رأى

لماذا لا تُحقق مصر الاكتفاء الذاتي من القمح رغم الإنتاج القياسي؟

بقلم: أ.د.محمد علي فهيم

رئيس مركز معلومات تغير المناخ بمركز البحوث الزراعية

يُعد القمح مادة أساسية لتغذية ثلاثة مليارات شخص حول العالم، لا سيما في الدول النامية التي تُعتبر المستورد الأكبر له عالميًا، مما يجعله سلاحًا استراتيجيًا بالغ الأهمية. كما أنه يُعد المنتج الزراعي والغذائي الأكثر تبادلًا في الأسواق العالمية، حيث يشكل ثلث المبيعات العالمية.

وتتصدر خمس دول إنتاج القمح عالميًا، وهي: الهند، الصين، روسيا، الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، حيث تساهم بأكثر من نصف الإنتاج العالمي. ويُلاحظ أن العامل المشترك بين هذه الدول المنتجة والمصدرة هو اعتمادها على الأمطار في زراعة القمح، إضافة إلى المساحات الشاسعة من الأراضي المزروعة به. فعلى سبيل المثال، تُزرع في الصين أكثر من 350 مليون فدان بالقمح، وفي الهند نحو 300 مليون فدان، بينما تبلغ المساحة المزروعة في روسيا حوالي 230 مليون فدان. ومن اللافت أن تكلفة إنتاج الطن في هذه الدول لا تتجاوز (100 دولار).

وفي مصر…

في الثمانينيات وما قبلها، لم تتعدَّ إنتاجية فدان القمح 5 أردب، بينما ارتفعت في التسعينيات إلى ما بين 8 و10 أردب. ومع مرور السنوات، تضاعفت الغلة لتتجاوز 20 أردب كمتوسط عام على مستوى الجمهورية، بل إن بعض المزارعين تمكنوا من تحقيق أكثر من 25 أردب للفدان.

بعملية حسابية بسيطة، يتضح أن زيادة إنتاج القمح بفضل زراعة الأصناف المحسنة على مساحة تفوق 3 ملايين فدان، أسفرت عن إضافة أكثر من 50 مليون أردب (حوالي 8 ملايين طن قمح)، تُقدَّر قيمتها المالية بأكثر من 120 مليار جنيه سنويًا. ويعود الفضل في ذلك إلى مركز البحوث الزراعية، الذي استنبط أصنافًا محسنة مقاومة للأصداء الثلاثة (أمراض كانت تؤدي إلى خسارة تصل إلى 50% من المحصول خلال سنوات الأوبئة)، فضلًا عن مقاومتها للرقاد، الذي كان يتسبب في فقدان 20-30% من المحصول.

إضافة إلى ذلك، فإن تقليص دورة حياة القمح إلى 150-155 يومًا أسهم في تحقيق وفورات كبيرة، حيث إن توفير شهر من دورة الزراعة يعني تقليل الإيجار بمعدل لا يقل عن 1000 جنيه للفدان، أي ما يعادل 4 مليارات جنيه سنويًا. وإذا تم حساب هذا الرقم على مدى سنوات طويلة، يتضح حجم الفوائد الاقتصادية.

تحية تقدير وامتنان للباحثين والعلماء الذين أسهموا في زيادة إنتاجية القمح، رحم الله من رحل منهم وبارك في عمر من لا يزال يواصل العطاء.

ولكن، لماذا لم نحقق الاكتفاء الذاتي من القمح؟

هذا السؤال يتكرر كثيرًا، والإجابة تكمن في أن مصر تُعد من كبار المستوردين لمحاصيل أساسية مثل القمح، الذرة، وفول الصويا. ورغم أن مصر تنتج ملايين الأطنان من هذه المحاصيل سنويًا، وبأعلى معدلات الإنتاجية العالمية لوحدة المساحة، إلا أن هذه الكميات لا تغطي الاحتياج المحلي بسبب ضخامة الاستهلاك، حيث يتجاوز 20 مليون طن من القمح سنويًا، إضافة إلى أكثر من 150 مليون طن من المنتجات الغذائية الأخرى. ويُعزى ذلك إلى أنماط استهلاكية غير صحية وغير متوازنة، فضلًا عن محدودية الموارد المائية، حيث انخفض نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 400 متر مكعب سنويًا.

