذي نحتاج إلى الإجابة عليه بصدق وجرأة.
فجوة المعرفة والتطبيق.
حينما يُنجز العالِم تجربته الأخيرة، ويوثق نتائجه الدقيقة في بحثٍ رصين، ويُسدل الستار على أشهرٍ من السهر والتفكير والتجريب… يُفترض أن يبدأ المشهد الحقيقي، لا أن ينتهي. فما قيمة العلم إن لم يُحمل إلى الناس؟ وما نفع الاكتشاف إن لم يتحوّل إلى دواء، أو تقنية، أو حلّ يلامس واقع الحياة؟
في أروقة المختبرات، يولد الأمل كل يوم، لكن في دهاليز البيروقراطية، كثيرًا ما يُجهض. يطوي الباحث أوراقه منتظرًا أن تُترجم إلى سياسات أو مشاريع، غير أن الطريق بين العقل والميدان ليس معبّدًا كما يُخيّل للبعض. هناك، تتعثر الأفكار الناضجة أمام عيون لا تُجيد سوى قراءة التقارير، ولا تؤمن إلا بالمنفعة السريعة. وهناك، تتكئ الكفاءة على جدار الإقصاء، عاجزة عن الوصول إلى دائرة التأثير، لا لقصورٍ فيها، بل لأن صوتها يعلو فوق ما تسمح به ثقافة “الطاعة” و”الترضية”.
كيف وصلنا إلى لحظةٍ صار فيها العالِم غريبًا في وطنه؟ لماذا صارت الأبحاث مجرد حبرٍ على ورق، تُحتفى بها في المؤتمرات، ثم تُنسى بعد التصفيق؟ هل المشكلة في العلماء؟ أم في من لا يجرؤ على الاعتراف بأهميتهم؟ أم في غياب آليات تنفيذ حقيقية تتجاوز الوجاهة إلى الفعل؟
هذه التساؤلات لا تكتفي بتقليب الواقع، بل تفتحه على قضايا أكثر عمقًا: من يملك القرار في تحويل المعرفة إلى أداة تغيير؟ وما هي المعوقات الحقيقية التي تقف بين الاكتشاف والتنفيذ؟ وما دور المجتمعات، والمؤسسات، والدول، في إماطة الغبار عن كنوز عقولها قبل أن تُهاجر أو تنطفئ في صمت؟
بين الحلم والعلم، وبين النتائج والتطبيق، تتشكل معارك خفية لا يراها إلا من جُرِّد من فرصته، أو كُبّلت أفكاره في زمنٍ لا يحتمل التأخير. إنها ليست قضية علم فقط، بل قضية إرادة، وشجاعة، وعدالة.
الفرق بين البحث العلمي والتطبيق العملي
في عالم تتنازع فيه الأفكار والاحتياجات، ويتسابق العقل البشري نحو الاكتشاف، تتجلّى مسافتان متباينتان على خارطة التقدّم: الأولى تمتد في عقول الباحثين، حيث يُولد السؤال، وينضج الفضول، وتُنسج الفرضيات على نول من المنهجية والدقة؛ والثانية تنبض في الميدان، في المصانع والمزارع والمستشفيات والمدارس، حيث تتجسّد الأفكار في أفعال، وتتحوّل المعادلات إلى أجهزة، والمعارف إلى نفعٍ مباشر للناس. هاتان المسافتان تختصران الفرق بين البحث العلمي والتطبيق العملي؛ بين العقل المُنظِّر واليد المُنفّذة؛ بين من يستنطق المجهول ومن يُحوّله إلى واقع.
البحث العلمي هو محرّك التقدّم، اللبنة الأولى في كلّ بناء حضاري متين. فيه يتأمل الباحث الظواهر، ويغوص في دقائقها، ويركّب المعنى من الفوضى، ليصل إلى نتيجة تستحق أن تُقدَّم للعالم. هو صوت المنهج، ودقّة التجربة، ونبض الشكّ البنّاء. لكنه في نهاية الأمر، يظلُّ داخل المختبر، محكومًا بأدوات القياس، ومحاصرًا بجدران المجلات الأكاديمية، إن لم يُكمل رحلته نحو التطبيق. لا ينتقص ذلك من قيمته، بل يعيد طرح السؤال الأزلي: متى يصبح العلم نافعًا؟ ومتى يتحوّل من فرضية مُحكمة إلى أداة فعّالة تغيّر حياة البشر؟
أما التطبيق العملي، فهو المرحلة التي ينزل فيها الحلم من برجه العاجي، ليمشي في الأسواق، ويشفي في العيادات، ويُزرع في الحقول، ويُركّب في خطوط الإنتاج. هو اختبار الحقيقة في قلب الواقع، هو المجال الذي تُختبر فيه مرونة النظرية وقابليتها للحياة خارج المعمل. لكنه ليس تكرارًا أعمى للنتائج، بل تأويلٌ ذكيّ، يراعي السياق، ويعدّل المسار، ويُلبس الفكرة ثوبًا واقعيًا يناسب ظروف الأرض والزمن. هنا تبدأ رحلة أخرى من التحدّي: هل يمكن ترجمة المعقد إلى بسيط؟ هل يمكن هندسة المعلومة لتصبح منتجًا؟ هل تقدر البيروقراطية أن تتعايش مع سرعة التغيير؟
الفرق بين البحث والتطبيق ليس مجرد فاصلة زمنية، بل فجوة ثقافية ومؤسسية، تتطلّب من المجتمع كله أن يُعيد النظر في تعامله مع المعرفة. لا يكفي أن نُشيد بالمقالات المنشورة، أو نحتفل بالجوائز، ما لم نجد لتلك الجهود صدى في حياتنا اليومية. ومن المأساة أن نرى علماءنا يحصدون الإشادة في المحافل، بينما تُحبس أفكارهم في الأدراج، لأن لا أحد يؤمن بها كوسيلة للتنمية، بل ينظر إليها كترف أكاديمي، أو حلم مؤجل لا وقت له الآن.
إن حلّ هذه المعادلة يتطلّب تغييرًا في البُنى الذهنية قبل البُنى المؤسساتية. علينا أن نرى في البحث العلمي ليس هدفًا قائمًا بذاته، بل خطوة أولى في رحلة نحو المستقبل. وعلينا أن نفهم في التطبيق العملي ليس فقط وسيلة للاستفادة، بل مسؤولية أخلاقية تُلزمنا بعدم هدر العقول، ولا دفن المواهب تحت ركام الإهمال. بين البحث والتطبيق لا يجب أن يكون جدار، بل جسرٌ حيّ، يعبر عليه العلم، ممتلئًا بالأمل، ليمنح للحياة طعمًا جديدًا، ومعنى أعمق، وأفقًا لا ينتهي.
لماذا تبقى كثير من الأبحاث حبيسة الأدراج او تمزق وترمى في سلة المهملات؟
لعلّ من أكثر المشاهد إيلامًا في عالم المعرفة أن ترى أفكارًا عظيمة تذبل قبل أن تنضج، وأبحاثًا مضيئة تُنسى في أدراج مغلقة، أو تُرمى كما تُرمى أوراق لا لزوم لها، لا لخللٍ فيها، بل لأن العالم حولها لم يكن مهيأً لاستقبالها أو لم يُعرها انتباهًا. مشهد مألوف في كثير من البلدان، لا سيما تلك التي تحسب التقدّم بالأبنية لا بالأفكار، وبالخطابات لا بالتحقيقات العلمية. فما أكثر ما تئن به المكتبات من رسائل جامعية لم تقرأ سوى مرة واحدة، وما أكثر ما يُكتب لا ليُغيّر، بل فقط ليُنجزويترقى ويُوضع على الرف، وكأن الغاية من البحث ليست الإضافة للحياة، بل مجرد عبور حاجز أكاديمي أو استحقاق وظيفي.
تبقى كثير من الأبحاث حبيسة الأدراج لأن البيئة التي أُنتجت فيها لا تؤمن بأهميتها ولا تملك الآليات لتبنّيها. لا توجد جسور حقيقية بين من يكتشف الفكرة ومن يستطيع تنفيذها، فالعالِم يعمل في صمت دون أن يُدعَم بخطط احتضان، والمؤسسات تنشغل بإدارتها اليومية الروتينية دون أن تُصغي لصوت الابتكار. لا مراكز لتطبيق البحث، ولا حواضن علمية قادرة على تحويل النظرية إلى منتج، بل أحيانًا يُنظر للباحث كحالم بعيد عن الواقع، أو كمثقف يعيش في برج عاجي، بدلاً من أن يُعامل كصانعٍ محتمل للغد.
ثم هناك الإهمال المؤسسي الذي لا يغفر. تهميش البحث العلمي في الخطط التنموية، وقلة التمويل، وانعدام الشراكات بين الجامعات وقطاعات الإنتاج، كلها تسهم في قتل البحث قبل أن يولد. وقد يُضاف إلى ذلك ضعف الحوافز، فكم من باحثٍ أنهكته سنواتٌ من الجهد، ثم اصطدم بواقعٍ لا يعترف بجهده، ولا يكافئ اجتهاده، بل قد يحاربه أو يسرق فكرته، أو يتركه غارقًا في أوراقه بلا أمل.
وتُرمى الأبحاث أيضًا لأن هناك فجوة في الفهم العام لقيمة البحث العلمي. المجتمع لا يتبناه، ولا يطالب به، والإعلام لا يحتفي به، والمدرسة لا تُغرس في التلميذ روح التساؤل والاكتشاف، بل تُعلّمه الحفظ والانصياع. في هذه التربة الراكدة، لا يمكن أن تنبت شجرة تطبيق. لأن الفكرة بحاجة إلى من يسقيها بالإيمان، ويمنحها مساحة في أرض الواقع، لا أن يطمرها في العزلة والنسيان.
وهناك مأساة من نوع آخر، أن يُنتج الباحثون أبحاثهم بدافع الضرورة لا بدافع الرسالة. أن يُكتب البحث لا لأنه يحمل رؤية أو يعالج مشكلة، بل لأنه مطلوب لترقية أو شهادة أو تمويل. في مثل هذا المناخ، تتحول الأوراق إلى ركام، والأفكار إلى تكرار، والتجديد إلى شعارات. وما لا ينبع من حاجة حقيقية أو روح علمية صادقة، لا يجد عادة طريقه للحياة.
إن السبب الأكبر وراء تراكم الأبحاث في العتمة، هو غياب منظومة تؤمن بأن الفكرة الجيدة لا يجب أن تموت. منظومة تتابع، وتحتضن، وتُحوّل، وتغامر. وحين لا تكون هذه المنظومة موجودة، يصبح مصير الأبحاث كمصير البذور التي تُلقى في صحراء قاحلة. وقد تكون تلك البذور من أنبل وأندر ما أنتجه عقل بشري، لكنها لن تُزهر أبدًا ما دامت تُدفن بلا رعاية، وتُهمل بلا اهتمام، وتُنسى في انتظار زمنٍ لا يأتي.
هل الهدف من البحث دائماً التطبيق، أم أحياناً يكون مجرد إنتاج معرفة وترقية؟
ليس الهدف من البحث العلمي دائمًا التطبيق، وإن كان التطبيق هو الحلم الذي تراودنا به الطموحات الكبرى. فالبحث، في جوهره العميق، فعل إنساني نبيل، ينطلق من رغبة فطرية في الفهم، في الاستكشاف، في الحفر بين طبقات الجهل للوصول إلى لبّ الحقيقة. إنه سعيٌ وراء المعرفة، ليس دائمًا لأنه يُفضي إلى اختراع أو دواء أو آلة، بل لأنه يمنح العقل اتساعًا جديدًا، ويفتح للوعي أبوابًا لم تُطرَق من قبل. فالإنسان لا يبحث فقط ليصنع، بل أحيانًا يبحث ليعرف، ليُسائل، ليُعيد ترتيب أفكاره عن الكون، وعن الحياة، وعن نفسه.
في كثير من الأحيان، يكون البحث العلمي تأملاً طويلًا في فكرة وجودية أو ظاهرة طبيعية لا تزال عصية على الفهم. تفكّر في أبحاث الفلك والفيزياء النظرية، في تلك النظريات التي تتعامل مع الأكوان المتعددة، أو الثقوب السوداء، أو طبيعة الزمن والمكان، أليس كثير منها بعيدًا تمامًا عن أي تطبيق مباشر؟ لكنها رغم ذلك ضرورية، بل ملهمة، لأنها تُحرّك حدود العقل الإنساني إلى أقصى مداه، وتذكّره بأنه لا يزال طفلًا صغيرًا في حضرة هذا الكون اللامتناهي.
ثم إنّ بعض الأبحاث تُجرى من أجل الترقية الأكاديمية، وهذا لا يُعدّ انتقاصًا بحدّ ذاته، طالما أن الباحث فيها يلتزم بالمنهجية العلمية، ويضيف ـ ولو نقطة واحدة ـ إلى بحر المعرفة. فالترقية في هذا السياق قد تكون الحافز، لكنها ليست الغاية الوحيدة. لأن باحثًا حقيقيًا، وإن بدأ بدافع شخصي أو وظيفي، فإنه لا يلبث أن يقع في أسر السؤال، ويتحوّل فضوله من وسيلة إلى غاية. ولهذا فإننا نجد أن بعض من أعظم الاكتشافات جاءت من فضول صرف، لا من حاجة عملية.
غير أن المعضلة الحقيقية لا تكمن في كون الهدف من البحث هو التطبيق أو المعرفة الخالصة، بل في تجاهل هذه الثنائية الجميلة. حين نحصر البحث في بعدٍ واحد، نُفقر العلم من روحه. فالمعرفة التي لا تطمح لأن تُفهم تُصبح ترفًا، والتطبيق الذي لا يُبنى على فهم عميق يُصبح ارتجالًا. إنّ أجمل الأبحاث تلك التي تبدأ بسؤال نظريّ ثم تُفاجئنا بنتائج تغيّر العالم، وتلك التي تبدأ بحاجة ملحّة، لكنها في الطريق تكشف لنا شيئًا غير متوقّع عن طبيعة الإنسان أو الكون.
البحث ليس قالبًا جامدًا، بل نهرٌ يسري بين العقل والقلب والواقع والحلم. أحيانًا يُثمر دواءً، وأحيانًا يُهديك فكرة تُضيء ظلمةً داخلية. في كلّ الأحوال، هو قيمة بذاته، لأنه يجعل الإنسان أكثر وعيًا بجهله، وأكثر اتزانًا في سعيه، وأكثر تواضعًا أمام معجزة الوجود.
آليات التنفيذ الفعّالة:
حين تكتمل فكرة في عقل الباحث، وتُصاغ بعناية في سطورٍ مشحونةٍ بالدلائل والتجارب، فإنها تشبه الوليد الذي يرى النور للمرة الأولى، هشًّا، نابضًا، مفعمًا بالإمكانيات. ولكن ولادة الفكرة ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها الحقيقية. ففي عالم يزدحم فيه الفكر، لا يكفي أن نكتشف، بل يجب أن نُجسّد، أن نحمل هذا المولود إلى حيث الحياة، إلى حيث التجريب الميداني، والسياسات الواقعية، والشراكات المنتجة، والتفاعل مع الناس لا مع المعادلات فقط. وهنا تمامًا تظهر أهمية آليات التنفيذ، لا كمرحلة لاحقة، بل كنبضٍ يرافق البحث منذ لحظته الأولى، كجسر بين النظرية والممارسة، بين الفرضية والمجتمع، بين المختبر والشارع.
آليات التنفيذ ليست أدوات صماء، بل منظومة متكاملة تشبه آلة دقيقة التركيب، تحتاج إلى عقل يضبط إيقاعها، وإرادة تؤمن بقدرتها على التغيير. إنها تبدأ من الاعتراف بقيمة البحث، ثم الانتقال إلى تخطيط استراتيجي يجعل من نتائج هذا البحث جزءًا من السياسات العامة، والخطط التنموية، والبرامج الحكومية، والابتكار الصناعي. وكي يكون التنفيذ فعّالًا، لا بد أن يرافقه وعي عميق بالسياق الذي سيتنزل فيه، لأن الفكرة مهما كانت عظيمة، إن وُضعت في بيئة لا تفهمها أو لا تحتاجها، ستذبل قبل أن تنبت.
لا تُختزل آليات التنفيذ في التمويل وحده، وإن كان التمويل شريانًا لا غنى عنه، بل تشمل أيضًا الإرادة السياسية، والمناخ التشريعي، والتعاون المؤسسي، والانفتاح على القطاع الخاص، وربط الجامعات بسوق العمل، وتفعيل حاضنات الابتكار، وإتاحة منصات لتبادل المعرفة بين من يُنتجها ومن يُمكن أن يطبّقها. إنها شبكة واسعة من الفاعلين، لا تكتمل فعاليتها إلا حين يدرك كل طرف دوره فيها، ويؤديه بشغف ومسؤولية.
ومن غير الممكن الحديث عن تنفيذ فعّال دون التطرق إلى عقلانية الأولويات. فالعالم لا ينقصه الأبحاث، بل تنقصه البوصلة التي تُحدد أيها أكثر إلحاحًا، وأيها قابل للتحقق ضمن الإمكانيات المتاحة، وأيها يتطلب تحالفات عابرة للحدود. فالتنفيذ لا يعني فقط نقل الفكرة من الورق إلى الواقع، بل اختيار اللحظة المناسبة، والشكل المناسب، والمكان المناسب لهذا الانتقال.
إنّ آليات التنفيذ الفعّالة ليست مجرّد مرحلة تكميلية، بل هي روح البحث ذاته، وقيمة الجهد العلمي كلّه، وهي التي تُحوّل الحبر إلى حركة، والفكر إلى أثر، والاكتشاف إلى أمل يُعاش لا يُكتفى بقراءته.
دور الحكومات في تبني نتائج الأبحاث.
حين نتحدث عن العلاقة بين الحكومات والبحث العلمي، فنحن لا نقف عند حدّ العلاقة بين المموّل والباحث، أو بين المؤسسات الرسمية والمراكز الأكاديمية، بل نقف على عتبة علاقة أعمق، علاقة بين الرؤية والطموح، بين الاستبصار وصناعة المستقبل. فالحكومات التي تعي بحق قيمة البحث، لا تراه ترفًا فكريًا، ولا نشاطًا نخبويًا معزولًا، بل تعتبره أداة استراتيجية لترجمة طموحات الشعوب إلى واقع ملموس، ووسيلة لتجاوز الأزمات لا التكيّف معها فقط، وبوابة لمكانة دولية مرموقة لا مجرد ورقة في التقارير السنوية.
إن دور الحكومات في تبني نتائج الأبحاث يبدأ من مرحلة مبكرة جدًا، من لحظة توجيه البوصلة البحثية نحو قضايا حقيقية تستحق الفحص، نحو مشكلات مجتمعية عالقة، أو احتياجات تنموية متنامية، أو تحديات اقتصادية وبيئية وصحية تمس حياة الناس مباشرة. فالحكومة الواعية لا تترك الباحث يعمل في عزلة، بل تفتح له نوافذ الرؤية، وتقدم له أسئلتها الكبرى، وتشاركه الهمّ الوطني وتدفعه نحو الأفق الأوسع.
ثم يأتي الدور التنفيذي، حيث تكون الحكومات الجسر الذي يربط المختبر بالشارع، والمعمل بالمصنع، والجامعة بالوزارات. إنها من تملك الأدوات التشريعية والموارد المالية والهياكل الإدارية التي يمكنها تحويل فكرة في ورقة بحثية إلى مشروع وطني، أو تقنية مبتكرة إلى سياسة عامة. وحين تملك هذه الحكومات الشجاعة والرغبة في التجديد، فإنها لا تكتفي بتبني النتائج، بل تشجع على التجريب، وتحتضن الفشل كجزء من عملية التعلّم، وتعيد ضبط السياسات بناءً على ما يتكشّف من حقائق جديدة.
كما أن الحكومات تلعب دورًا محوريًا في حماية القيمة المعرفية للأبحاث، من خلال تشريعات واضحة تضمن الحقوق الفكرية، ومنصات تتيح مشاركة البيانات، ومؤسسات تراقب جودة البحث لا على أساس الكم، بل على أساس الأثر. إنها من تخلق البيئة التي تجعل من البحث العلمي نشاطًا دائمًا، لا موسميًا ولا مشروطًا بمصالح ضيقة.
الحكومات أيضًا هي من يملك قرار الاستثمار في العقول، لا فقط من خلال تمويل الأبحاث، بل من خلال بناء منظومات تعليمية تُخرّج أجيالًا قادرة على التفكير النقدي، وعلى التفاعل مع نتائج البحث لا استهلاكها فقط، وعلى تطويرها لا تكرارها. إنها من تؤسس لجيل الباحثين المستقبليين، وترفع سقف التطلعات الوطنية من الاكتفاء إلى الريادة.
لكن تبني نتائج الأبحاث ليس مجرد قرار تقني، بل هو خيار سياسي وأخلاقي، يرتبط بفلسفة الحكم ونمط التنمية الذي تؤمن به الدولة. فهناك حكومات تنظر إلى الأبحاث بعين الريبة، لأنها تكشف المستور وتزعزع الثابت، وهناك من تحتضنها لأنها تؤمن أن المستقبل لا يُمنح بل يُبنى، وأنّ بناءه يبدأ من فكرة، من فرضية، من تجربة.
في النهاية، فإنّ الحكومات التي تتبنى نتائج الأبحاث ليست فقط تلك التي تموّل وتنفّذ، بل التي تُؤمن، تؤمن بأن كل سطر في ورقة علمية يمكن أن يكون شرارة تغيير، وبأن كل مختبر هو مصنعٌ لأمل جديد، وأن العلم ليس رفاهية ولا أداة زينة سياسية، بل هو الخيط الرفيع الذي يُمسك به من يريد النجاة في عالم سريع، لا ينتظر من لا يفهم قيمة المعرفة.
مساهمة القطاع الخاص والشراكات مع المؤسسات العلمية.
في المشهد المعقّد والمتسارع للعصر الحديث، لم يعد من الممكن تصور البحث العلمي بوصفه كيانًا منغلقًا داخل أسوار الجامعات والمراكز الأكاديمية، ولا الابتكار محصورًا في أروقة المعامل الحكومية، بل أصبح من الضروري أن ينفتح هذا الجهد المعرفي على شركاء جدد، أكثر ديناميكية، أكثر مرونة، وأكثر ارتباطًا بالواقع الاقتصادي والاحتياجات السوقية. وهنا تبرز مساهمة القطاع الخاص، لا باعتباره جهة داعمة فحسب، بل شريكًا محوريًا في صياغة الأجندة البحثية وتنفيذها واستثمارها.
القطاع الخاص، حين يتحرر من النظرة الضيقة التي ترى في البحث مجرد تكلفة أو رفاهية، يدرك أنه يمتلك القدرة على تحويل نتائج الأبحاث إلى منتجات، والأفكار إلى حلول، والتقنيات إلى خدمات تدخل كل بيت وكل مصنع وكل حقل. إنه يرى في الابتكار محركًا للتنافسية، وفي التعاون مع المؤسسات العلمية فرصة لتقليل المخاطر، وتسريع التطوير، ومواكبة الاتجاهات العالمية. فالاستثمار في المعرفة ليس مغامرة مجهولة، بل استراتيجية ذكية لتأمين المستقبل.
وحين تتشكّل شراكات حقيقية بين القطاع الخاص والجامعات أو مراكز البحث، فإننا نشهد تحولات عميقة في منطق العمل ذاته. فبدل أن يكون الباحث معزولًا في عالمه، يصبح جزءًا من شبكة تفاعلية تربط بين النظرية والتطبيق، وبين الحاجة والسؤال، وبين السوق والمختبر. وتتحول المشاريع البحثية من أفكار عائمة إلى مشروعات واضحة الأهداف، دقيقة التوقيت، قابلة للقياس والتطوير، وأكثر قابلية للنقل إلى أرض الواقع.
الشراكات الذكية لا تقتصر على التمويل فقط، بل تشمل توفير البيانات، وفتح خطوط الإنتاج للاختبار، وتقديم خبرات السوق، والمشاركة في وضع أولويات البحث، بل وحتى في تدريب الباحثين ليكونوا أكثر فهمًا للواقع الصناعي والتجاري. وهنا يحدث التكامل البنّاء: فالعالم يتعلّم من السوق، والمصنع يسترشد بالعلم، وتصبح المخرجات العلمية أقرب إلى متطلبات الناس، وأقل انعزالًا عن إيقاع الحياة اليومية.
في المقابل، تستفيد المؤسسات العلمية من هذه الشراكات عبر توسيع آفاق تطبيق نتائجها، والخروج من دائرة الأبحاث النظرية المحدودة الأثر، والدخول في عالم التطوير المستمر، حيث تصبح كل تجربة في السوق مصدر تغذية راجعة للمختبر، وكل منتج جديد قصة تروى عن التعاون بين العقل العلمي والرؤية الاقتصادية.
غير أن هذه الشراكات لا تزدهر في الفراغ، بل تحتاج إلى بيئة تشريعية مرنة، وثقافة مؤسسية تشجع على الانفتاح، ونماذج أعمال تشاركية توزّع الفوائد والمخاطر بعدالة. كما تتطلب ثقة متبادلة، وإيمانًا بأن المعرفة ليست حكرًا على جهة، بل مسؤولية جماعية لبناء المستقبل.
إن مساهمة القطاع الخاص في البحث العلمي ليست مجرد دعم مادي، بل هي إعلان بأن التنمية لا تتحقق إلا إذا امتزجت العقول الطموحة بالأيدي القادرة، وإذا أفسحت الأسواق مكانًا للأفكار، وإذا أدركنا أن زمن التوازي قد انتهى، وأن ما نحتاجه هو التداخل العميق بين من يبتكر ومن ينفذ، بين من يحلم ومن يبني.
دور التمويل وتسهيل براءات الاختراع.
في قلب كل فكرة علمية واعدة، هناك بذرة تنتظر التربة الخصبة لتُزهر. وهذه التربة، في عالم البحث والتطوير، تُروى بالتمويل، وتُحمى ببراءات الاختراع. إن تمويل الأبحاث ليس ترفًا ولا رفاهية، بل هو الأكسجين الذي تتنفسه الأفكار، والسلم الذي تتسلقه الاكتشافات حتى تبلغ النضج. فكم من نظرية ذكية خنقها الفقر، وكم من مشروع بحثي طموح تلاشى لأن الطريق إليه كان مفروشًا بالأرقام الحمراء والقيود المحاسبية القاتلة.
حين تتوفر آليات تمويل فعّالة، تتغيّر ملامح المشهد العلمي بأكمله. يصبح الباحث أكثر جرأة في طرح الأسئلة الكبرى، وأكثر قدرة على استقطاب فرق متعددة التخصصات، وأكثر تحررًا من القلق الوجودي حول استدامة مشروعه. التمويل الجيد لا يشتري الأفكار، بل يتيح لها أن تُختبر وتتبلور وتنضج، وأن تجد طريقها إلى أرض الواقع دون أن تُشوّه أو تُبتَر بسبب قلة الموارد. بل هو الذي يسمح بتكرار التجربة، وتحليل البيانات، وتوسيع النطاق، والتعامل مع المفاجآت، وهي جوهر العلم الحقيقي.
لكن التمويل وحده لا يكفي. لأن الفكرة العلمية، بعد أن تُروى وتنمو، تحتاج إلى مظلة قانونية تحميها من الرياح العاتية، وتحفظ ثمارها من أن تُقطف قبل أوانها أو تُسرق من بين يدي صاحبها. وهنا تبرز أهمية براءات الاختراع لا كإجراء بيروقراطي، بل كأداة استراتيجية لضمان حقوق المخترع، وتشجيعه على البوح بما لديه دون خوف، وتحفيز بيئة الابتكار على التنافس الشريف والتطوير المستدام.
براءة الاختراع ليست قيدًا على المعرفة، بل عقدًا ذكيًا بين المجتمع والعالِم: أنت تمنحنا اكتشافك، ونحن نمنحك حق الحماية المؤقتة، لنضمن لك ثمرة جهدك، ولنضمن لنا أن يتداول العالم المعرفة في نهاية المطاف. إنها تشبه الخزانة التي يُحفظ فيها الذهب، لكن أبوابها تُفتح في الوقت المناسب لخدمة الجميع. ومن دونها، تصبح الساحة البحثية مرتعًا للسطو أو التشكيك أو الإحباط، فينهار الحافز، وتذبل روح المبادرة.
لكن الواقع – وللأسف – يعج بتحديات في هذا السياق. فكم من باحث أُنهك في سبيل الحصول على تمويل، وكم من مبتكر تاه في دهاليز القوانين واللوائح للحصول على براءة، وكم من فكرة واعدة ضاعت لأنها وُلدت في بيئة لا تؤمن أن المعرفة ثروة قابلة للاستثمار.
ولذلك، فإن بناء منظومة علمية متكاملة يتطلب استراتيجيات تمويل مرنة، متعددة المصادر، تستوعب تنوع الحقول والمراحل. كما يتطلب إصلاح البنى القانونية لتسهيل تسجيل براءات الاختراع محليًا ودوليًا، وتوفير دعم قانوني وتقني للمخترعين الشباب، وتشجيع القطاعين العام والخاص على الاستثمار في حماية المعرفة لا سرقتها أو تهميشها.
إن أي نظام يريد أن ينتقل من مجرد استهلاك المعرفة إلى إنتاجها، ومن المراوحة في مكانه إلى صناعة المستقبل، لا بد أن يجعل من التمويل الذكي وحماية الابتكار ركنين أساسيين في بنيته العلمية. فهما معًا، مثل جناحي الطائر، لا يطير العلم إلى آفاقه الكبرى دونهما.
الحاضنات التكنولوجية ومراكز نقل التكنولوجيا.
في الزوايا المضيئة من العالم التي آمنت بقوة المعرفة وفعالية الابتكار، وُلدت الحاضنات التكنولوجية ومراكز نقل التكنولوجيا كجسور عبورٍ بين خيال العلماء وواقع السوق، بين دفاتر المختبرات واحتياجات المجتمعات، بين الفكرة الخام والمنتج الناضج. لم تعد الجامعات والمراكز البحثية تكتفي بإنجازاتها النظرية، بل راحت تبحث عن أدواتٍ عملية لتحرير نتائج الأبحاث من قيود الرفوف المغبرة، ومنحها أجنحة لتحلق في فضاءات الصناعة والتنمية.
الحاضنات التكنولوجية هي بمثابة البيوت الأولى التي تستقبل الأفكار الوليدة، ترعاها، تحميها، تمدّها بالبيئة الحاضنة التي تدمج بين المعرفة العلمية والإدارة الذكية، بين الدعم التقني والإرشاد المالي، وبين شبكة العلاقات والفرص الاستثمارية. هي تلك المساحات التي تفهم أن الابتكار لا ينمو في فراغ، بل يحتاج إلى بيئة تراعي هشاشته في بدايته، وتواكب تطوره، وتتحمل مجازفاته. إنها تنقل الباحث من مرحلة الفرضية إلى مرحلة النموذج الأولي، ومن الطموح النظري إلى خطة العمل الواقعي، وتضعه وجهًا لوجه مع الأسئلة الكبرى للسوق: من المستفيد؟ من الممول؟ كيف نُنتج؟ كيف نُسوق؟ ومتى نبدأ؟
أما مراكز نقل التكنولوجيا، فهي الذاكرة الحية بين البحث والتطبيق، والذراع الاستراتيجي الذي يترجم الإنجازات العلمية إلى لغة قابلة للتنفيذ. هي التي تُقيّم الفكرة العلمية، وتختبر جدواها السوقية، وتسعى إلى تحويلها إلى براءة اختراع، ثم إلى منتج، ثم إلى مشروع، ثم إلى صناعة قائمة بذاتها. وتكمن قوتها في امتلاكها لخبراتٍ مزدوجة: فهم دقيق للغة الأكاديميا، وإلمام عميق بلغة السوق والمستثمرين. إنها تُدير الحوارات بين المختبرات والمصانع، وتبني الثقة بين الباحث ورجل الأعمال، وتضمن أن لا تُهدر الأفكار الجادة في فجوة الترجمة بين المفهوم العلمي والطلب الصناعي.
ما يجعل هذه المؤسسات حاسمة في معركة التنمية هو إدراكها أن الابتكار ليس فقط لحظة إلهام، بل منظومة متكاملة من الحلقات المتشابكة، تحتاج إلى من يرعاها دون أن يُفسدها، ومن يقودها دون أن يُصادرها، ومن يحميها دون أن يُعزلها. فكم من فكرة عبقرية طُمست لأنها لم تجد من يُؤمن بها في مهدها، وكم من بحث تحوّل إلى ثورة صناعية لأنه وجد حضنًا تكنولوجيًا آمَن بإمكاناته، وصبر على تقلباته.
في العالم العربي، تظل هذه الحاضنات ومراكز النقل بمثابة المفاتيح المفقودة. فبين الأبحاث التي تُنشر وتُنسى، والمشاريع الريادية التي تنهار في مهدها، تظهر الحاجة الملحة لبنية تحتية علمية-صناعية تحتضن وتُفعّل. ليست المشكلة في نقص العقول، بل في نقص الترجمة المؤسسية التي تأخذ هذه العقول بيدها إلى حيث تتحقق الفائدة المرجوة. نحن لا نفتقر إلى أفكار، بل نفتقر إلى مسارات ومساحات حرة تسمح للأفكار بأن تُختبر وتُخفق وتُعيد المحاولة دون أن تُحاسب كأنها جريمة.
الحاضنات ومراكز النقل ليست كماليات تنموية، بل ضرورة وجودية في عصر تقوده التكنولوجيا ولا ينتظر المترددين. هي الخط الفاصل بين الاكتفاء بالتنظير، وبين القدرة على بناء اقتصادات معرفية حقيقية، تنمو فيها الدول لا لأن لديها موارد طبيعية فقط، بل لأنها تنتج القيمة المضافة من المعرفة، وتُصدّر الذكاء قبل أن تُصدّر المواد الخام.
عوائق التنفيذ:
غياب الإرادة السياسية في كثير من الحالات، لا يكون هناك اهتمام فعلي بالاستفادة من الكفاءات العلمية والفكرية. تُرفع شعارات دعم البحث والتطوير، لكن الواقع يقول إن مراكز اتخاذ القرار تفضل الولاء على الكفاءة.
في كثير من الدول، لا سيما تلك التي ما تزال تتخبط بين شعارات التقدم وواقع التراجع، تتجلى المفارقة العجيبة: نملك العقول ولا نحترمها، نُنشد التنمية ولا نُفسح للطليعة المثقفة أن تتصدر، نُغني للعلم ونُقصيه عند اتخاذ القرار. فغياب الإرادة السياسية في تبني نتائج الأبحاث العلمية أو في تمكين الكفاءات الحقيقية من لعب دورها ليس مجرد خلل عابر، بل هو أحد أبرز العوائق البنيوية التي تُبقي المجتمعات في دوائر التكرار والتبعية والفشل التنموي.
غالبًا ما تتخذ السلطة السياسية موقفًا مزدوجًا من العلم والعلماء، فهي في الخطاب العلني تمجّد البحث العلمي وتَعِدُ برصد الميزانيات وتأسيس المراكز والدعم المستمر، لكن في الكواليس، تسود ثقافة الولاء على ثقافة الكفاءة، ويُقدَّم المقرَّبون، أصحاب الانتماء لا أصحاب الإنجاز، على العلماء والمفكرين. وتلك المفارقة ليست فقط إهانة للمعرفة، بل هي طعنة في خاصرة المستقبل. لأن غياب الإرادة لا يعني فقط تقاعسًا في دعم العلماء، بل يعني في جوهره تعطيلًا ممنهجًا للمجتمعات عن السير نحو الاستقلال العلمي والتقني، والإبقاء عليها في تبعية للمنتج المستورد والعقل المستورد والرؤية المستوردة.
إن القرار السياسي حين يُبنى على المجاملة أو على التوازنات الضيقة، لا على الرؤية العلمية والبيانات والتوصيات البحثية، فإنه يقود الدولة إلى تضييع الفرص التاريخية. ولعلّ أخطر ما في الأمر أن غياب هذه الإرادة لا يظهر فجأة، بل يتسلل ببطء، عبر تجاهل تقارير الباحثين، وتقزيم دور الجامعات، وتهميش المراكز العلمية، واستبدال لجان الخبراء بلجان المحاباة، إلى أن يُصبح المناخ العام طاردًا للعقل، خانقًا للإبداع، حافلًا بالإحباط.
ويكفي أن نتأمل كيف تُعامل الكفاءات الشابة، التي عادت من جامعات العالم وهي مشبعة بالرغبة في التغيير، فإذا بها تُقابل بجدران البيروقراطية، وسقوف المصالح، وبرد الاستهزاء. تُقصى من مواقع التأثير لأنها “غير مضمونة الولاء”، وتُجمد مشاريعها لأنها لا تخضع للمعادلات السياسية أو المزاج العام. في مثل هذه البيئة، لا تعيش الفكرة إلا إذا لبست قناعًا سياسيًّا، ولا يُسمح للمبادرة أن تنمو إلا إذا مرّت عبر قنوات “الرضا”، لا قنوات الجودة.
وحين نُمعن في التاريخ الحديث، نكتشف أن الأمم التي قفزت إلى مصاف الدول المتقدمة لم تفعل ذلك من فراغ، بل لأن إرادتها السياسية كانت جذرًا صلبًا في دعم العلماء وتبني طروحاتهم، حتى وإن بدت في بدايتها ضربًا من الخيال. أما نحن، فكم من مشروع واعد اغتيل في المهد؟ وكم من عقل مهاجر كان يمكن أن يكون ثروة وطنية؟ وكم من لحظة حاسمة ضاعت لأن صانع القرار لم يكن مستعدًا لسماع العالم، بل كان يبحث عمن يُجيد التصفيق؟ إن الإرادة السياسية، حين تغيب أو تُزوَّر، لا تُقصي فقط العلماء، بل تُقصي المستقبل كله.
الكفاءة تخيف الفاسدين، لأنها تفضح عجزهم وتقوّض مصالحهم
الكفاءة ليست مجرد امتلاك للمعرفة أو القدرة على الإنجاز، بل هي مرآة صادقة تعكس واقعًا قد يُزعج الكثيرين، خاصة أولئك الذين يعتاشون على الضعف المؤسسي، ويتنفسون هواء الرداءة، ويقيمون مصالحهم على أنقاض النظام والعدل والمهنية. فحين تدخل الكفاءة إلى غرفة القرار، تتوتر الملامح، وتضيق الأروقة، وتُرفع الحواجز غير المعلنة. الكفاءة تخيف الفاسدين، لأنها تضيء المساحات التي طالما تعمدوا إبقاءها معتمة، وتكشف شبكات التواطؤ التي ينسجونها بحرفية الظل، وتفضح العجز الذي طالما ألبسوه ثوب الاستقرار.
الكفاءة تفضح، لا لأنّها تسعى إلى الفضيحة، بل لأنّها تعمل بمنطق مختلف، بلغة النتائج لا المجاملات، بثقافة التقييم لا التقديس، بمفردات العلم لا الشعارات. الفاسدون، بحكم تركيبتهم النفسية والمصلحية، لا يخشون الخطأ بل يخشون من يُشير إليه، لا يخشون التراجع بل من يُطالب بالتقدم، لا يخشون الانهيار بل من يُقدّم بدائل تبني ما هدموه. في حضور الكفاءة، تسقط الأقنعة، وتتعثر شبكات المصالح، وتبدأ منظومة الفساد في فقدان توازنها.
ولهذا فإن الكفاءة لا تُقصى لأنّها ضعيفة أو غير مجدية، بل تُحارب لأنها مزعجة، مقلقة، غير قابلة للتطويع، لا تقبل التماهي مع الباطل، ولا تُقايض النزاهة بالمناصب. الفاسد لا يرتاح في بيئة تعرف معنى “المساءلة” أو تُجيد قراءة البيانات، لأنّ الحقائق عندئذٍ تتحول من كلمات باهتة إلى أرقام صارخة، ومن نصائح عامة إلى تقارير تكشف التلاعب والعبث واللامبالاة.
وفي الأنظمة التي تهيمن عليها شبكات الفساد، تصبح الكفاءة خطرًا وجوديًّا. فهي لا تُهدد فقط مواقع النفوذ، بل تهدد الأساس الذي يقوم عليه الفساد: العبث بالمعايير، تسييس التقييم، تفريغ المؤسسات من مضمونها. حين يُطرح مشروع مبني على منهجية علمية محكمة، مدعوم بالأدلة، ومسنود بخبرة حقيقية، يجد الفاسد نفسه عاريًا، مفضوحًا، أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما أن يوافق، فينقض على مكاسب غير مشروعة بناها فوق الرداءة، أو أن يرفض، فيُظهر جهله أو أنانيته أو فساده.
وهنا تبدأ الحرب الصامتة: تُقصى الكفاءات بذريعة “عدم الانسجام”، يُبطَّأ تنفيذ أفكارها بحجج لوجستية، تُقزّم إنجازاتها، تُسلَّط عليها لجان شكلية للتشكيك، وتُحرَّف نواياها. كل ذلك لأنّ الكفاءة، في نظر الفاسد، ليست عنصر بناء، بل خطر يجب عزله، أو في أضعف الإيمان، تدجينه وتحييده.
لكنّ الكفاءة لا تموت، حتى وإن هُمشت. تظلّ تُقلق، تُلهم، وتنتظر اللحظة التي تُتاح فيها للمجتمعات أن تنهض من سُباتها، وتُدرك أن لا نهضة بلا علم، ولا علم بلا حرية، ولا حرية دون احترام الكفاءة وتكريس العدل.
ضعف التنسيق بين العلماء وصانعي القرار. .
إن المسافة بين مكاتب العلماء وغرف صناع القرار كثيرًا ما تكون أوسع من أن تُجسر، ليس لأنها طويلة بمعناها الجغرافي، بل لأنها ممتلئة بالضباب وسوء الفهم وتضارب الأولويات. في هذا الفراغ الرمادي يتعطل الحوار، وتتوه الأفكار، وتُبتر المبادرات قبل أن تولد. العلماء يتحدثون بلغة الدليل والمنهج، يزنون الكلمات بمعايير الصرامة العلمية، ويبحثون في الأسباب والنتائج بمنطق التجريب والاختبار. أما صانع القرار، فهو غالبًا أسير حسابات اللحظة، مدفوع باعتبارات السياسة وتوازنات المصالح وتوقيتات الانتخابات أو إملاءات الجهات المانحة. هنا، يتصادم العالِم الذي يُفكر في مستقبل الأجيال، بصانع القرار الذي يُفكر في دورة ميزانية أو جولة انتخابية.
ضعف التنسيق بين الطرفين ليس مجرد خلل إداري أو قصور في التواصل، بل هو عَرَض لثقافة مؤسسية لا ترى في البحث العلمي ضرورة، بل ترفًا فكريًا لا يُؤتي أكله إلا بعد حين، إن أتى أصلًا. يُنظر إلى العلماء كمن يعيشون في أبراج عاجية، غارقين في التنظير، بعيدين عن هموم الناس وإكراهات الميدان. بينما يرى العلماء أن صانعي القرار يفتقرون إلى الرؤية بعيدة المدى، ويتخذون قرارات ارتجالية تُناقض ما أثبته العلم والبحث والتجربة. وفي ظل هذا التباعد، تتساقط الكثير من الإنجازات البحثية، وتُهدر ثروات فكرية كان يمكن أن تصنع الفارق في ملفات الصحة والبيئة والزراعة والطاقة وغيرها.
التنسيق لا يعني بالضرورة أن يتحول العالم إلى موظف في خدمة الحكومة، ولا أن يُمسك السياسي بمشرط النقد العلمي. بل يعني إقامة جسور من التفاهم، إنشاء قنوات مؤسسية تتوسط بين الطرفين، لجان مشتركة، هيئات مستقلة، وحدات للترجمة الفعلية بين لغة العلم ولغة القرار. يجب أن تتعلّم الحكومات كيف تُصغي للعلم، لا عندما تُحاصرها الكوارث فحسب، بل كجزء من نمط تفكيرها. ويجب أن يُدرّب العلماء على مهارات التأثير في السياسات، وفهم آليات اتخاذ القرار، والتواصل الفعّال مع الرأي العام.
إن تذليل هذا الحاجز هو شرط أساسي للانتقال من إنتاج المعرفة إلى استخدامها، ومن التنظير إلى الفعل، ومن الاكتشاف إلى التغيير. لأن كل ابتكار غير مُفعل، وكل بحث غير مُعتمد، وكل نظرية غير مطبقة، هو فرصة ضائعة، وخسارة مضاعفة في زمن لا يحتمل المزيد من التلكؤ.
عدم توافق الأبحاث مع احتياجات المجتمع أو السوق. .
في قلب كل مجتمع نابض بالحياة، تظل الحاجة إلى البحث العلمي ليست ترفاً فكرياً ولا تراكماً معرفياً خالصاً، بل ضرورة وجودية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بأولويات الناس ومشاكلهم اليومية وتحدياتهم الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك، كم من بحث علمي صيغ بحبرٍ أكاديمي ثقيل، وولد في بيئة معزولة عن نبض الشارع وعن أسئلة السوق ومتطلبات التنمية؟ وكم من مشاريع بحثية أنفقت فيها ميزانيات ضخمة، لكنها خرجت إلى الوجود كأنها تحمل هموماً تخص كوكباً آخر، لا مجتمعات تتلوى تحت وطأة الحاجة والتغيير المتسارع؟ إن هذا الخلل في التوجيه، أو لنقل بعبارة أدق: هذا الطلاق الصامت بين أجندة الباحثين واحتياجات المجتمع، هو أحد أعقد العوائق في مسار تفعيل الأبحاث وتحويلها إلى حلول واقعية.
إن عدم توافق الأبحاث مع حاجات المجتمع لا يعود دوماً إلى جهل الباحث أو استعلائه، بل كثيراً ما يكون نتاجاً لمنظومة تعليمية وبحثية لا تُحفّز الاستماع إلى الناس، ولا تدرّب العقل العلمي على النزول إلى الحقول والمصانع والمستشفيات والسوق والميدان. في الجامعات، تُقدّم الرسائل العلمية في كثير من الأحيان كواجب أكاديمي مفصول عن الواقع، يهمه أكثر أن يحقق أصالة و”فرادة” على الورق، لا أن يقدّم حلاً ملموساً أو يُحدث أثراً قابلاً للقياس. وفي غياب جسور حقيقية بين مراكز البحث وقطاعات الإنتاج، تصبح البحوث رهينة لعالمها الخاص، تتداولها النخبة الأكاديمية، لكنها لا تصل إلى صانع القرار، ولا تُلهم المستثمر، ولا تلامس حياة المواطن البسيط.
وهناك أيضاً خلل آخر، يتمثل في ضعف ثقافة استشراف المستقبل، حيث تُبنى الأبحاث على مشاكل تجاوزها الزمن، أو على تقنيات لن تجد سوقاً لها بعد أعوام قليلة، أو على معطيات لم تعد قائمة. ومع أن البحث العلمي يجب أن يحافظ على استقلاليته وأن يُسمح له بفتح آفاق جديدة، إلا أن ذلك لا يُغني عن ضرورة أن يكون موصولاً ببوصلتين: بوصلة المجتمع، وبوصلة السوق. إن التكنولوجيا لا تُصنَع في الفراغ، بل في تماس دائم مع طلبات واقعية، ومع تحديات واضحة، ومع أحلام قابلة للترجمة إلى منتجات وخدمات وسياسات.
لذلك، فإن إعادة توجيه بوصلة الأبحاث نحو أولويات المجتمع الحقيقي لا تعني تقليص دور الفكر الحر، بل تعني إحياء دوره العميق والأصيل في خدمة الإنسان حيث هو، لا حيث يُتخيل أن يكون. فالعلم الذي لا يُشفى به مريض، ولا يُنقذ به محصول، ولا يُطوّر به قطاع إنتاجي، يظل معرفة ناقصة الصدى، مُكتملة البناء، لكنها مقطوعة عن حياتها النابضة. وإن أكبر رهان على فاعلية الأبحاث لا يكمن فقط في دقتها أو أصالتها، بل في قدرتها على الإنصات العميق لاحتياجات الناس، وعلى الترجمة العملية لتلك الاحتياجات بلغة العلم والفعل.
الفساد أو الاحتكار المعرفي.
في عالم يُفترض أن تُقدَّس فيه المعرفة ويُحتفى بالعلم كضوء يهتدي به المجتمع نحو النماء والنهضة، تتسلّل خيوطٌ خفيّة من الفساد والاحتكار المعرفي فتخنق النور في مهده، وتحوّل المختبرات ومراكز البحث إلى جزرٍ منعزلة لا يطالها إلا من امتلك مفاتيح النفوذ أو دفع ثمن الانتماء إلى نخبة المصالح الضيقة. هنا لا يعود العلم حراً كما ينبغي، بل يُستأجر أو يُحتكر، وتتحول المعرفة من حقّ إنساني عام إلى سلعة تُخزّن في أدراج، ويُتحكم في مصيرها بناءً على ما يحقق بقاء مصالح بعينها لا مصلحة الأمة أو البشرية جمعاء.
الفساد في ساحة المعرفة لا يأتي فقط في هيئة سرقة أموال البحث أو التلاعب في نتائج الدراسات، بل يظهر كذلك حين يُمنح التمويل بناءً على المحسوبية لا الجدارة، أو حين يُقصى أصحاب الرأي المخالف لمجرد أنهم لا يخضعون لقواعد “اللعبة” التي تحكمها الولاءات الشخصية، أو حين يُمنع نشر أبحاث قد تزعج قوى نافذة لأنها تفضح قصوراً أو تكشف خفايا لا تُراد لها أن تُقال. وبهذا المعنى، يتحول الفساد إلى أداة للرقابة على العقل، ووسيلة للحدّ من ابتكار قد يُخلّ بتوازنات غير معلنة.
أما الاحتكار المعرفي، فهو وجه آخر أكثر خبثاً، وأكثر حداثة في مظهره، لكنه لا يقل خطورة في أثره. حين تُنتج المعرفة داخل مؤسسات كبرى، سواء حكومية أو خاصة، وتُمنع عن التداول بحجة السرّية أو حماية الملكية أو تفضيل الاحتكار التجاري، فإننا أمام جدارٍ شفاف يُقصي العقول الأخرى من المشاركة في البناء. وحين تُخزّن براءات الاختراع في خزائن الشركات لا لتُستخدم بل لتُمنع، ويُخشى من تطويرها لأنها تهدد منتجات قائمة تُدرّ أرباحاً طائلة، فإننا نكون أمام جريمة صامتة تُرتكب باسم “السوق” ضد حاجات المجتمع وضد فرص التقدم.
الاحتكار المعرفي يُبطئ دوران العجلة العلمية ويجعل من الابتكار طريقاً محفوفاً بالمحاذير، حيث لا يُسمح للجميع بالمساهمة في البناء، بل يُفرض عليهم دور المتفرّج أو المُستهلك. ويشتدّ خطره حين يُحاصر الباحثون المستقلون، وتُقيد مشاركتهم في المؤتمرات، أو يُمنعون من الوصول إلى البيانات والمختبرات، وكأنما الإبداع صار امتيازاً طبقيًّا لا حقًّا إنسانيًّا.
وفي ظل هذه المعادلات، يبقى السؤال حارقاً: ما قيمة البحث العلمي إن لم يكن مُتاحاً ومفتوحاً ونافعاً؟ ما جدوى أن تُكرّس العقول والسنوات لإنتاج معرفة لا تصل إلى من يحتاجها؟ الفساد والاحتكار لا يقتلان الأبحاث فقط، بل يقتلان الأمل في مجتمعاتٍ تعرف جيداً أن لديها ما يكفي من الطاقات لتنهض، لكنها تصطدم بجدرانٍ غير مرئية، تبنيها يد السياسة حين تتلوث، أو يد الاقتصاد حين يتوحّش، أو يد الفكر حين يُختزل في نخبوية مقيتة. المعرفة لا تزدهر في الظلال، ولا تُثمر في بيئات تقايض الحرية بالإذعان، ولا يمكن أن تقود قاطرة التقدم إذا كانت مشلولة بقيود الفساد أو مسجونة في خزائن من لا يريد للعالم أن يتغيّر.
هيمنة المحسوبية والشللية:
بدلاً من أن تُبنى المؤسسات على الجدارة، يُفتح المجال لأهل الثقة لا أهل الخبرة. يتم تهميش العلماء والمبدعين لصالح “المقربين” أو أصحاب العلاقات، حتى لو لم يمتلكوا المؤهلات.
في المجتمعات التي تتعثر فيها مشاريع النهضة وتغيب فيها القدرة على تحويل الأفكار العظيمة إلى منجزات، لا تكون المشكلة دائماً في ندرة الكفاءات أو قلة الإمكانات، بل في تفشي عقلية المحسوبية وتغوّل الشللية، حيث تُختطف المؤسسات من داخلها وتُدار لا بمعايير الجدارة، بل بمنطق الولاء والانتماء الضيق. في هذا المناخ القاتم، لا يعود المعيار الأساسي لتولي المسؤوليات هو الكفاءة أو الإبداع، بل يصبح “الانتماء إلى الدائرة”، والانصياع لأوامرها، والقدرة على الحفاظ على شبكة المصالح التي تحكم المشهد من خلف الستار.
هنا تُستبدل الكفاءات الميدانية بأسماء لامعة في المجالس المغلقة، ويُستبعد من يُفكر خارج الصندوق لأنه “لا ينسجم مع الجو العام”، وتُختزل المعايير إلى سير ذاتية مزيّفة توحي بالخبرة لكنها تخلو من الجوهر. أما أولئك الذين أمضوا أعمارهم في البحث والتطوير، فيتراجعون إلى الظل، يصارعون الإحباط، ويشهدون بألم كيف تتحول أفكارهم إلى غبار على الرفوف، لا لخلل فيها، بل لأنهم لم يكونوا جزءاً من “العصبة” المسيطرة.
المحسوبية لا تقتل الإبداع فقط، بل تخلق بيئة طاردة لأي عقلٍ حرّ، وتحوّل المؤسسات العلمية إلى واجهات زائفة، تُرفع فيها شعارات التطوير والتجديد، بينما تُدار الأمور خلف الستار بعقلية “من يضمن الولاء أكثر، لا من يقدم الحل الأفضل”. بهذه الطريقة، يصبح التقدم مجرد وهم، وتتحول المؤتمرات إلى استعراضات شكلية، تُمنح فيها الجوائز والتكريمات بناءً على الصداقات، لا الإنجازات.
الشللية كذلك تلغي التنوع داخل المنظومة العلمية أو الإدارية، فتُقصى الأصوات المخالفة، وتُحاصر الرؤى المختلفة، وتُعاد إنتاج نفس النماذج الفاشلة، لأنها ببساطة تنتمي إلى “الشلّة” ولا تهدد مصالحها. وحتى إن تم تبنّي مشروع واعد أو فكرة جديدة، فإنها تُقوّض من الداخل، لأنها لم تولد من رحم “المجموعة” المسيطرة، فتصبح الأبحاث مجرّد أوراق فاقدة للروح، ويُفرغ العمل المؤسسي من مضمونه.
أما نتائج هذا المناخ، فهي وخيمة على المجتمع بأسره: تعطيل للقدرات، هجرة للعقول، هدر للموارد، وبطء قاتل في وتيرة التقدم. فحين لا تُمنح الفرص لأصحاب الخبرة الحقيقيين، وحين يُحاصر النابهون بالشكوك والتهميش، تصبح البلاد أشبه بمختبر خامل، يفتقر للشرارة التي تشعل الابتكار وتدفع نحو التغيير.
المجتمعات التي تسير على درب النهضة، تدرك أن الجدارة لا تعرف شللاً، وأن الولاء الحقيقي لا يُقاس بالقرابة بل بالقدرة على الإنجاز. أما تلك التي ترتهن للمحسوبية، فإنها تمشي مثقلةً بأوهامها، تخدع نفسها بشعارات جوفاء، بينما تغرق أقدامها أكثر فأكثر في وحل الركود.
البيروقراطية القاتلة:
حتى لو أُعطي العلماء والمخترعون منصات لتقديم أفكارهم، فإن التعقيدات الإدارية والروتين يعرقل تنفيذ مشاريعهم. يتم إغراقهم في دوامات الموافقات والتقارير، بدل تمكينهم من العمل.
في كثير من البلدان، لا تُقاس قيمة الفكرة بقدرتها على التغيير، ولا يُحتفى بالابتكار بقدر ما يُثقل كاهله بكومة من المعوقات الورقية والتعقيدات الإدارية. هناك حيث تولد المشاريع في عقول نابغة وتُدفن في مكاتب تعجّ بالأختام والنماذج والموافقات التي لا تنتهي، تعيش البيروقراطية القاتلة في أوج مجدها، تلتهم الإبداع بأسنان من حبر وخيوط من روتين.
فحتى حين يُفسَح المجال أمام العالِم أو المبتكر لعرض مشروعه، وحين يُمنَح الأمل بأنه سيُصغى لصوته، يُفاجأ أن الطريق ليس مفروشًا بالرغبة في الإنجاز، بل بالأبواب المغلقة، والملفات التي تتنقّل بين الدرج والدرج دون نهاية، واللجان التي تُعقد لا لتقرر، بل لتُماطل، وكأن المنظومة الإدارية وُجدت لتستهلك الوقت، لا لتديره. تمرّ الفكرة من يد موظف إلى آخر، وكلٌّ يطالب بـ”خطاب رسمي”، و”موافقة مكتوبة”، و”ختم جهة مختصة”، دون أن يسأل أحدهم: هل هذا المشروع يستحق التنفيذ؟ هل سيُحدث فرقًا؟ هل هو قابل للانطلاق الآن؟ لا، لأن المهم ليس الإنجاز، بل إتمام الشكل الإجرائي، ولو مات المضمون في الطريق.
العالِم هنا لا يصبح منتجًا للمعرفة، بل رهينة للانتظار، سجينًا لأوامر لا يفهم منطقها، وعليه أن يُسخّر طاقاته الذهنية لا لحل المشكلات العلمية، بل لحل معضلات البيروقراطية، ليجمع توقيعات لا عدد لها، ويدور حول نفسه كأنه في متاهة بلا مخرج. وهذا ما يخلق ما يمكن تسميته بـ”القتل الهادئ” للأفكار، حيث لا تُرفض المشاريع مباشرة، بل تُدفن ببطء في بحر من التأجيل والتعقيد، وكأن المماطلة سياسة ممنهجة ضد أي محاولة جادة للتطوير.
بل إن البيروقراطية، في أسوأ حالاتها، لا تكتفي بالعرقلة، بل تنجح في إفراغ المشروع من روحه. إذ يُطلب من الباحث تعديل فكرته لتناسب “النموذج المعتمد”، أو يُجبر على تقديمها بلغة معينة تخضع لذوق مسؤول لا يفقه في فحواها شيئًا، فتموت الأصالة تحت وطأة الصياغات الإدارية، وتذوب الجدية في بحر من المصطلحات المجوّفة التي تخدم الإجراء لا الفكرة.
وهكذا، بدل أن تكون الدولة شريكًا في التمكين، تصبح طرفًا معرقلاً، وبدل أن تُسند الباحث، تقف خلفه بجدار من التردد والمراجعة المفرطة والاحتياط البارد. فلا عجب أن يشعر العالِم بالغربة في وطنه، وأن يبحث عن بيئة أقل ضجيجًا وأكثر احترامًا للزمن والعقل والإرادة. ولا عجب أن تُهاجر الأفكار إلى حيث تجد مسارًا نظيفًا للتنفيذ، لا أن تُقيد بقيود المكاتب وتُصفد بسلاسل الإجراءات التي لا تعترف بالعجلة، ولا تُقدّر الحلم حين يُولد في الزمن الخطأ، والمكان المليء بالملفات المغلقة.
إن البيروقراطية حين تَغلب الرؤية، تصبح الدولة خصمًا لمواطنيها، ويُصبح الابتكار جريمة تحتاج إلى “موافقة من جهة عليا”. وهنا يُفهم لماذا تتكدّس الملفات فوق الرفوف، وتذبل المشاريع قبل أن ترى النور، ويزداد الندم حين نكتشف – بعد فوات الأوان – أن ما قتل الفكرة لم يكن نقصًا في العلم، بل فائضًا في الورق.
انعدام بيئة البحث والتطبيق:
في كثير من الدول، لا توجد بنية تحتية حقيقية لاحتضان الأبحاث وتحويلها إلى منتجات أو سياسات. فلا حاضنات تكنولوجية، ولا تمويل كافٍ، ولا تشريعات تحمي حقوق المبتكرين.
في كثير من الدول، لا تزال المعرفة تُنتَج في المختبرات والجامعات كما تُقطف الثمار من الأشجار البرية: بلا أدوات جمع، بلا قنوات توزيع، وبلا اهتمام حقيقي بإعادة غرس البذور لتزهر في أماكن أخرى. فالعقول تشتعل بالأفكار، لكن الواقع لا يوفر لها سوى بيئة قاحلة، لا تسمح للأبحاث بأن تنمو وتتحول إلى واقع ملموس. هي معادلة عجيبة في ظاهرها، مأساوية في جوهرها: شعوب تملك المواهب ولا تملك البنية التي تصونها، دول تُنجب العقول ولا تعرف كيف تطلقها.
غياب البنية التحتية هنا ليس غيابًا ماديًا فقط، بل هو غياب فلسفة، غياب إيمان حقيقي بأن البحث العلمي ليس ترفًا فكريًا، بل هو الوقود الذي يشغّل الحضارة. لا حاضنات تكنولوجية فعلية تستقبل الأفكار وتُرافقها حتى تنضج، لا منظومات صناعية قادرة على تبنّي نتائج الأبحاث وتحويلها إلى منتجات تخدم السوق، ولا حتى جسور تشريعية تربط بين المختبر والمصنع، بين نظرية الورق وواقع التطبيق. وبهذا الانفصال، تصبح الأبحاث وكأنها تصرخ في الفراغ، ولا تجد من يصغي أو يتفاعل.
أما عن التمويل، فحدّث ولا حرج. ليس فقط نادرًا، بل يُمنح في كثير من الأحيان على أسس لا علاقة لها بالجدوى أو بالأثر، بل بالمحسوبية أو التوجهات الظرفية، وكأن البحث العلمي يُدار بمنطق الهبات لا بمنطق الاستثمار. كيف لعالِم أن يعمل في ظل هذا القحط المالي؟ كيف لفريق بحثي أن يطوّر منتجًا أو يبتكر حلاً دون الحد الأدنى من الأجهزة أو المواد أو حتى المرتبات؟ بل كيف تُطالب دولة بمخرجات من مختبرات خاوية، ومراكز أبحاث تفتقر حتى إلى أبسط الأدوات؟
ثم تأتي الحلقة الأخطر في هذه السلسلة المتداعية: غياب التشريعات التي تحمي حقوق المبتكرين. فالعالِم أو المخترع الذي يُنتج فكرة قد تكون كنزًا وطنيًا، لا يجد قانونًا يضمن له ملكيته، أو إطارًا يُنصفه إن سُرقت فكرته أو نُسبت لغيره. فيعيش المُبتكر في حالة من الرعب الصامت، مترددًا في مشاركة فكرته، خائفًا من أن تتحوّل إلى غنيمة في يد من يملك النفوذ لا الفكر. وهكذا تُكسر الثقة في النظام برمته، ويُدفن الابتكار حيًا.
وفي ظل هذا المناخ، تصبح الجامعة معزولة عن الصناعة، والمختبر منفصلاً عن المصنع، والعالِم يتكلّم لغة لا يفهمها صاحب القرار. وتضيع الأمة بين عقول لا تُستثمر، وبُنى لا تحتضن، ونُظم لا تُقدّر ما تملكه من كنوز كامنة. وبينما تمضي الدول المتقدمة نحو المستقبل بخطى واثقة، تظل دولنا تتعثّر في فراغها البنيوي، تائهة بين الأفكار التي لا تجد طريقًا إلى الحياة.
الصراعات الداخلية والمنافسة غير الشريفة:
في بيئة تفتقر إلى النزاهة، قد يُقصى الشخص الكفء لأنه يشكل تهديدًا للمراكز القائمة. فتبدأ حملات التهميش، أو يتم “إبعاده” في شكل ترقية شكلية، أو وضعه في موقع لا تأثير له فيه
في بيئات يغيب عنها منطق النزاهة وتغيب فيها القيم المؤسسية العادلة، تتحول المؤسسات من ساحات للعطاء والإبداع إلى ميادين خفية للصراعات الشخصية والمنافسات المسمومة. فبدل أن تُحتضن الكفاءات وتُكرم العقول المتألقة، تجد نفسها في مرمى الاستهداف، لا لشيء سوى لأنها تضيء، والضوء دومًا يفضح العتمة. هنا، لا يعود النجاح مكافأة، بل يصبح تهمة، والكفاءة ليست ميزة بل خطرًا يُراد احتواؤه أو التخلص منه.
من هذه اللحظة، تبدأ لعبة الإقصاء الناعمة، التي ترتدي أحيانًا قفازات الحرير، لكنها لا تقل قسوة عن الطعن. يتم تهميش العالِم أو المفكر أو الخبير الفذ، لا بسبب تقصيره أو سوء أدائه، بل لأنه يهدد التوازن المختل الذي يحكم المنظومة، ذلك التوازن القائم على الولاءات، لا على الكفاءات. يَحذر منه أصحاب النفوذ، لأنه يذكّر الجميع بفارق الجودة، ويعكس الفرق الجارح بين من يملك الرؤية ومن يكتفي بالتنفيذ الأعمى.
وعندما يُقرر النظام المؤسسي – أو بعض أجنحته – أن هذا الشخص قد “زاد عن الحد”، تأتي أدوات التصفية المغلّفة: ترقية شكلية لا تحمل سوى اللقب، لكنها تُقصيه عن دوائر التأثير؛ تكليف بمهمة بَراقة العنوان، لكنها خاوية الصلاحيات؛ أو إغراقه في لجان أو ملفات لا تنتهي، كمن يُكافئ الجواد الأصيل بربطه في طاحونة لا تلتفت لسرعته.
في هذه البيئات، تتحول الموهبة إلى عبء، والتميز إلى عبور محفوف بالمخاطر. يبدأ التهميش الصامت: لا يُستشار، لا يُذكر اسمه في الاجتماعات، لا يُمنح الموارد، يُهمّش بحثه، تُقلَّص صلاحياته. وربما يُطلَب منه كتابة تقارير لا تُقرأ، أو يُعهد إليه بمشاريع لا يُراد لها أن تنجح، وكأن الهدف هو إخماد صوته، لا استخدام قدراته.
وتزداد المأساة حين تكون المنافسة غير شريفة. تُستخدم الشائعات سلاحًا خفيًا، تُحرّف الحقائق، تُشكك النوايا، تُثار النزاعات المفتعلة، في محاولة لتحطيم الثقة التي بُنيت حول ذلك الشخص المتميز. وقد يجد نفسه، دون أن يدري، محاصرًا لا من خصوم صريحين، بل من زملاء تحولوا إلى خصوم تحت عباءة الابتسامة الصفراء.
إنه مناخ خانق يفرز الإحباط بدل الإنجاز، ويغذي الهجرة الصامتة للعقول: بعضهم يغادر إلى الخارج بحثًا عن بيئة تحترم عقله، وآخرون يغادرون داخليًا، فيكفّون عن المبادرة، ويلتزمون الصمت، ويعيشون داخل مؤسساتهم غرباء. وهكذا، تضيع على المجتمعات فرص لا تعوض، وتذبل براعم النهضة وهي بعد في طور التكوين، لأن الصراع لم يكن بين الأفكار، بل بين النفوس، ولأن المكان لم يعرف كيف يحترم جوهر الإنسان.
الهجرة الفكرية:
نتيجة لكل ما سبق، يهاجر الكثير من الكفاءات إلى الخارج، حيث يجدون التقدير، الدعم، والمساحة للعمل. فيصبح إنتاجهم نافعا لدول غير دولهم، وتُهدر فرصة الاستفادة منهم محليًا.
الهجرة الفكرية ليست مجرد انتقال جسدي من وطن إلى آخر، بل هي جرح نازف في ذاكرة الأوطان، نزيف صامت للعقول التي لم تجد في بيئتها ما يغذيها، فغادرت بحثًا عن فضاء يسمح لها بالتنفس. هي لحظة قرار موجعة، يتخذها العالِم أو الباحث أو المفكر حين يشعر أن طاقته تُهدر، وأن أفكاره تُصادر أو تُجمد أو تُقابل بالتجاهل والريبة، بدلاً من أن تُستثمر وتُحتضن.
إنها ليست رحلة طموح فحسب، بل كثيرًا ما تكون رحلة نجاة من واقع يُشبه السجن المعنوي. واقع تُخنق فيه المبادرات، وتُهمش فيه المواهب، وتُحاصر فيه الكفاءة بحواجز من المحسوبية، والشللية، والروتين القاتل. فيجد الإنسان نفسه غريبًا في وطنه، منفيًا بين أهله، لا لذنب ارتكبه، بل لأنه فكر بطريقة مختلفة، أو حلم بما لا يجرؤ غيره على تخيله.
الهجرة الفكرية، بهذا المعنى، هي مرآة تعكس اختلال الأولويات داخل مجتمعات اختارت أن تُكرّم الانتماء على حساب الإنجاز، وأن تدفن أحلام الأذكياء تحت أقدام من لا يجيدون إلا التكرار والجمود. ومع كل طائرة تُغادر، هناك فرصة تُهدر، وهناك حلقة تُنتزع من سلسلة التنمية الحقيقية.
وفي بلاد الغربة، لا تموت هذه العقول. بل تزدهر. يجد أصحابها ما لم يجدوه في أوطانهم: معامل مفتوحة، أنظمة بحثية محترمة، قوانين لحماية براءات الاختراع، شفافية في التقييم، وأهم من كل ذلك: بيئة تحترم العقل وتمنحه المكانة التي يستحق. فيصبح العالم الذي كان مغمورًا في بلده، مرجعًا في الخارج. تُنشر أبحاثه، يُستضاف في المؤتمرات، ويُصبح اسمه على قوائم الابتكار في الدول التي منحته ما حُرم منه في بلده الأم.
والمفارقة المؤلمة أن هذه البلدان التي احتضنته، غالبًا ما تكون هي المستفيدة من ثماره، سواء على شكل اختراعات أو حلول أو سياسات عامة مبنية على المعرفة. بينما تظل بلاده الأصلية تُعاني من غياب الكفاءات، وتُطلق الشعارات الفارغة عن أهمية العلم والبحث، دون أن تسأل نفسها: لماذا يرحل من يفترض أن يبنوا مستقبلها؟
الهجرة الفكرية إذًا ليست مجرد ظاهرة اجتماعية أو قضية فردية، بل هي عرض صارخ لخلل أعمق، لتراجع منظومة احتضان العقول. وهي نداء لا يجب أن يُسمع على أنه لحن حزين، بل كصفارة إنذار، تُنذر بخسارة لا تُعوض إن لم تُعالج الجذور: من تغييب الكفاءة، إلى الفساد، إلى ضعف الإرادة السياسية، إلى غياب مؤسسات حقيقية لاحتضان الإبداع.
إنه نزوح بلا دماء، لكنه لا يقل ألمًا عن النزوح من الحروب. لأنه حرب من نوع آخر: حرب على القيمة، على الذكاء، على المستقبل.
نماذج ناجحة لتحويل الأبحاث إلى واقع:
مثال من قطاع الطب (مثل تطوير لقاح أو علاج).
في قلب العاصفة التي اجتاحت العالم مع بدايات عام 2020، عندما تجمدت حركة المطارات، وتراجعت الحياة إلى ما يشبه الصمت المطبق، كانت العيون تترقب بصيص أمل من خلف جدران المختبرات، وكان العالم كله يراهن على العلم كطوق نجاة وحيد في وجه جائحة شرسة. وفي هذه اللحظة المفصلية، لم تكن الأبحاث مجرد أوراق تنتظر النشر الأكاديمي، بل كانت بمثابة سلاح وجودي، تتسلح به الإنسانية في سباق مع الزمن. وهنا برز أحد أعظم النماذج لتحويل البحث العلمي إلى واقع ملموس: تطوير لقاح “فايزر-بيونتك” ضد فيروس كوفيد-19.
القصة بدأت من رحم العلم الصرف، حيث كان الزوجان الألمانيان من أصل تركي، أوغور شاهين وأوزلم تورجي، يعملان لسنوات على تكنولوجيا الـ mRNA، التي لم تكن قد استخدمت من قبل في أي لقاح معتمد، لكنها كانت واعدة من حيث السرعة والدقة في إنتاج المناعة. لم يكونا يملكان مختبرًا ضخمًا أو ميزانية هائلة، بل كان رأسمالهما الحقيقي هو الإيمان بالعلم والجرأة على اختراق المجهول. وما إن تفشى الفيروس، حتى قرر شاهين أن هذه هي اللحظة التي خُلق هذا البحث من أجلها. وخلال شهور معدودة، وبفضل شراكة ذكية مع شركة فايزر العملاقة، تحوّلت الفكرة إلى منتج، والبحث إلى لقاح، وأصبح شاهين وزوجته من رموز العصر العلمي الحديث.
لكن النجاح لم يكن فقط في سرعة إنتاج اللقاح، بل في منظومة متكاملة أثبتت أن الربط بين مراكز الأبحاث والقطاع الصناعي والتشريعات المرنة يمكن أن يصنع المعجزات. لم يُعامل الباحثون كمجرد موظفين في الهامش، بل كقادة في المركز. لم تُعرقلهم البيروقراطية، ولم تُخنق طموحاتهم بأسلاك المحسوبية. بل كان هناك إيمان حقيقي بأن الاستثمار في العقل ليس ترفًا، بل ضرورة للبقاء.
وفي مثال آخر لا يقل إبهارًا، يظهر النجاح في تحويل الأبحاث الطبية إلى حلول حقيقية في علاج التهاب الكبد الوبائي “سي”، الذي كان لعقود من الزمن بمثابة حكم إعدام بطيء لملايين المرضى حول العالم. لكن شركة Gilead الأميركية، استثمرت في أبحاث مبتكرة لعالم مصري الأصل، الدكتور ريمون شكري شمّا، الذي ساهم مع فريق من الباحثين في تطوير عقار “Sovaldi”. لم يكن هذا العقار مجرد تطور طبي، بل ثورة حقيقية غيرت قواعد اللعبة، ورفعت نسبة الشفاء إلى أكثر من 95%.
لكن اللافت أن هذا الإنجاز العلمي العظيم عاد ليستكمل دورته في الوطن الأم، حيث أطلقت مصر واحدة من أنجح الحملات الصحية لعلاج مرضى فيروس C باستخدام العقار، فنجحت خلال سنوات قليلة في خفض نسب الإصابة إلى مستويات غير مسبوقة. هذا المشهد لم يكن ليحدث لولا الوعي المتأخر بأن الاستثمار في البحث، حتى لو بدأ خارج الحدود، يمكن أن يُعيد بناء ما تهالك داخلها.
هاتان الحالتان، بين لقاح أنقذ العالم من شبح الانهيار، وعقار انتشل ملايين من شقاء مزمن، هما شهادة حية على أن البحث العلمي ليس رفاهية نخبوية، بل صانع حياة حقيقي. لكن الأهم أنهما يكشفان عن وصفة النجاح: إرادة سياسية واعية، تمويل كافٍ، تشريعات ذكية، ومساحة حرية تُطلق قدرات العلماء لا تُقيدها.
في المقابل، تبقى المجتمعات التي تُدير ظهرها للعلم كمن يُطفئ مصباحه في عتمة الغابة، ويتمنى أن يصل آمنًا. أما المجتمعات التي تُراهن على عقولها، فهي التي تعرف أن مستقبلها يبدأ من قارورة اختبار في معمل، ومن فكرة مجنونة قد تُنقذ العالم.
مثال من الزراعة أو الطاقة النظيفة.
في عالم تتقاطع فيه الأزمات المناخية مع تصاعد احتياجات الغذاء والطاقة، أصبحت الابتكارات العلمية أكثر من ضرورة… إنها طوق النجاة الذي يمسك بخيوطه العقل البشري في وجه زحف التصحر، ونفاد الموارد، وتقلّب الطبيعة الجائرة. وبينما تسير بعض البلدان ببطء في مسارات البحوث المجهولة، قررت أخرى أن تمنح العلم زمام المبادرة، وأن تتعامل مع الباحثين لا كمنظّرين في أبراج عاجية، بل كمهندسي المستقبل. وفي هذا السياق، ظهرت نماذج مبهرة لتحويل الأبحاث العلمية إلى واقع ملموس، خاصة في قطاعي الزراعة والطاقة النظيفة.
في الهند، بلد المليار فم التي تحتاج إلى غذاء يومي لا يعرف التهاون، لم تكن الزراعة فقط مسألة إنتاج، بل بقاء. من هنا، برز نموذج الأرز المقاوم للفيضانات، والذي طُوّر بفضل جهود مشتركة بين المعهد الدولي لبحوث الأرز (IRRI) وعلماء هنود. هذه السلالة، المعروفة باسم “سوبر سوبر” (Sub1 rice)، تحمل جينات مقاومة للغمر، ما يمكّنها من النجاة تحت المياه لمدة أسبوعين دون أن تموت. هذا الاكتشاف لم يكن صدفة، بل نتاج سنوات من البحث في بيولوجيا النبات، والهندسة الوراثية، والتجارب الميدانية تحت ضغط الأمطار الموسمية. والنتيجة؟ ملايين الفلاحين تمكنوا من حماية محصولهم في مواجهة الكوارث المناخية، وتحسّن إنتاج الأرز في المناطق الأكثر هشاشة، بل وتقلصت نسب الفقر الغذائي في عدد من القرى الريفية.
أما في ريف كينيا، فالقصة مختلفة في الظاهر، لكنها متصلة في الجوهر. هناك، حيث الشمس لا تغيب تقريبًا، وحيث الكهرباء كانت حلمًا بعيد المنال، جاء مشروع “M-KOPA” للطاقة الشمسية، ليحوّل نتائج الأبحاث في تكنولوجيا الألواح الشمسية منخفضة التكلفة إلى حل واقعي للقرى المحرومة من البنية التحتية. التقنية لم تكن فقط في اللوح الشمسي، بل في نموذج العمل القائم على “الدفع مقابل الاستخدام” عبر الهاتف المحمول، وهو ما جعل الطاقة النظيفة في متناول الأسر الفقيرة. لم يكن الأمر مجرّد استيراد لتكنولوجيا جاهزة، بل تطويرها لتناسب السياق المحلي: طاقة شمسية تكفي لتشغيل مصابيح، وشحن هاتف، وربما في المستقبل أجهزة تبريد صغيرة تحفظ الدواء. كل ذلك بفضل الربط بين الأبحاث الهندسية، والتخطيط الاجتماعي، والتمويل الذكي.
ما يجمع هذه النماذج ليس مجرد النجاح في التطبيق، بل وجود عقلية ترى في العلم قوة عملية قابلة للتحول، متى ما وُضعت في سياق إنتاجي يخدم الإنسان. إنها شراكة حقيقية بين الباحث والمزارع، بين المهندس والمستهلك، بين صاحب الفكرة ومموّل التنفيذ. إنها اللحظة التي يصبح فيها المختبر بوابةً للحقل، والمنشور العلمي بوصلةً للسياسات.
وحين يتسع الأفق لهذه الشراكات، لا يعود الابتكار رفاهية، بل يتحول إلى نمط حياة. تصبح الزراعة الذكية والطاقة النظيفة ليسا مجرد طموحين من طموحات التنمية، بل حقائق تُمارس يوميًا، لأنها ببساطة وُلدت من رحم الواقع، وتغذت على أسئلة المجتمع، وارتوت من مياه التحديات الحقيقية.
تجربة دولة أو مؤسسة نجحت في تبني أبحاث وتحويلها إلى مشاريع وطنية.
في عالمٍ تكثر فيه الشعارات وتقل فيه النوايا الجادة، تبقى بعض الدول كالشهب النادرة في ليلٍ طويل من التردد والتقاعس. هناك حيث لا يُترك البحث العلمي وحيدًا في الأدراج الباردة، بل يُنتشل من ظلال النسيان ليُغرس في الأرض كشتلة واعدة، تُروى بالتمويل، وتُحصّن بالتشريعات، وتُقلمها يد سياسية واعية تعرف أن الأمم لا تبنى بالخطابات، بل بالمعامل. تجربة كوريا الجنوبية، على سبيل المثال، تمثّل نموذجًا عميق الدلالة في هذا السياق. فهي لم تولد عملاقة، بل خرجت من أنقاض الحرب في خمسينيات القرن الماضي وهي تُصارع الجوع، والدمار، والجهل. لكن قرارها الحاسم كان واضحًا: البحث العلمي لن يكون ترفًا فكريًا، بل محورًا محوريًا للنهضة الوطنية.
لم يكن التحول المعرفي في كوريا مجرد تراكم للمنشورات العلمية، بل سلسلة منهجية من الإجراءات المتداخلة. أنشأت الحكومة مؤسسات بحثية خاصة بقطاعات بعينها، كالطاقة، والبيئة، والتكنولوجيا الحيوية، ومنحتها استقلالًا إداريًا وتمويليًا. في عام 1966، أنشئ معهد كوريا للعلوم والتكنولوجيا (KIST) بدعم من الولايات المتحدة، لكنه سرعان ما أصبح مؤسسة وطنية بامتياز، تجسّد إرادة الدولة في الربط بين المعرفة والتنمية. ومن هذا المعهد خرجت لاحقًا نماذج صناعية مثل شركة “سامسونغ” و”هيونداي” وغيرها، التي بدأت في الاستثمار في الأبحاث التطبيقية، بل وأصبحت الآن من كبار الممولين لها.
واحدة من أبرز ثمار هذا النهج كانت ثورة كوريا في مجال الطاقة المتجددة، خصوصًا في العقدين الأخيرين. فبدلاً من الارتهان إلى النفط المستورد، ضخت كوريا استثمارات ضخمة في أبحاث الطاقة الشمسية وخلايا الوقود الهيدروجيني. لم تبق الأبحاث على الورق، بل تم تحويلها إلى مصانع إنتاج، ومحطات طاقة، ومشاريع تجارية داخل البلاد وخارجها. مشروع “مدينة سيونغنام الذكية”، على سبيل المثال، هو مزيج من البنية التحتية الذكية، والطاقة المتجددة، والمواصلات النظيفة، وكلها قائمة على ابتكارات خرجت من مراكز بحث كورية. إنها لحظة نادرة التوازن بين الحلم والتنفيذ.
نموذج آخر لا يقل دهشة يمكن أن نجده في تجربة مؤسسة “فراونهوفر” الألمانية، التي تُعد واحدة من أكبر المؤسسات البحثية التطبيقية في أوروبا. فلسفتها الجوهرية تقوم على مبدأ: “البحث من أجل الاستخدام”. الأبحاث التي تخرج من مختبراتها لا تُقاس بعدد صفحاتها، بل بعدد المصانع التي تبنّتها، وعدد الوظائف التي خلقتها، وعدد السياسات التي ساهمت في صياغتها. من تكنولوجيا النانو، إلى الزراعة الذكية، إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد، نجحت هذه المؤسسة في جعل الباحث شريكًا للدولة والسوق معًا، دون أن تُبتلع حريته الأكاديمية. وها هي ألمانيا اليوم تتربع على عرش الابتكار الصناعي، ليس فقط لأنها تصنع، بل لأنها تعرف كيف تحوّل المعرفة إلى اقتصاد.
الدرس من هذه التجارب عميق وبسيط في آنٍ معًا: حين تؤمن الدولة بأن البحث العلمي ليس نشاطًا نخبوياً بل مصلحة وطنية، فإنها توفّر له الأرض، والمال، والحرية، وتربطه بحاجة المجتمع لا برفاهية المؤسسات. عندها فقط، تتحول المختبرات إلى قاطرات نهضة، والعقول إلى أعمدة للجسور التي تعبر بالأمم من الضياع إلى السيادة.
رؤية مستقبلية:
كيف يمكن بناء منظومة متكاملة من البحث إلى التنفيذ؟
في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة التحولات، وتضيق فيه الفجوة بين الممكن والمستحيل، لم يعد البحث العلمي رفاهية فكرية، بل صار أداة بقاء، وشريان حياة، ومفتاحًا لمستقبل لا ينتظر المترددين. غير أن المشكلة الكبرى لا تكمن في غياب العقول أو نضوب الأفكار، بل في ضياع الطريق ما بين المختبرات وبين الحياة الواقعية. فالابتكار لا يعيش في قوارير زجاجية، بل يُولد هناك فقط، ثم يحتاج إلى بيئة تتلقفه، ترعاه، تنقله من ضوء المجهريات إلى أضواء المصانع والأسواق والسياسات. وهنا يبرز التحدي الأكبر: كيف نبني منظومة متكاملة، متراصة، متناغمة، تُحوّل البحث إلى منتج، والفكرة إلى سياسة، والعقل إلى قوة إنتاج لا مجرد مصدر للإعجاب أو التقدير.
البداية تكون برسم خارطة واضحة للمنظومة، عمادها الأول الإرادة السياسية الواعية التي ترى في العلم لا مجرد رتوش لهيبة الدولة، بل محركًا استراتيجيًا لنهضتها. هذه الإرادة ينبغي أن تترجم إلى بنى مؤسسية مرنة، لا تخنق الباحثين بالبيروقراطية، بل تمنحهم مساحة للتجريب، وتربطهم مباشرة بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج إلى ابتكاراتهم. في قلب هذه المنظومة لا بد من إنشاء مجالس بحث وطنية، تجمع تحت سقف واحد ممثلين من القطاع الأكاديمي، والحكومي، والخاص، والمجتمع المدني، وتقوم بدور الوسيط والمحفّز، فتربط الحاجة بالمخترِع، والتمويل بالفكرة، والتطبيق بالرؤية.
هذه المنظومة تحتاج أيضًا إلى إعادة تعريف العلاقة بين الجامعات والقطاع الخاص. لم تعد الجامعة مجرد معبد للمعرفة النظرية، بل ينبغي أن تكون مختبرًا حيًا لحلول المجتمع. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لعب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) دورًا رياديًا ليس فقط في إنتاج المعرفة، بل في تحويلها إلى شركات ناشئة ضخمة. داخل حرم هذا المعهد، يمكن لطلاب الدراسات العليا أن يؤسسوا شركة ناشئة، بتمويل داخلي، وتوجيه قانوني، وتدريب على ريادة الأعمال، وكل ذلك في منظومة تشريعية تحمي حقوقهم الفكرية وتفتح لهم أبواب السوق.
لكن لبناء هذا الجسر من المختبر إلى السوق، نحتاج إلى أطراف تمشي عليه بثقة. هنا يأتي دور الحاضنات التكنولوجية، التي لا تكتفي بتقديم الدعم المالي، بل توفر التدريب، والتسويق، وربط المبتكرين بالمستثمرين. في دولة مثل فنلندا، تحوّلت الحاضنات إلى شرايين حيوية تغذي الاقتصاد بأفكار قابلة للنمو. شركة “نوكيا”، رغم ما مرت به من إخفاقات لاحقًا، بدأت كابتكار بسيط في بيئة داعمة، ونمت لأنها وُضعت في مناخ يحترم الزمن، ويستثمر في الفشل كما في النجاح.
ولأن السياسات تسبق التنفيذ، فلا بد من تشريعات واضحة لحماية الملكية الفكرية، وتشجيع الابتكار المحلي، وفرض نسبة إلزامية من ميزانيات الشركات الكبرى لدعم البحث العلمي التطبيقي. مثل هذه السياسات، حين تُصاغ بوعي وبمنهج استشرافي، لا تفتح الطريق فقط أمام الباحثين، بل تصنع مناخًا وطنيًا من الثقة في قدرة العقول المحلية.
وأخيرًا، فإن أي منظومة متكاملة من البحث إلى التنفيذ لا تكتمل إلا إذا زرعت حب الاستكشاف في نفوس الناشئة. التعليم المدرسي لا يجب أن يلقّن، بل يُثير الفضول، ويمنح الطفل أدوات طرح السؤال قبل تلقين الإجابة. هكذا فقط يمكن أن نصنع أجيالًا لا تكتفي بتلقي التكنولوجيا، بل تسهم في صنعها، وترى في المختبرات مساحات للثورة، لا للروتين.
إنها منظومة لا تُبنى في عام ولا على يد جهة واحدة، لكنها تبدأ بإيمان صادق بأن العقل البشري ثروة، وبأن الفكرة حين تجد طريقها إلى الواقع، يمكن أن تغير مصير أمة بأكملها.
أهمية تربية جيل من العلماء ورواد الأعمال قادر على الربط بين الفكرة والتنفيذ.
في قلب كل أمةٍ تتطلع للنهوض، لا بد من استثمار طويل الأمد، لا يُقاس بالآلات أو البنى التحتية، بل يُبنى في العقول، ويزدهر في الأرواح. الحديث عن المستقبل لا يكتمل دون أن نضع في صلبه “الإنسان المفكر”، ذلك الذي لا يكتفي بأن يحلم، بل يُتقن تحويل الحلم إلى مشروع، والفكرة إلى واقع. ومن هنا تبرز الأهمية الحاسمة لتربية جيل من العلماء ورواد الأعمال، جيل لا يعرف الفصل بين النظرية والتطبيق، ولا يعيش في عزلةٍ أكاديمية، بل يرى في كل معضلةٍ فرصة، وفي كل تحدٍّ بذرة حل.
إن تربية هذا الجيل لا تبدأ في المعامل ولا تنتهي في قاعات المحاضرات، بل تُزرع منذ الطفولة، حين يُمنح الطفل فضاءً للخيال، وحرية للخطأ، وتقديرًا للمحاولة. حين يُسأل “لماذا؟” لا ليُجاب، بل ليُفكر. هناك، في تلك اللحظات البسيطة، تبدأ ملامح العالِم الحقيقي، لا ذاك الذي يردد ما حُفظ، بل الذي يعيد النظر فيما يُسلَّم به. التعليم التقليدي الذي يحشو العقول بالمعلومات دون أن يُدرّبها على استخدام الأدوات، يُنبت تابعين لا مبتكرين. أما حين يُمزج التعليم بالبحث، والفكر بالممارسة، فإننا لا نُعلّم أبناءنا كيف يجيبون، بل كيف يسألون.
غير أن السؤال وحده لا يكفي. فلا بد أن يُرافقه وعي اقتصادي، وجرأة ريادية، وشجاعة في اقتحام السوق. لذلك لا يمكننا فصل العلماء عن رواد الأعمال. في هذا العصر، العالِم الذي لا يعرف كيف يُسوّق ابتكاره، أو يديره كمنتج، قد يُدفن إبداعه في الأدراج. والعكس صحيح: رائد الأعمال الذي لا يُقدّر قيمة العلم ولا يسعى إلى بناء أفكاره على أسس معرفية راسخة، قد يغرق في سطحية المشاريع السريعة. من هنا، لا بد أن يُربّى جيل “هجين”، عالِمٌ ريادي، ورائد أعمالٍ مثقف علميًا، يُجيد لغة المختبر كما يُجيد لغة السوق.
تجربة سنغافورة في هذا السياق جديرة بالتأمل. فقد استثمرت الدولة بشكل ممنهج في تعليم العلوم والهندسة، لكنها لم تكتفِ بذلك. أنشأت برامج تعليمية تدمج الابتكار وريادة الأعمال في مناهج المرحلة الثانوية والجامعية. بل وذهبت أبعد من ذلك، فوفرت حوافز للمشاريع التي تنشأ عن أفكار بحثية، حتى لو كانت لا تزال في مراحلها المبكرة. النتيجة؟ تحوّلت سنغافورة إلى واحة للابتكار في آسيا، رغم افتقارها للموارد الطبيعية.
ومثال آخر يمكن رؤيته في تجربة إسرائيل في قطاع التكنولوجيا. فهي لم تكتفِ بتأسيس مراكز بحث، بل شجعت شبابها على الدخول في شراكات مع القطاع الخاص، وأتاحت لهم آليات واضحة لحماية حقوق الملكية الفكرية، وتحويل براءات الاختراع إلى شركات ناشئة مدعومة مالياً وقانونياً. النتيجة لم تكن فقط شركات تقنية ناجحة، بل ثقافة مجتمعية كاملة تحتفي بالفشل كجزء من الطريق، وتؤمن بأن كل عثرة هي خطوة نحو الإتقان.
بناء جيل كهذا يتطلب تغييرًا في الفلسفة لا في المناهج فقط. يحتاج إلى معلمين يؤمنون بالأسئلة أكثر من الأجوبة، وإلى مدارس تُشجع التجريب بدلًا من الحفظ. إلى جامعات ترى نفسها مصانع للأمل، لا مجرد منصات للتخرج. ويحتاج، قبل كل شيء، إلى مجتمع يُقدّر العالِم كما يُقدّر الرياضي، ويحتفي برائد الأعمال كما يحتفي بالفنان، لأن النهضة لا تأتي بلون واحد، بل حين تتناغم الألوان لتشكل لوحة وطنية ناطقة بالحياة.
تحييد الكفاءات ليس مجرد صدفة، بل نتيجة بنية منهجية تعيش على الخوف من التغيير والتهديد بالمحاسبة. العالم أو المفكر الصادق، عادة ما يكون “مزعجًا” في بيئات تقوم على التملق أو الحفاظ على الوضع القائم.
في المجتمعات التي تتكئ على الركود كأنَّه فضيلة، وتخشى النور لأنه يفضح العفن، يصبح تحييد الكفاءات ليس انحرافًا عرضيًا أو خطأً إداريًا، بل ممارسة ممنهجة تستبطنها الثقافة العامة وتُمارسها الأنظمة بصمتٍ بليغ. هي بنية خفية لكنها متماسكة، مصمَّمة لا لحماية المصلحة العامة، بل لضمان بقاء مراكز النفوذ على ما هي عليه، محصنة من أي زعزعة قد تأتي من عقلٍ جريء، أو ضميرٍ حي، أو فكرةٍ خارجة عن القطيع.
فالعالِم الحقيقي، أو المفكر الحر، أو الرائد المبدع، لا يقف على أبواب المسؤولين طالبًا الإذن، بل يطرق جدران الصمت بأسئلته، وينكأ الجروح المستترة بتحليله، ويرفض التواطؤ مع ما يُسمى “بالمألوف”. وهذا، في بيئة تقوم على التملق وتسير بمنطق “لا تُحرج أحدًا”، يُعد تهديدًا وجوديًا. من هنا تبدأ عملية “الإقصاء الناعم”؛ لا بالسجن أو القمع المباشر، بل بالإغراق في الروتين، أو التهميش في لجان شكلية، أو منحه لقبًا فخريًا فارغًا من أي صلاحية حقيقية، أو “ترقيته” إلى موقع بلا نفوذ، حيث يُعزل خلف الأضواء.
وتستمر المسرحية: يُحتفى بالشكل، ويُدفن الجوهر. تُكرَّم الكفاءات في المؤتمرات، بينما تُعاق في التنفيذ. تُنشر صورهم في الصحف، لكن تُسحب منهم القرارات. وبهذه الطريقة، يُخدَر الضمير العام وتُوهم الشعوب أن الأمور بخير، بينما الحقيقة أن طاقات الأمم تُستنزف في لعبة الكراسي، لا في سباق التقدم.
إن أخطر ما في هذا الواقع، أنه لا يكتفي بقتل الطموح، بل يُعيد تشكيل القيم في وعي الأجيال. فحين يرى الشاب أن الولاء يسبق الكفاءة، وأن التزلف يفتح الأبواب أكثر من التفكير، وأن العقول الجادة تُحاصر بينما تُفتح المنابر للسطحيين، يبدأ هو الآخر بإعادة النظر في خياراته: لماذا أتعب نفسي في الابتكار، إن كانت النتيجة “ترقية إلى العدم”؟ لماذا أكون صادقًا، إن كان الصادقون مُهمَّشين؟ وهكذا، لا نخسر العالِم وحده، بل نخسر عشرات الشُعَل التي كان من الممكن أن تضيء الطريق بعده.
المعادلة خطيرة. فكل فكرة مُغيّبة تعني حلاً مؤجلًا، وكل كفاءة مُحاصرة تعني مشروعًا لم يُولد، وكل عقلٍ مهاجر هو ضوء انسحب من سماء الوطن. ولذلك، فإن بناء مستقبل حقيقي لا يبدأ فقط بالاستثمار في البنية التحتية، بل بإعادة الاعتبار إلى القيمة الحقيقية للكفاءة، وتفكيك منظومة الولاءات العمياء، وإحلال ثقافة تقوم على الشفافية والمساءلة، لا على الوجاهة وتبادل المصالح.
نعم، التغيير صعب، والمفكرون مزعجون. لكن الأمم التي تخشى الإزعاج لا تُنتج الحضارة، بل تُراكم الغبار على جدرانها حتى تنهار بصمت. أما التي تؤمن أن كل فكرة صادقة – مهما كانت جارحة – هي بداية ولادة، فإنها تعرف كيف تفرّق بين من يهددها ومن ينقذها، بين من يُجاملها وبين من يُنقّب عن جوهرها، بين من يُصفق للوهم، ومن يُقاتل من أجل الحقيقة.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.