قلة مربي النبات بالطرق التقليدية: أزمة عالمية تهدد الأمن الغذائي

بقلم: أ.د.خالد سالم
أستاذ بقسم البيوتكنولوجيا النباتية بمعهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات
في وقتٍ يتزايد فيه القلق بشأن مستقبل الغذاء في العالم، تبرز أزمة غير مرئية لدى كثير من صانعي القرار: الانخفاض المستمر في أعداد مربّي النبات بالطرق التقليدية، وهي فئة حيوية كانت تمثل لقرون الضمان الأساسي للتنوع الزراعي، واستدامة المحاصيل، واستقلالية الأمن الغذائي المحلي. ورغم التقدم التكنولوجي الهائل في مجال الزراعة، فإن هذا التراجع يثير أسئلة جدية حول مدى قدرة العالم على مواجهة تحديات الأمن الغذائي في العقود القادمة.
من هم مربو النبات التقليديون؟
هم المزارعون الذين يستخدمون طرقًا زراعية طبيعية ومحلية موروثة، تعتمد على التكيف مع البيئة والمناخ، واختيار البذور بعناية، وتدوير المحاصيل، وتخزين البذور، دون الاعتماد المفرط على الآلات أو المواد الكيميائية. وقد لعب هؤلاء دورًا محوريًا في الحفاظ على التنوع الوراثي للمحاصيل، وتطوير أصناف مقاومة للأمراض والجفاف.
المشهد العالمي: تحولات زراعية عميقة
دعونا نحلل كيف تبدو هذه الظاهرة في مناطق مختلفة من العالم:
أستراليا
في أستراليا، تتراجع الزراعة التقليدية تحت ضغط الزراعة الصناعية الموجهة نحو التصدير، والتي تعتمد على الميكنة الكاملة والمبيدات. ومع ارتفاع تكاليف الزراعة ونقص الدعم الحكومي للمزارعين التقليديين، يغادر العديد من صغار المزارعين أراضيهم. في مناطق مثل كوينزلاند ونيو ساوث ويلز، يُهدد هذا النزيف المعرفي بفقدان القدرة على التكيف مع تقلبات المناخ، خصوصًا في ظل الحرائق المتكررة والجفاف.
الولايات المتحدة
رغم التقدم الزراعي، تُعاني أمريكا من فقدان التنوع الزراعي بسبب الاعتماد على الزراعة الأحادية (Monoculture). المزارعون التقليديون في مجتمعات السكان الأصليين ما زالوا يحافظون على الزراعة المستدامة، لكن بأعداد تتناقص كل عام. برامج مثل “Seed Savers Exchange” تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البذور التقليدية، لكنها تواجه تحديات السوق وقوانين الملكية الفكرية للبذور المعدلة وراثيًا.
أوروبا
في أوروبا الغربية، وخاصة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، يعاني المزارعون التقليديون من المنافسة الشديدة من الشركات الزراعية الكبرى وتراجع الدعم الريفي. إلا أن هناك عودة نسبية للزراعة التقليدية في بعض المناطق تحت مظلة الزراعة العضوية، لكنها محدودة وموجهة بشكل أساسي لأسواق النخبة. في شرق أوروبا، لا تزال بعض أنماط الزراعة التقليدية قائمة في رومانيا وأوكرانيا، لكنها مهددة بالفقر والنزوح السكاني.
أمريكا اللاتينية (البرازيل، بيرو، بوليفيا)
رغم كون هذه الدول غنية بالتنوع البيولوجي، فإن الزراعة التقليدية تتراجع أمام زحف زراعة فول الصويا وقصب السكر لأغراض التصدير. في جبال الأنديز، يحاول مزارعو الكينوا والبطاطا الأصلية الحفاظ على تقاليدهم الزراعية، لكنهم يواجهون ضغوطًا من المستثمرين وسلاسل الإمداد العالمية. الأنظمة الزراعية القديمة مثل “تشاكاناس” مهددة بالاندثار.
الصين
في الصين، شهدت العقود الأخيرة تحولاً جذريًا من الزراعة التقليدية إلى الزراعة الصناعية، بدعم حكومي هائل. ومع ذلك، بدأت الدولة مؤخرًا تدرك مخاطر هذا التحول، وبدأت في تمويل مبادرات لحماية البذور المحلية وتعزيز الأمن الغذائي الداخلي، خاصة بعد جائحة كوفيد-19 التي كشفت هشاشة بعض سلاسل التوريد.
الهند
الهند من أكثر الدول التي ما زال فيها مربو النبات التقليديون يلعبون دورًا كبيرًا. غير أن المزارعين يواجهون تحديات خطيرة مثل الديون، وتقلص الأراضي، وتغير المناخ. المبادرات الشعبية مثل “Navdanya” بقيادة العالمة فاندانا شيفا تسعى لحماية الزراعة التقليدية، لكنها تصطدم بواقع اقتصادي قاسٍ تدفع فيه الحكومة باتجاه الزراعة التجارية.
إفريقيا جنوب الصحراء
رغم أن الزراعة التقليدية لا تزال تمثل العمود الفقري للإنتاج الغذائي في كثير من الدول مثل إثيوبيا وكينيا ونيجيريا، إلا أن هذه الممارسات مهددة بتغير المناخ والنزاعات وتدخل الشركات الأجنبية. هناك جهود منظمات غير حكومية دولية ومحلية لدعم الزراعة التقليدية، لكنها تعاني من ضعف التمويل وانعدام الاستقرار السياسي.
التداعيات الخطيرة على الأمن الغذائي
تراجع مربّي النبات بالطرق التقليدية يهدد أربعة أركان رئيسية للأمن الغذائي العالمي:
التنوع البيولوجي الزراعي
فقدان الأصناف المحلية يعني اعتمادًا أكبر على عدد محدود من المحاصيل، ما يعرّض النظام الغذائي العالمي للصدمات.
المرونة المناخية
الممارسات التقليدية أثبتت فعاليتها في مواجهة الجفاف والفيضانات، وفقدانها يجعل المحاصيل أقل قدرة على التكيف.
السيادة الغذائية
البلدان تفقد القدرة على التحكم في أنظمتها الغذائية لصالح شركات عالمية تسيطر على البذور والأسمدة.
استدامة التربة والمياه
الأساليب الصناعية تستنزف التربة وتلوث المياه، بينما الممارسات التقليدية تحافظ على التوازن البيئي.
ما الذي يمكن فعله؟
أمام هذه الأزمة، يحتاج العالم إلى رؤية شاملة تدمج بين التكنولوجيا الحديثة والمعرفة التقليدية، عبر:
-
إنشاء بنوك بذور محلية لحماية الأصناف التقليدية.
-
تمويل المزارعين التقليديين بمشاريع صغيرة ومستدامة.
-
تشجيع الزراعة المجتمعية والحضرية بطرق بيئية.
-
حماية حقوق المزارعين في استخدام وتبادل البذور.
-
دمج المناهج الزراعية التقليدية في التعليم والبحوث.
خاتمة: فرصة في قلب الأزمة
رغم الصورة القاتمة، لا تزال هناك فرصة حقيقية لعكس هذا الاتجاه. مربو النبات التقليديون ليسوا بقايا من الماضي، بل هم جزء لا يتجزأ من الحل لمستقبل غذائي أكثر عدلاً واستدامة. دعمهم وتمكينهم لا يعني رفض الحداثة، بل يعني الدمج الذكي بين حكمة الأجداد وأدوات الحاضر.
🔹 تابعونا على قناة الفلاح اليوم لمزيد من الأخبار والتقارير الزراعية.
🔹 لمتابعة آخر المستجدات، زوروا صفحة الفلاح اليوم على فيسبوك.