ما الحل؟ هل يمكننا التوسع في زراعة الصحراء؟

المشكلة الأساسية في زراعة الصحراء ليست فقط التكلفة الاستثمارية العالية، وإنما أيضًا محدودية المياه. فمصر تُصنَّف ضمن الدول الجافة، حيث لا تتجاوز معدلات سقوط الأمطار 100-150 ملم سنويًا في مناطق محددة، وهي نسبة ضئيلة مقارنةً بالدول التي نستورد منها القمح. فعلى سبيل المثال، تتلقى المناطق الزراعية في روسيا وأوكرانيا حوالي 1000 ملم سنويًا، بينما تصل في فرنسا إلى 1500 ملم، أي أن كل متر مربع يستقبل نحو طن من المياه سنويًا، في حين أن الفدان المزروع بالقمح في مصر يحتاج إلى 2500 متر مكعب خلال الموسم.

ومع ذلك، فإن مصر تحقق اكتفاءً ذاتيًا بنسبة 120% في الخضر والفاكهة، حيث تُصدر أكثر من 8.6 مليون طن من المنتجات الزراعية الطازجة، وحوالي 2.5 مليون طن من الصناعات الغذائية بقيمة تصل إلى 225 مليار جنيه (10 مليارات دولار). وهنا يبرز تساؤل آخر: لماذا نصدر بينما نستورد القمح؟

الجواب يكمن في مفهوم “الاكتفاء الذاتي النسبي”.

رغم أن مصر تتصدر عالميًا في إنتاجية الفدان من القمح، الأرز، والذرة، إلا أن تحقيق الاكتفاء الذاتي يتطلب زيادة المساحات المزروعة، وهو أمر غير واقعي، إذ لا يمكن زراعة 6 ملايين فدان بالقمح من إجمالي 10 ملايين فدان تمثل كامل الرقعة الزراعية في مصر، وإلا فأين ستُزرع بقية المحاصيل؟

كما أن مصر تصدر لنفس الدول التي تستورد منها، لكن بأضعاف قيمة المنتج المستورد. على سبيل المثال، يتم تصدير كيلو البطاطس بأكثر من 100 جنيه، بينما يُستورد كيلو القمح بـ 15 جنيهًا، رغم أن فدان القمح يُنتج 3 أطنان، بينما فدان البطاطس يُنتج أكثر من 15 طنًا، مما يعكس مفهوم استغلال الميزة التنافسية وفقًا لمبدأ الأمن الغذائي النسبي.

هل الحل في تقليل زراعة الخضر والفاكهة وزيادة زراعة القمح؟

طرح هذا الحل يواجه العديد من التحديات، أهمها أن تحرير الزراعة منذ أكثر من 40 عامًا جعل المزارعين يختارون المحاصيل التي تحقق لهم أعلى عائد اقتصادي. لذلك، لا يمكن فرض زراعة القمح أو الذرة عليهم، خاصة مع ارتفاع تكاليف الإنتاج.

لكن الدولة بدأت في اتخاذ خطوات لدعم المحاصيل الاستراتيجية عبر منظومة الزراعات التعاقدية، وتحديد أسعار ضمان مسبقة وربطها بالبورصات العالمية. ومع ذلك، يظل القرار النهائي بيد المزارع، الذي يحدد زراعته وفقًا لمصلحته الاقتصادية. لذا، فإن أي تدخلات يجب أن تركز على تحقيق الربحية للمزارع، لأنه ببساطة سيزرع ما يحقق له أعلى ربحية.

🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.

تابع الفلاح اليوم علي جوجل نيوز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى